الموسيقا السريانية الكنسية
(الجزء
الخامس عشر)
خصائص إنشاد الألحان السريانية (3)
وبعد أن شرحنا مجموعة أخرى من خصائص إنشاد الألحان السريانية
الكنسية
في الجزئين السابقين من مقالنا ونستذكرهم بإختصار شديد:
1-
صوتية آ كابيللا، 2- نغمية ميلودية،
3- أحادية مونودية.
4-
التنغيم البسيط ، 5-
الطريقة الشعبية، 6-
الطريقة
القرائية.
7- الإنشاد بحكمة، 8-
المسكنة والتذلل والندامة، 9- الهدوء
والروحانية.
10- النغمة الخادمة،
11- التعبير والإحساس.
نتابع في جزئنا هذا شرح خصائص مهمة أخرى لتوضيح كيفية الإنشاد السرياني
لتلافي الأخطاء المستخدمة أثناء الآداء والتي أثّرت سلباً على طبيعة
ألحاننا السريانية الكنسية وحرّفت مسار طُرُق إنشادها وأخذت بعضها إلى
التطريب وبعضها الآخر إلى التغريب، فأدّت بقسم منها إلى التخريب.
12-
الإرتجال
سأسهب قليلاً في الشرح عن خاصية الإرتجال لما له من أهمية ولأن بسببه خلقت
إشاكاليات في ألحان في الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية تحولت عبر التاريخ
إلى
حقائق ومن بالغ الصعوبة تصحيحها عملياً.
تعريف
الإرتجال:
هو إنجاز عفوي ونوع من الإلهام والوحي يتم تنفيذه بشكل مباشر أثناء عرض
فكرة فنية ما من غير تصميم مسبق أو تدوين ما، يقوم به الشعراء أو المغنيين
أو الموسيقيين أو المسرحيين أثناء عروضهم الأدبية والموسيقية والفنية.
فالشاعر يؤديه مبارزاً
ومنافساً لغيره من الشعراء، والمسرحي يقوم به معبراً عن موقف ما أو عن حدث
طارئ وقع أثناء عرضه المسرحي، والمغني يقوم به آداءاً تجميلاً للحن الأساسي
الذي يؤديه، والعازف ينفذه كزخارف إضافية على آلته الموسيقية أثناء قيامه
بعزف مقطوعة موسيقية ما.
يختلف مفهوم الإرتجال في كل حضارة عما سواها، ففي الغرب يتجلّى في الموسيقا
الكلاسيكية الاوبرالية في فقرة "آداء حر" لإظهار مهارة المغنيين، وفي قالب
الكونشيرتو الموسيقي لإظهار مهارة العازف وحرفيته العالية في العزف.
أما في موسيقا الشرق فيتجلّى الإرتجال بشكل كبير في الموال عند المغنيين،
وفي التقاسيم الحرة عند العازفين، لإظهار مقدراتهم الصوتية والموسيقية
ولإيصال المتلقي إلى حالة النشوة الطربية.
الإرتجال في الموسيقا:
إن الإرتجال في الألحان هو الخروج عنها والعودة إليها ضمن أُطر وضوابط
موسيقية معينة، ويَعتَمد على الإمكانيات الموسيقية للمنشد المغني أو
العازف.
ففي الألحان التي كتبت بنوتة موسيقية لتعزف وتغنى وتحفظ يكون الإرتجال
محدوداً، وأما الألحان الغير مكتوبة بنوتة موسيقية ويُعتَمَد على الذاكرة
لحفظها ونقلها يكون للإرتجال فيها مساحات أوسع.
ويُقسَم الإرتجال موسيقياً إلى قسمين:
الإرتجال
في الألحان:
يتم من خلاله إضافات لحنية تجميلية على اللحن الأساسي، وهي من عنديات
المؤدي (عازف أو مغني) حيث يراها إضافات مناسبة لجوهر اللحن الذي يؤديه.
