الموسيقا السريانية الكنسية
(الجزء
السادس عشر)
خصائص إنشاد الألحان السريانية (4)
ننهي دراستنا لخصائص الإنشاد بميزة عدم استعمال ضروب مرافقة لألحاننا
الكنسية. ولكن قبل ذلك لابد من تعريف بسيط عن الأوزان والضروب الموسيقية
للمعرفة العامة.
الوزن الموسيقي
الوزن الموسيقي (أو الميزان) هو عبارة عن رقمين يعلو أحدهما الآخر (مثل
ارقام الكسور) يوضعان في بداية سلم النوتة الموسيقية بعد المفتاح الموسيقي
وبعد علامات التحويل مباشرة، ويشرحه الباحث الموسيقي سليم الحلو في كتابه
"الموسيقا النظرية" بقوله: " الرقم الأسفل يدل على الوحدة الزمنية الكاملة،
والرقم الأعلى يدل على عدد النوتات التي تحتويها كل مازورة من القطعة
الموسيقية".
وهناك أوزان
ثنائية مثل الوزن البسيط، وثلاثية مثل الوزن المركّب، ومركّبة مثل البسيط
الأعرج والمركّب الأعرج.
ومشرقنا الحبيب يحوي جميع أنواع الأوزان الموسيقية ولكنه يشتهر بالأوزان
المركّبة العرجاء.
الإيقاع أو الضرب
هو تتابع عدد من الضربات والنقرات التي تختلف فيما بينها من حيث الترتيب
والقوة والضعف، فتشكل نظاماً مستقلاً يسير اللحن عليه.
ويقوم الضرب بتحديد مناطق الضعف والقوة في الأزمنة الموسيقية التي تحتوي
عليها المساحة الزمنية تبعاً لنوع الوزن الموسيقي التي تنتسب إليه.
والإيقاعات ثلاثة أنواع هي: العادية، والمتداخلة، والشاذة. والعالم يعج
بالإيقاعات بحيث أنها لا تحصى، فكل منطقة جغرافية كبيرة لها إيقاعاتها
الخاصة بها متعلقة بذوقها العام وتميّزها مع موسيقاها عن إيقاعات وموسيقات
مناطق جغرافية أخرى.
13- خاصيّة عدم وجود إيقاعات مرافقة في
ألحاننا
الكنسية
إن
إحدى أهم خواص إنشاد ألحاننا السريانية الكنسية هي عدم إستعمال إيقاعات
موسيقية مرافقة لها أثناء القيام بإنشادها، حتى في أنواع الصلوات التي تبرز
فيها الروح الإيقاعية بشكل كبير
وبالرغم من قول البعض بأن الإيقاعات كانت مستعملة يوماً وأبطلت. لهذا
سنوضح في مقالنا هذا أسباب وأهمية هذه الخاصيّة.
إن ألحاننا السريانية تقسم لثلاث مجموعات، فالأولى هي ألحان موزونة
موسيقياً، والثانية شبه موزونة، والثالثة غير موزونة على الإطلاق.
وألحاننا الكنسية
الموزونة أو الشبه موزونة غير مستخرج أوزانها حتى اليوم بشكل دقيق ومنشور
في مطبوعات، ولا يوجد معرفة جيدة عن تفاصيل أوزانها لعدم وجود دراسات
منشورة عنها، فنأمل من باحثي الموسيقا السريانية الكنسية العمل على استخراج
هذه الأوزان وتحديد مناطق الضعف والقوة بحسب الضغوطات المتواجدة في أجزاء
اللحن والكلمة، لأجل المحافظة عليها مع خصائصها الموسيقية والإنشادية بشكل
علمي وحضاري لتحفظ في الكتب من الإندثار والضياع ولتوريثها إلى أجيالنا
القادمة
بشكل سليم ومقبول
ولتبقى ألحان معاشة.
