السريانية الكنسية الموسيقا
(الجزء
السادس
والعشرون)
جدل كنسي
حول استعمال الآلات الموسيقية (3)
شعانين الاسلام
نتابع
في
مقالنا هذا مناقشة استعمال الآلات الإيقاعية
في استقبال رسول الاسلام في يثرب تتمة لما سبق، وسأسهب في
شرح
مراسيم الاستقبال لتوضيح عملية التقليد الذي وقعت والاقتباسات التي ألحقت
على الحادثة كمعلومات إضافية بالرغم من عدم علاقتها بموضوع مقالنا الاساسي.
وسنعالج هذا الموضوع من خلال مناقشتنا لرأي شخص
سرياني نشر مقالة عن الموسيقى السريانية محشوة بافكار سياسية على حساب علم
الموسيقا. حيث كتب يقول بتصرف: "إن عادة إستعمال الإيقاعات في
المناسبات الدينية تعود إلى ما قبل التاريخ، واستمرت في حوادث استقبال قادة
وأنبياء اليهود بالدفوف، واستقبال السيد المسيح في الشعانين، واستقبال
النبي محمد في يثرب عند هجرته إليها".
القسم
الرابع: شعانين الاسلام
او
يوم طلع البدر علينا
لقد أخطأ الشخص السرياني المذكور حول "استعمال الآلات الموسيقية المتجلية
بالدفوف في
استقبال رسول الاسلام محمد في يثرب" عندما لم يتحقق
من صحتها ولم يقدم
مصادر موثوقة لدعمها. فما دَّوَنَهُ
وَردَ عند بعض كتاب عصرنا من العرب الذين تفننوا في الكتابة كما تشتهي
انفسهم لخلق عيد إسلامي مماثلاً لعيد مسيحي، صانعين من حادثة استقبال رسول
الإسلام محمد في المدينة المنورة عيد شعانين إسلامي على غرار عيد الشعانين
المسيحي.
لهذا سأعرّف بالشعانين المسيحية أولاً ثم
سأعرض ما كَتَبَتهُ أهم التواريخ العربية عن حادثة الهجرة النبوية الى
المدينة لمعرفة الحقيقة، ثم سأعرض رأي عربي معاصر يتناول الحادثة وهو الرأي
الذي اقتبس عنه كاتب المقالة فكرته لمناقشته لما يحويه من أحداث ألفقت
لاحقاً على قصة الهجرة النبوية، وبسبب أن هذا الرأي يعكس آراء الكثيرون من
مسلمي عصرنا.
تعريف
بالشعانين
كانت العادة قائمة لدى اليهود في استقبال ملوكهم في العصر التوراتي بخروج
الشعب الى خارج المدينة، والنساء يضربن بالدفوف والمثلثات، وبالغناء والرقص
والفرح والهتافات مرددين: "اوشعنا اوشعنا"، التي كانت تستعمل
كنداء خلاص واستغاثة لدى الشعب اليهودي.
وطبقاً لما ورد من نبوءات في العهد القديم،
دخل السيد المسيح الى مدينة اورشليم
راكباً جحش بن آتان متمماً تلك النبوءات، فخرجت الجموع للقائه فاستقبلوه
بالدفوف وسعف النخيل واغصان الزيتون وفرشوا الارض ثيابهم (كالبساط الاحمر
في وقتنا) ليسير عليها، وسط هتاف الصبيان "أوشعنا اوشعنا لابن داؤد". ويقول
لوقا البشير في انجيله (19
: 38):
"مُبَارَكٌ الْمَلِكُ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ، سَلاَمٌ فِي السَّمَاءِ
وَمَجْدٌ فِي الأَعَالِي". فعيدت الكنسية لهذه المناسبة في يوم أحد قبل عيد
القيامة وتسمى بعيد الشعانين.
لكن الملاحظ بأنه قد تبدل معنى مقولة العهد القديم "اوشعنا اوشعنا" في
العهد الجديد فاصبح تسبيحاً وتبجيلاً ونداء فرح بالخلاص في استقبال المسيح
الملك. ودخلت الى طقوس الكنسية وهي متجلية بأناشيد عيد احد الشعانين.
الهجرة
الى المدينة
في سنة 622م خرج رسول الإسلام محمد من مكة بعد أن اضطر الى الهجرة مع فريق
من اتباعه قاصداً مدينة يثرب، ليصل إليها بعد حين فخرج البعض من انصاره من
أهل يثرب لإستقباله ورغبوا أن ينزل في بيوتهم فرفض ذلك الى أن جلست ناقته
في مكان كان بيتاّ لولدين يتمين فأختاره لسكناه ثم أقامه مسجداً.
