الموسيقا السريانية الكنسية
(الجزء
الرابع عشر)
خصائص إنشاد الألحان السريانية(2)
شرحنا في الجزء الثالث
عشر
من مقالنا بعض خصائص وطرق غناء الألحان السريانية التي كانت كانت:
1- صوتية بالكلية، آ كابيللا: الإنشاد
لا يرافقه
آلات موسيقية،
والصوت
البشري هو أجدر بتمجيد الرب من الآلات الموسيقية.
2- نغمية ميلودية: الإعتماد كلياً على النغمات في صياغة الألحان السريانية
الكنسية، وهذا ما نلمسه في ألحان نظام النغمات الثمان "إكاديس".
3- أحادية مونودية: اللحن الكنسي كما الشرقي يتكون من نغمة أُحادية وإنشاده
يؤدّى بأسلوب أحادي، ولا يعتمد مطلقاً على الأسلوب التركيبي البوليفوني
للنغمات، أي توزيع نغمات اللحن على عدة درجات صوتية.
إن الاسلوب البوليفوني والهرموني يتقاطعا مع خاصية الأحادية للألحان
الكنسية السريانية المتكوّنة من نغمات شرقية حيث أن سلالمها الموسيقية
تحتوي على ثلاثة أرباع الأبعاد الصوتية.
ونتابع اليوم في هذا الجزء الرابع عشر شرح بعض الخصائص
الأخرى
لإنشاد الألحان السريانية الكنسية كي
نتعرف على كيفيّة الإنشاد بدقة أكثر، بهدف المحافظة على ألحاننا السريانية
وعلى أساليب إنشادها لئلا تندثر وتضيع بسبب تَبَنّي وبدون معرفة (من قبل
الكثيرين وخاصة الموسيقيين منهم) أساليب مطروحة على الساحة الموسيقية غريبة
عن تراثنا وتاريخنا الكنسي، كما حصل ويحصل في عصرنا هذا نتيجة عدم أهتمامنا
بها وإهمالنا لها.
4-
الإنشاد بطريقة التنغيم البسيط
يتميز
اسلوب غناء الأناشيد في الكنيسة السريانية بخاصيّة تسمى التنغيم البسيط،
وهو اسلوب قديم جداً في الإنشاد كان قد استعمله اليهود في غناء وآداء
ألحانهم الدينية لكن مع مرافقة آلات موسيقية كما يخبرنا العهد القديم.
تطورت الطريقة البسيطة في الإنشاد على يد السريان وأعطوها أهمية ومميزات
جديدة لتلبس اللحن التعبير الصحيح عن روح الكلمة الدينية، فتميزت بالبساطة
الشديدة والعفوية والزهد والمسكنة والخلو من التعقيد والتطريب ومن الفخامة
والكبرياء، لأنها
ابنة
الرهبنة والأديرة المتقشفة والجماعات المتعبدة والمُضطَهَدة.
وبالرغم من المظاهر الملوكية التي تشكل نسبة ضئيلة جداً في الكنيسة،
المتمثلة في ألبسة الكهنة أثناء القداديس والإحتفالات الأخرى،
فقد
أَطلقتُ عليها في الجزء الحادي عشر من مقالنا تسمية "الطريقة السريانية في
التنغيم"، بسبب أن معظم الكنائس السريانية ذات الطقس السرياني تستعملها في
إنشاد ألحان صلواتها الدينية.
وهذه الطريقة تتقاطع مع الطريقة البيزنطية للإنشاد بسبب إعتماد الأخيرة على
الفخامة والعظمة في الآداء وتطويل الجمل اللحنية.
5- الإنشاد بطريقة شعبية
رغم وجود اليوم حالة إستثنائية في الكنيسة السريانية متمثلة في عدم إتقان
السريان للغتهم السريانية لفهم النصوص الدينية كما يلزم، إلا أن الكنيسة
السريانية كانت تمثل كنيسة الشعب والعامة
في العصور الأولى للمسيحية.
1- لأن الشعب كان يتكلم الآرامية في يومياته، ويتقن السريانية الكلاسيكية
لغة ثقافته وكنيستة ولغة الكتابة والتداول بين الناس.
2- لأن دورها التبشيري الأساسي كان بين العامة من الناس، فأوصلت البشارة
الى الهند والصين، فألتزمت الكنيسة بالطرق الشعبية البسيطة للإنشاد في
تقديم صلواتها المناسبة للعامة كخط واضح ومستمر لغاية اليوم.
3- لأن ألحانها تركتز في بنائها الموسيقي على أنصاف السلالم الموسيقية
المستعملة في ألحاننا بشكل جلي وأساسي لأجل تحقيق الأسلوب الشعبي في
الإنشاد القريب جداً من الغناء الشعبي والذي يتكون بمعظمه من أنصاف السلالم
الموسيقية.
4- تراكيب الجمل اللحنية،
ومسيرة
الألحان وإنسيابيتها هي بالمطلق شعبية، رغم وجود بعض الحالات والأمثلة
الدخيلة عليها.