فكتاب
الموسيقا السريانية
"ܒܝܬ
ܓܙܐ
ܒܢܘܛܐ"
بيث كازو (مخزن الألحان) بنوته، من وضع الموسيقار
نوري اسكندر، هو خال تماماً من الأوزان الموسيقية وكانت له أسبابه الخاصة
في عدم وضعه للأوزان الموسيقية في كتابه هذا كما شرحها في حديث صحفي له قبل
أكثر من عشرين سنة.
Dom
Jeannin " للفرنسي
المستشرق
Melodies Liturgique"
وأما
كتاب
الذي يحتوي أيضاً
على نوته "البيث كازو
ܒܝܬ
ܓܙܐ"، ففيه شيئاً من
الأوزان الموسيقية لكنه أعتمد في نوتته على الأوزان الصغيرة فقط، ويبدو أنه
قسَّمَ أيضاً الأوزان الطويلة التي تحويها ألحاننا إلى أوزان صغيرة.
لكن هذا الكتاب يحوي
مشكلة حقيقية وهي أن النوته الموسيقية التي كتبها "جنان" لا تحوي على ثلاثة
أرباع الصوت التي تحقق الموسيقا الشرقية (أي ربع الصوت الشرقي)، إنما تحوي
فقط على المسافة الصوتية الكاملة ونصفها، أي البعد الموسيقي الكامل ونصف
البعد، مما أخرج موسيقانا الكنسية من أصالتها وشرقيتها. وفي طبعة 1995 لهذا
الكتاب وهي النسخة التي بحوزتنا أضاف إليها مشكوراً المطران الموقر أنطوان
بيلوني نوته شرقية لبعض الصلوات وأهمها نوته لقسم من التضرعات
"ܬܟܫܦܬܐ".
كما قام الباحث الموسيقي الأب د. إيلي كسرواني بتنويط البيث كازو معتمداً
على صوت المثلث الرحمات البطريرك يعقوب الثالث، وكذلك ببعض الأبحاث على
الألحان السريانية الكنسية حسب قوله في لقاءاته المتلفزة، ولكن لم أطّلع
شخصياً على محتوى كتابه وأبحاثه لعدم طباعتها ونشرها لنعلم إن كان قد عمل
على استخراج الأوزان الموسيقية للألحان الكنسية أم لا.
أولاً-
الألحان الموزونة
إن القسم الكبير من الألحان
السريانية
الكنسية هي موزونة بموازين موسيقية مختلفة، منها بسيطة ومنها مركبة ومنها
عرجاء، لكنها خالية تماماً من مرافقة الضروب لها بالرغم من الروح الإيقاعية
السائدة والواضحة المعالم في الكثير منها، مثل الكثير من ألحان صلوات كتاب
الشحيمو "ܫܚܝܡܐ"
(ويدعى كتاب الصلوات اليومية البسيطة)، ومنها الألحان
المشهورة
التي تمسّى "
ܩܘܩܝܐ
قوقُيهِ ".
ويؤكد لنا عدم مرافقة الضروب لألحاننا الكنسية شاعر الكنيسة وقيثارتها
القديس مار يعقوب السروجي (توفي 521م) في
قصيدته المشهورة في وصفه لقديسنا ومعلمنا العظيم وكنارة الروح القدس مار
افرام السرياني (توفي 373م) الذي
نشرها الأب بولس بيجان (توفي 1935م) في طبعته لقصائد يعقوب السروجي، حيث
قال:
ܝܰܒܒܝ
ܗ̱ܘܝ
ܓܶܝܪ
ܥܶܒܪ̈ܝܳܬܐ
ܒܰܠܦܰܓܰܝܗܝܢ
ܘܗܳܪܟܳܐ
ܡܫܰܒ̈ܚܳܢ
ܐܳܪ̈ܡܳܝܳܬܐ
ܒܡܰܕܪܫܝܗܰܝܢ.
(الترجمة):
" كانت الفتيات العبرانيان تضرب بدفوفهن، (أي في العهد القديم)
وهنا تمجد الفتيات الآراميات الرب بمداريشهن ". (أي في عهد الكنيسة)
ويقول أيضاً:
ܦܽܘܡܐ
ܣܟܺܝܪܐ
ܕܰܒܢܬ
ܚܰܘܳܐ
ܦܬܰܚ
ܝܽܘܠܦܳܢܳܟ
ܘܗܳܐ
ܒܩܳܠܰܝܗܝܢ
ܪܳܥܡܝܢ
ܟܶܢܫܐ
ܕܰܡܫܰܒܚܬܐ.