وأما الرواية المتداولة اليوم بين العامة فتقول أن محمد خرج من مكة مع
مجموعة من المهاجرين قاصدين يثرب فاستقبله مجموعة الانصار على ابواب يثرب
مع نسائهم واطفالهم حاملين سعف النخيل، وكانت النساء تضربن بالدفوف،
والصبية ينشدون بشكل جماعي انشودة
"طلع
البدر علينا"، فدخل المدينة الى أن
جلست ناقته في مكان فأختاره لسكنه وأقامه مسجداً.
فأختار المسلمون هذا اليوم الذي سمي بيوم "طلع البدر علينا"
عيداً رسمياً يحتفلوا به سنوياً
والذي يصادف الاحتفال بيوم الهجرة النبوية او رأس السنة الهجرية الذي هو
بداية التقويم الهجري.
لكن
الطبري وابن أثير يرويان قصة الهجرة بشكل مخالف في التفاصيل لما هو متداول
اليوم.
فماذا كتبا ؟.
الرواية
بحسب الطبري
يقول
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المعرف
بالطبري والمتوفي سنة (923م) في كتابه "تاريخ الامم والملوك" والذي يسمى
ايضاً "تاريخ الطبري" طبعة دار الكتب العلمية بيروت المجلد الثاني الصفحة
(8):
"عن ابن اسحق، أن رسول الله ركب ناقته، وارخى لها الزمام، فجعلت لا تمر
بدار من دور الأنصار إلا دعاه أهلها الى النزول عندهم، وقالوا له يا رسول
الله الى العدد والعدة والمنعة، فيقول لهم خلوا زمامها فإنها مأمورة، حتى
انتهى الى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده، وهو يومئذ مربد لغلامين
يتيمين من بني النجار في حجر معاذ بن عفراء، يقال لأحدهما سهل وللآخر سهيل،
ابنا عمرو بن عباد ابن ثعلبة ابن غنم بن مالك بن نجار. فلما بركت لم ينزل
عنها رسول الله، ثم وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله واضع لها زمامها لا
يثنيها به، ثم التفتت خلفها، ثم رجعت الى مبركها أول مرة، فبركت فيه ووضعت
جرانها، ونزل عنها رسول الله، فاحتمل
ابو أيوب رحله، فوضعه في بيته، فدعته الأنصار الى النزول عليهم، فقال رسول
الله: المرء مع رحله. فنزل على ابي خالد بن كليب، في بني غَنم بن النجار.
قال ابو جعفر: وسأل رسول الله عن المربد لمن هو ؟ فأخبره معاذ بن عفراء،
وقال هو ليتمين لي، سأرضيهما. فأمر به رسول الله أن يبنى مسجداً، ونزل على
ابي ايوب، حتى بنى مسجده ومساكنه وقيل: إن رسول الله اشترى موضع مسجده، ثم
بناه". إنتهى الإقتباس.
الرواية بحسب ابن أثير
يقول
الإمام أبي الحسن علي بن عبدالواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري
والمشهور بابن الاثير والمتوفي سنة (1232م) في كتابه "الكامل في التاريخ"
طبعة دار الفكر بيروت المجلد الثاني صفحة (76 - 77):
" وكان رحل من قباء يريد المدينة فركب ناقته وأرخى زمامها فكان لا يمر بدار
من دور الانصار إلا قالوا: يا رسول الله الى العدد والعدة والمنعة فيقول:
خلوا سبيلها فإنها مأمورة حتى انتهى الى موضع مسجده اليوم فبركت على باب
مسجده وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين في حجر معاذ بن عفراء وهما سهل وسهيل
ابنا عمرو من بني النجار، فلما بركت لم ينزل عنها ثم وثبت فسارت غير بعيد
ورسول الله واضع لها زمامها لا يثنيها به، فالتفتت خلفها ثم رجعت الى
مبركها أول مرة فبركت فيه ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله واحتمل ابو
ايوب الانصاري رحله وسأل رسول الله عن المربد فقال معاذ بن عفراء هو
ليتيمين لي وسأرضيهما من ثمنه فأمر به رسول الله أن يبنب مسجداً وقام عند
ابي ايوب حتى بنى مسجده ومساكنه ......." إنتهى الإقتباس.
الرواية
الشائعة
كتب أحدهم في الإنترنيت قائلاً: "ففي 21 سبتمبر 622م (21/09/622)
صادف يوم طلع البدر علينا وهو وصول النبي محمد الى المدينة المنورة من مكة
في ما يعرف بالهجرة النبوية، وقد استُقبِل بفرح وبهجة وبضرب الدفوف وسعف
النخيل وغناء انشودة طلع البدر علينا من ثنيات الوداع لهذا سمي بيوم طلع
البدر علينا، ومثل هذا اليوم هو بداية التقويم الهجري".