الإرتجال في الإنشاد:
وهو التصرف في طرق آداء الألحان والتعبير الصوتي وهو موضوعنا الذي نبحث
فيه.
ضوابط الإرتجال:
وللإرتجال ضوابط موسيقية كثيرة لمعرفة كيفية إستعماله، خاصة في المواضع
التي يحق للمنشد أو العازف التصرف فيها موسيقياً، وهي معايير معينة تختلف
بين الشرق والغرب لإختلاف موسيقاتهم.
فالموسيقا الشرقية تعطي حرية كبيرة للمغني في تصرفه بالألحان والإنشاد
والتعبير الصوتي، وللعازف في التقاسيم والزخرفة الموسيقية، لإضافة مساحات
جمالية أكثرعلى اللحن لكن ضمن ضوابط موسيقية شديدة.
فمن الضوابط المفروضة على إرتجال المغني أو المنشد الشرقي:
ألّا يخرج عن السلم الموسيقي الذي يؤدي فيه، وإن خرج فعليه معرفة كيفية
الإنتقال بين السلالم الموسيقية ثم العودة إلى السلم الرئيسي الذي هو
بصدده.
ألّا يمس في جوهر اللحن
ألّا يأخذ اللحن إلى مسالك بعيدة عن أهدافه
أن يضيف التصرف في الإنشاد جمالية أكثرعلى اللحن
أن يكون التصوير الصوتي حسناً ومناسباً لمعاني النصوص
أن تكون التغييرات في التكرارات ببعض المقاطع الغنائية مناسبة وجميلة وفيها
الجديد.
ويتسم الإرتجال في إنشاد الموسيقا الشرقية بالعذوبة والروحانية وبذوبان
المنشد باللحن وبمعاني النص، ويعتمد إعتماداً أساسياً على إمكانيات المنشد
في المغنى ومعرفته بالألحان وبطرق إنشادها، وعلى مقدرته الصوتية في الآداء،
وعلى مخزونه الفكري (الخبرة) في التعبير الصوتي، وبالتالي فهو يرتكز على
معرفته الموسيقية وذاكرته القوية في التصرّف بالألحان، وخير أمثلة واضحة
على ذلك هي عند المغنيين الشرقيين في إرتجالاتهم في المواويل وتصرفهم في
الأغاني، وعند المنشدين الدينيين في الكنائس والجوامع في أدائهم لأناشيدهم
الدينية وبقية صنوف ألحان صلواتهم.
الإرتجال في الكنيسة:
إن آداء الألحان في الكنيسة السريانية
غالباً ما يكون من ذاكرة المخزون الثقافي والموسيقي الكنسي للمنشد، لأن
الألحان هي متوارثة بكليتها ويعتمد إعتماداً كلياً على الذاكرة في حفظها
وتناقلها عبر الأجيال بوسطة:
1-
الإكليروس من خلال مراكز حفظها وتلقينها في الأديرة والإكليريكيات.
2-
الكهنة والشمامسة الغير متخرجون من الإكليريات من خلال تَعلّمِهِم لها في
مواظبتهم على حضور الكنيسة وإشتراكهم في جميع الصلوات اليومية والقداديس
والمناسبات الكنسية الأخرى، وإستمراريتهم في سماعها ومتابعتها متابعة خاصة
ونقلها للأجيال التي تليهم.