(الترجمة):
" إن تعليمك (يا مار افرام) فتح ألسنة بنات حاوى المغلق،
وهوذا تدوي من أصواتهن جموع الكنائس ".
هذا تصريح واضح من السروجي في عدم مرافقة أي نوع من الآلات الموسيقية
لجوقات المنشدات ولا حتى الإيقاعية منها كما كانت العادة جارية في القرن
الرابع والخامس والسادس الميلادي.
فقول السروجي: "تمجدن الآراميات بمداريشهن" في المقطع الأول،
ولم يقل "تمجدن
الآراميات بآلاتهن الموسيقية أو بدفوفهن"، ليؤكد لنا على استعمال الضروب في
عصره، مثلما ذكر العبرانيات اللواتي كنَّ تضربن بدفوفهن في العهد العتيق،
مؤكداً على استعمالهن للإيقاعات.
وقوله: "تدوي الكنائس من أصواتهن" في المقطع الثاني، ولم يقل "تدوي الكنائس
من آلاتهن الموسيقية". مؤكداً بأن الآلات الوحيدة المستعملة في الكنائس
التي تستحق أن تمجد الرب هي الأصوات البشرية. وهذا
خير دليل على عدم استعمال الآلات الموسيقية في تلك العصور.
إذاً ومن خلال تراثنا المدوَّن نستنتج بأن الآلات الإيقاعية لم تدخل
الكنيسة لترافق إنشاد الألحان الكنسية، بل اقتصرت فقط على بعض المظاهر
الصغيرة في بعض الإحتفاليات الدينية الشعبية التي تقام موازية لبعض
المناسبات الكنسية.
ثانياً- الألحان الشبه موزونة
إن
وجود ألحان عديدة شبه موزونة موسيقياً أو أنها غير موزنة هي من نوع الفلت
أو الفالت الذي يعتمد على المدّات اللحنية أو التطويل في بناء وتكوين جملها
اللحنية الموسيقية، وهي منظمة بدقة متناهية وكأنها موزونة ولكنها خالية
تماماً من الروح الإيقاعية، مثل التضرعات (التخشفتات
ܬܟܫܦܬܐ)
التي تتناول معظم نصوصها قضية الموت والحساب والعقاب.
تؤكد لنا شحّة إستعمال الآلات الإيقاعية في الكنيسة،
فلو شاء آباؤنا الملحنون لغيّروا في تركيبة
بنائها اللحني ولجعلوها موزونة موسيقياً ولربطوها بإيقاعات.
ثالثاً- الغير موزونة
هي كثيرة مثل قراءات الأناجيل والحسايات والفنقيث والجزء الأكبر من صلوات
القداديس وبعض الأدعية والطلبات العامة، وتقسم إلى قسمين:
ألحان تنشد على طريقة الموال ونراها واضحة في أدوار الكهنة والشمامسة في
القداديس، وهذا قالب موسيقي شرقي لا مكان فيه للأوزان الموسيقية أو
الإيقاعات، ويأخذ غالباً طابع الإرتجال من المعرفة والذاكرة في تنفيذه.
وألحان تعتمد على الطريقة القرائية في إنشادها (أو طريقة "تسمعية منغمة"
حسب رأي الباحثة الموسيقية د. غادة شبير)، وهذه الألحان أيضاً غير موزونة
أو مربوطة بإيقاعات، مثل قراءات "الإنجيل المقدس".
ويَعتمد آداء الألحان الغير موزونة والغير مرتبطة بإيقاعات
على الذاكرة الجيدة والإمكانية الصوتية للمنشدين،
وعلى معرفتهم وخبرتهم وإجتهادهم في الإرتجال والتصوير الصوتي.