وكتب آخر يقول: "طلع
البدر علينا أشهر أنشودة في تراثنا الإسلامي.. فقد استقبل بها الأنصار في
المدينة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم حين هاجر إليها عام 622م.
فبعد انتظاره لأيام أطل عليهم أخيراً من ثنية الوداع فانطلقن نحوه النساء
وهن يضربن بالدفوف والصبيان بأيديهم سعف النخيل وهم يرددون الانشودة بشكل
جماعي".
وهناك فريق يكفر الاحتفال بهذه المناسبة بإعتبارها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل
ضلالة في النار مثلها مثل الاحتفال برأس السنة الهجرية.
عن
انشودة طلع البدر علينا
معروف للجميع بأن الانشودة الإسلامية طلع البدر علينا هي انشودة قديمة ،
لكن لم تثَبّت عند أهل العلم والحديث
بالأسانيد
الصحيحة بأنها أنشدت في استقبال محمد في المدينة المنورة، إنما تعتمد بشكل
كبير على رواية
البيهقي الذي
توفي سنة (1092م) ناقلاً ومسجلاً ما ردده الأقدمون شفهياً، وهذه الرواية هي
الأكثر شيوعاً عند المسلمين، والتي تقول بأن القصيدة أنشدت بإستقبال
رسول الاسلام عند هجرته
الى
المدينة قادماً اليها من مكة
سنة (622م).
ولكن التاريخ الذي عاش فيه البهيقي وروايته حجة على هذه القضية وليست دليل
وإثبات لها، لأن الفارق بين البهيقي والهجرة هو 450 سنة تقريباً. والالباني
اضعف سند الرواية.
ويعتقد بأن هذه القصيدة أنشدت عند قدوم محمد من غزوة
تبوك كما
روى المحدث
الحافظ ابن حجر
العسقلاني المتوفي 1448م.
لكن مقطع من نصها يؤكد بأنها كتبت عن المدينة وليس عن تبوك فيقول:
أيها المبعوث فينا ...... جئت بالأمر المطاع
جئت شرّفت المدينة ...... مرحباً يا خير داع
والنتيجة المستخلصة هي أن الانشودة قد ألّفت بعد الهجرة ربما بسنوات او
بقرون أي
في العصور الإسلامية الأولى وألحقت على
حادثة الهجرة، وهي مجهولة المؤلف والتاريخ.
وأما اللحن المتداول لهذه الأنشودة وكما يغنى اليوم هو للموسيقار العظيم
المصري رياض السنباطي الذي توفي سنة (1981م).
نقاش
ونقد ومقارنة
لقد كتب أكثر المؤرخين ثقة لدى العرب الطبري وابن أثير في تاريخيهما عن
واقعة الهجرة بشكل مخالف عما هو متداول اليوم بين العرب والمسلمون، ولم
يكتبا مطلقاً عن نساء ضربن بدفوف ولا رجال او صبيان حملوا بأيديهم سعف نخيل
وغنوا النشيد المعروف "طلع البدر علينا" في مراسيم استقبال محمد في يثرب،
فكيف سنأخذ بروايات حديثة العهد لا تتطابق مع الحقيقة التاريخية
وقد
أُلِفَت تقليداً لحوادث واعياد يهودية ومسيحية. مثل عيد المولد النبوي
تقليداً لعيد ميلاد المسيح، والسنة الهجرية تقليداً للسنة الميلادية وغيرها
من الرموز الدينية الاخرى.
ويبدو أن أغلب كتاب اليوم من الذين كتبوا عن يوم طلع البدر علينا إما أنهم
يجهلون التاريح الاسلامي ولم يقرأوه بشكل صحيح او بعين حيادية، او أنهم
يعلمون جيداً بأن شعوبهم لا تقرأ إنما تعتمد على التلقين الروائي فكتبوا ما
أرادوا وما تشتهي أنفسهم محاولين إلفاق رواياتهم الى التاريخ او إضافتها
عليه لتصبح رواية حديثها ضعيف أولاً، وحسن ثانياً، وثالثاً صحيح ومع سند
تاريخي مخلوق حديثاً، ومستقبلاً وبعد اجيال عدم مناقشة هذه الرواية بسبب
صحتها.
إن هؤلاء الكتاب عملوا على خلق مناسبة اسلامية على غرار الشعانين المسيحية
بالرغم من أن الروايات التاريخية الصحيحة تقول غير ذلك.