كانت ألحاننا الكنسية قبل سنوات قليلة غير مدونة بالنوتة الموسيقية، ولكن
اليوم يوجد كتاب نوتة للألحان الكنسية وهو كتاب (ܒܝܬ
ܓܙܐ
ܕܩܝܢ̈ܬܐ
ܕܥܕܬܐ
ܣܘܪܝܝܬܐ)
(مخزن ألحان الكنيسة السريانية الارثوذكسية) الذي صدر عام 1992، وكان
الموسيقار السرياني القدير "نوري اسكندر" قد قام بتنويطه، وهو متوفر لدى
المهتمين من أبناء شعبنا، وللأسف الشديد لا يُستَعمل أبداً هذا الكتاب في
كنائسنا لوجود نقص حاد في قرّاء النوتة الموسيقية، وعدم معرفة الكهنة
والشمامسة والشعب بقراءة النوتة الموسيقية، فلهذا يقوموا ولغاية الساعة في
الإعتماد على ذاكرتهم في الحفاظ على ألحاننا الكنسية ونقلها للأجيال
القادمة، والإرتجال من مخزونهم السمعي والثقافي في إنشادهم لها.
لدى
الكنيسة السريانية الاورثوذوكسية مشكلة حقيقة هي عدم وجود ضوابط أو قوانين
مصاغة للإرتجال، لهذا نلاحظ تسيّب كبير في الكنيسة في هذا الموضوع، لعدم
وجود مراكز ولا أساليب أو طرق لحفظ ألحانها سوى طريقة الحفظ الشفهي، فدخلت
خطأً على إنشادها الكنسي أساليب طربية وغربية بالرغم من تقاطعه معها.
فنسمع اليوم من الإنشاد الفردي الحر في الكنيسة السريانية وكأنه غناء
بالعربية أو التركية أو الكردية والفارسية، ومن الإنشاد الجماعي لجوقاتها
وكأنه إنشاد لجوقات كنسية اوروبية أو لجوقات شرقية غير كنسية.
ورأيي بأن هذه الإشكالية هي تاريخية استمرت وكبرت في عصرنا هذا نتيجة
التأثر الموسيقي للمنشدين بالمحيط الخارجي، وبسبب تطور التكنولوجيا التي
ألغت الكثير من الحدود والفوارق الخصوصية للموسيقات بشكل عام.
إن لكنيسة الروم (البيزنطية
الشرقية) تدوين موسيقي "نوتة موسيقية" خاص بها
وقديم جداً وهو معمول به لغاية اليوم، كما ورد في الجزء الثاني عشر من
مقالنا، لهذا فإن
الألحان البيزنطية لا تقبل الإرتجال في الألحان كثيراً ولا التصرف فيها إلا
في المواضع والحالات الخاصة، وكأن اللحن البيزنطي في إستعماله التدوين
الموسيقي البيزنطي وتطبيقه لقواعد
الإيصن والميلوس التي ذكرتها سابقاً
هو نص كتابي يقرأ بشكل واضح وبطريقة واحدة فقط.
وأما الإرتجال في الإنشاد
(إنشاد الألحان البيزنطية) فالباب ليس مفتوحاً له على مصراعيه، فواجب على
المنشد أن يتقيّد بالاسلوب البيزنطي العام بشكل أساسي، وأما كيفية التعبير
الصوتي عن معنى الكلمة تبقى على الخبرة والإمكانية الصوتية للمنشد.
ويختصر القول بأن الإرتجال في موسيقا الكنيسة البيزنطية بفرعيها
الاورثوذوكسي والكاثوليكي قليل للغاية، ومنضبط جداً لوجود قوانين موسيقية
صارمة فيها غير قابلة للمساومة والنقاش.
مساوئ الإرتجال عند السريان
إن للإرتجال والتصرف اللحني مساوئ أدت إلى نتائج سلبية على
الألحان السريانية الكنسية ومنها:
1-
إن الإرتجال في الألحان الكنسية الذي يقوم به
أغلب الكهنة والشمامسة بطريقة خاطئة أدى إلى أنهم غيروا بعض الشئ في هيكلية
بعض الألحان الكنسية
وفي كيفية غنائها. معتقدين بأنه إرتجال تجميلي، دون أن يتقيدوا بالقوانين
الموسيقية وكيفية الإرتجال وطرق آداء الألحان، فخلقوا بعض المشاكل
الموسيقية لعدم معرفتهم الجيدة بالألحان الكنسية وأصول الموسيقا ولا
التقليد الكنسي في الآداء المتوارث.