إن إعتماد الكنيسة السريانية
الكبير
على
الكم الهائل من الألحان الغير موزونة
يدعم أيضاً الرأي بعدم مرافقة الإيقاعات للألحان الكنيسة.
ثالثاً- عدم وجود أسماء لإيقاعات في كنيستنا
إن تاريخنا الكنسي وتاريخنا المدني شاهدان حيّان على عدم وجود إيقاعات في
كنيستنا مرافقة للإنشاد، فهما خاليان تماماً من ذكر الأوزان والإيقاعات.
فكتب التاريخ السرياني لم تتعرض مطلقاً لهذا الأمر، فقط كتاب "الإيثيقون"
للفيلسوف السرياني غريغوريوس ابن العبري رصد قضية إيجاز أو عدم إيجاز إدخال
الآلات الموسيقية إلى الكنيسة.
ونتيجة للعرض السابق فالرأي الأرجح في كنيستنا هو: عدم وجود ضروب مرافقة
لألحاننا الكنسية أثناء القيام بإنشادها.
مغالطات
إن الذي أوردناه أعلاه من إثباتات بالمصادر الكنسية ينفي إدعاء البعض
بقولهم بأن "الإيقاعات رافقت الإنشاد الكنسي، ولكنها أُبطلت لظروف تاريخية
قاهرة مرّت بها الكنيسة"، دون أن يقدموا لنا مصادر كنسية تاريخية يثبتوا
فيها إدعاءاتهم هذه، فما هذه الإدعاءات سوى محاولة منهم لإدخال الإيقاعات
والآلات الموسيقية إلى الكنيسة بحجة تمدين الكنيسة أو تطويرها وتحديث
ألحاننا الكنسية، بينما تاريخنا الكنسي وتقليدنا الكنسي المتوارث ومع الذي
أوردناه موسيقياً من إثباتات يؤكدوا بعدم إستعمال إيقاعات موسيقية مرافقة
لأناشيدنا الكنسية.
فالبعض من شبابنا المتحمس للتجديد، ودون معرفة بتاريخنا الكنسي، ودراية غير
كافية بألحاننا الكنسية وبطرق إنشادها، وتجاوزاً للتقليد الكنسي المعروف
لدى المهتمين والعارفين، أنتجوا بعض الأعمال الموسيقية الكنسية في عصرنا
هذا، فوضع منهم لبعض الأناشيد القديمة إيقاعات بأسماء جديدة مستوحاة من
التاريخ القديم أو من المتواجدة على الساحة الموسيقية لمعرفتهم بعدم وجود
إيقاعات أو ذكر لأسماء أنواعها في كتبنا الكنسية والتاريخية، فأعتبروا هذا
الأمر فراغاً موسيقاً فحاولوا استغلاله ليتسلقوا على ظهر كنيستنا وتراثنا
وليظهروا أنفسهم على الساحة السريانية بمظهر الرواد الابطال المجددين
لموسيقانا الكنسية، وكأن الآباء السريان القدماء العظام هؤلاء الملحنون
العباقرة كانوا عاجزين عن وضع إيقاعات بأسماء لتآليفهم الموسيقية. فتأمل
مغالطات بعض المغامرين.
وللعلم فإن آبائنا لم يُدخلوا الى أناشيدهم وألحانهم إيقاعات ما، بل صاغوها
بهذا القالب أو الشكل لأسباب دينية بحتة، لأن الإيقاعات لا تليق بمعاني
النصوص الروحية ولا بألحانها المعبرة عن الخشوع والتضرع والمسكنة والزهد
والحزن والألم والبكاء والتذلل.
في
نهاية هذا الجزء من المقال أقدم الشكر الخاص للفنانة والباحثة في الموسيقا
الشرقية (ومنها السريانية الكنسية) الدكتوره
في العلوم الموسيقية
"غادة شبير" لأجوبتها على اسئلتي، وعلى مداخلاتها وتعليقاتها القيّمة في
الفيسبوك على قسم من أجزاء مقالنا، وأيضاً لآرائها الصائبة التي نستفيد
منها في بعض الإشكاليات الموسيقية الكنسية.
الجزء السابع عشر |