فالتقليد الذي وقع وهو وجه الشبه بين رواية يوم طلع البدر علينا الحديثة
ورواية الشعانين المسيحية هو:
1- دخول محمد الى يثرب بعد هجرته من مكة، هو تقليد لعملية دخول المسيح الى
اورشليم. وإن لم يكن في البدء تقليداً مقصوداً لأن الهجرة كانت إضطرارية،
لكن بعد قرون مديدة من الحادثة جرى استغلالها لصنع رواية شعانين اسلامية.
2- خروج الانصار لخارج يثرب لإقامة احتفال في إستقبال محمد، هو تقليد لخروج
الجموع لخارج اورشليم لإقامة إحتفال في إستقبال المسيح.
3- ركوب محمد على ظهر ناقة، هو تقليد لركوب المسيح على جحش.
إن ركوب المسيح على ظهر جحش بن آتان كان لإبراز حالة التواضع، بينما اليهود
كانوا ينتظرون دخوله بموكب ملكي على الاحصنة وترافقه جيوش. أما محمد كان قد
دخل راكباً الجمل لأنه الوسيلة الوحيد في التنقل بالصحارى. لكن كتاب اليوم
ادخلوه بموكب ملكي لإبراز أهميته لدى أنصاره.
4- ضرب نساء الانصار بالدفوف في استقبال محمد في المدينة، هو تقليد لضرب
النساء العبرانيات بالدفوف في استقبال المسيح في اورشليم، وهذه عادة يهودية
قديمة جداً في استقبال قاداتهم وملوكهم.
5- إن حمل الكبار والصبية سعف النخيل في استقبال محمد، هو تقليد للصبية
الحاملي سعف النخيل واغصان الزيتون في استقبال المسيح، فسعف النخيل ترمز
للظفر واغصان الزيتون ترمز للسلام. وطبعاً لا وجود لأشجار زيتون في الصحراء
لإتمام فصول المسرحية.
6- عملية غناء صبية الانصار انشودة (طلع البدر علينا) في استقبال محمد، هي
تقليد لهتافات جموع اليهود وخاصة صبيتهم (اوشعنا اوشعنا لابن داؤد) في
استقبال المسيح.
7- بسبب البيئة الصحراوية لم يتم فرش ثياب على الارض لجعلها تحت اقدام محمد
في دخوله الى يثرب، تقليداً لفرش الثياب على الارض لجعلها تحت اقدام المسيح
في دخوله الى اورشليم، وهنا المشهد لم يكتمل.
8- إن تسمية الواقعة "بيوم طلع البدر علينا" كان بسبب غناء طلع البدر علينا
في استقبال محمد في يثرب، هو تقليد لتسمية واقعة "أحد الشعانين" بسبب غناء
اوشعنا اوشعنا لابن داؤد في إستقبال المسيح.
9- تنشد
قصيدة "طلع البدر علينا" في الكثير من المناسبات الدينية الاسلامية خاصة في
يوم طلع البدر علينا او عيد رأس السنة الهجرية، تقليد لإنشاد "اوشعنا
اوشعنا لابن داؤد" في احد الشعانين.
كتب
وافلام ومسلسلات وصحافة الكترونية
إن المتداول في كتب الموسيقا العربية الحديثة من تواريخ في سرد بعض الحوادث
وما عرضته الافلام والمسلسلات التي تناولت السيرة المحمدية وما كتب بعشرات
المواقع الالكترونية، في إضفاء صورة تجميلية على استقبال رسول الإسلام في
يثرب، هو مخالف للحقيقة. كما أن محاولات خلق شعانين للإسلام على غرار
الشعانين المسيحية واليهودية بتقليد دخول محمد الى يثرب كما دخل المسيح الى
اورشليم، هي محاولات حديثة العهد وفاشلة.
وأما
كاتب المقالة السرياني صاحب الكتابة أعلاه إذ اخطأ بقوله أن أهل المدينة
استقبلوا النبي محمد عند هجرته إليها بالدفوف، الذي نقله بدوره عن الكاتب
العربي الحديث الذي حاول جاهداً تأكيد صحة الرواية التي تقول ان
أنصار المدينة استقبلوا محمد وان نسائهم
كن يضربن بالدفوف وصبيانهم بأيديهم سعف النخيل وهم يرددون انشودة طلع
البدر، معتمداً على شهرتها الواسعة فقط ودون أن يقدم سند تاريخي
يثبت صحتها.
ورغم أن التاريخ الإسلامي مشهود له بالشعر والموسيقا، وقصور الخلفاء
والامراء مليئة بالغناء والموسيقا والرقص، إلا أنه يوجد مقابل لها فتاوى
كثيرة تحرم الفنون والموسيقا واستعمال الآلات الموسيقية. وهذا تنقاض ما
بعده تناقض.
الجزء السابع والعشرين
|