2-
إن التصرف في الألحان الكنسية من قبل المنشدين، أثر سلبياً وبشكل كبير على
ألحان الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية، وخلق اختلافات وفروقات كبيرة في طرق
الإنشاد بين المنشدين وفي آدائهم للألحان كنتيجة مباشرة لهذا التصرف غير
المنضبط.
3-
إن الإضطهادات والنكبات التي لحقت بالكنيسة أدت الى إضعافها وإغلاق مدارسها
وإلى إنخفاض حاد في مستوى التعليم، فقل عدد العارفين بالألحان.
وهؤلاء القلة من العارفين بالألحان قاموا بنقلها لغيرهم من المهتمين حسب
معرفتهم بها، إن كانت جيدة أو سيئة، بعد أن تأثروا بالموسيقات التي تحيط
بهم، فتكونت إختلافات طفيفة في الألحان وفروقات كبيرة في آدائها.
4-
إن إبتعاد الكنائس عن بعضها جغرافياً أدى إلى ظهور إختلافات في آداء
الألحان وطرق إنشادها نتيجة تأثر كل منها بمحيطها الموسيقي، وازدادت هذه
الاختلافات نتيجة للتصرف والإرتجال الذي قام به المنشدون من كهنة وشمامسة
دون ضوابط موسيقية في حفظ وآداء الألحان و طرق الإنشاد.
إن الاختلافات المعروفة في اساليب آداء الألحان الكنسية بين بعض المناطق
السريانية، برزت كنتيجة للأسباب السابقة، وهذا ضعف في الكنيسة لعدم
محافظتها على شكل واحد للألحان السريانية الكنسية خلال مسيرتها عبر
التاريخ.
إن الإختلافات التي حصلت خلال التطور التاريخي للكنيسة، مضافاً إليها
العزلة في آداء كل منطقة سريانية منفردة، أصبح لكل منها طابعاً موسيقياً
متميّزاً خاصاً بها، وأصبحت اليوم تسمى "اساليب" موسيقية، لكن وحسب رأيي أن
أساسها قائما على الخطأ في آداء ذات اللحن، لأن الأصل كان واحداً فتغيّر.
فمار افرام السرياني مثلاً عندما ألّف ولحّن أو حتى غيره من آباء الكنيسة
قطعة كنسية ما، لم ينشدوها بأساليب متعددة ومختلفة، بل بطريقة واحدة فقط،
فكيف أصبح لها ثلاثة أساليب لإنشادها.
كما أن التعابير أو التسميات الحديثة التي ظهرت مؤخراً على الساحة
السريانية مثل: "مدرسة ماردين للألحان السريانية أو لآدائها"، أو "مدرسة
الرها" أو "مدرسة الموصل" وغيرها التي أختفت أو في طريقها إلى الإختفاء، هي
عبارة عن مسميات خاطئة لأساليب الإنشاد الكنسي، حيث أنها ظهرت نتيجة
للأسباب السابقة واستُعِملَت من قبل بعض الموسيقيين الهواة لعدم درايتهم
الكافية بالإنشاد الكنسي بشكل صحيح.
إن عدم وجود مراكز موسيقية في الكنيسة السريانية أو معاهد خاصة تهتم في
حفظ الألحان الكنسية وتعليمها يساهم مساهمة كبيرة في تعميق مشكلة الفروقات
في الألحان وفي إنشادها، وثم في ضياع ألحاننا واساليب آدائها. وهذا إنذار
أرفعه لمسؤولي الكنسية ليعوا الدور الذي يلعبوه، ويهتموا بالقضية بشكل جدي،
ويؤسسوا معاهد تهتم بدراسات وحفظ الألحان الكنسية وكيفية تناقلها من جيل
إلى آخر بوسائل حضارية.
الجزء السادس عشر |