وأما الكنيسة البيزنطية فكانت تمثل
كنيسة الملوك والأمراء والطبقات الحاكمة ولغتها كانت اليونانية لغة الثقافة
والعلوم آنذاك والتي لم يكن يتقنها العامة من الشعب، فجاءت ألحانها الكنسية
وطرق آدائها معبرة عن حالها وواقعها، أي الطريقة الملكية في الإنشاد.
6-
الإنشاد بطريقة قرائية
إن الطريقة القرائية في إنشاد قسم من الصلوات الكنسية تعتمد في تنفيذها على
الغناء بشكل وكأنما إنشاد النصوص الدينية هو كلام يقرأ ببطء وبهدوء وخشوع
مع قليل من التنغيم، وهذه الطريقة هي خالية من المدات اللحنية والتطويل
الصوتي في الإنشاد إلا في نهايات المقاطع الشعرية واللحنية أي في القفلات،
كما في ألحان بعض الصلوات اليومية والحسايات وفي القراءة النغمية للإنجيل.
وتتمييز معظم الكنائس السريانية وخاصة الكنيسة السريانية الارثوذوكسية في
آداء وغناء قسم من ألحان صلواتها بهذه الخاصيّة في الآداء، أما الكنيسة
البيزنطية الشرقية فلا وجود لهذه الطريقة فيها ولا تعتمدها في آداء
ألحانها، لأنها تعتمد على المد والتطويل في اللحن حتى في قراءات الكتاب
المقدس، الذي يميّزها عن غيرها من الطرق ومن الكنائس الشرقية
7-
الإنشاد بحكمة
يتميز الإنشاد السرياني الكنسي بخاصيّة مهمة وهي إنشاد ألحان الصلوات
الكنسية بحكمة وروحانية مليئة بالورع والتقوى ليكون الإهتمام موجهاً لمعاني
النصوص الدينية وليس فقط إلى اللذة الموسيقية الحاصلة من تطريب اللألحان.
8-
الإنشاد بمسكنة وتذلل وندامة
يتم
التنغيم بطريقة تحوي الكثير من التذلّل وإنكسار النفس وإنسحاق القلب وتواضع
كبير ومسكنة واضحة وندامة ولجاجة في صلواتنا وطلباتنا، وعدم رفع الاصوات
أمام حضرة الله بكبرياء وعظمة، فنصرخ بحضوره فيكون مخالفاً تماماً
لمعاني النصوص الدينية، ومخالفاً أيضاً للتواضع الذي علينا التقيّد به حسب
توصيات الكتاب المقدس، فالكبرياء سيبعدنا عن الله الأزلي وعن ملكوته
السماوي وعدم حضوره بيننا.
إن النصوص السريانية بمجملها مليئة بالمسكنة والندامة والتذلل والتواضع،
وألحانها مطابقة لمعانيها.
فالمتذوق والعارف بالموسيقا الشرقية يشعر بوجود الصفات السابقة في ألحاننا
الكنسية عند سماعه لها أثناء إنشادها والتي هي من إحدى خاصّيات ألحاننا
السريانية الكنسية.
9-
الإنشاد بهدوء وروحانية
من مميّزات الإنشاد السرياني الكنسي الخشوع
والروحانية والهدوء الشديد والرصانة
للوصول إلى فتح قناة حوارية وتواصل مع الرب لأجل أن يدير وجهه نحونا ويسمع
شكوانا وهمومنا من خلال صلوتنا.
10-
النغمة الخادمة
لقد
ذكرت سابقاً بوجوب أن تكون النغمة خادمة مطيعة للمعنى وليس العكس.
فهذه خاصية مهمة جداً من خصائص الإنشاد السرياني الكنسي، لأجل إدخال معاني
النصوص الدينية المغناة الى ذهن ونفس المصلي.
وتبرز هذه الخاصية من خلال ملاحظتنا لتطابق التعبير اللحني لمعنى النصوص
الكنسية وحسن استخدام النغمات المطيعة للكلمات ذات الصفات المشتركة مع
طبيعة الحدث الذي يتناوله النص الديني.
11-
الإنشاد بتعبير وأحاسيس
إن
التعبير الصوتي
الذي يسمى أيضاً التصوير الصوتي
مهم للغاية في الإنشاد الكنسي فعلى المنشد أن يفهم معاني النصوص جيداً
ليبكي من الكلمة الباكية ويحزن مع الكلمة الحزينة ويتذلل مع أخرى ويتواضع
مع كلمة التواضع ويتمسكن معها ويبرز الندامة عند كلمة الندم.
وعلى المنشد أيضاً أن يبرز وبشكل واضح الورع والحكمة والرصانة في صوته وفي
آدائه للصلوات وإلخ.....
إن من مزايا الإنشاد السرياني الكنسي هو التعبير الصوتي عن جوهر مقاصد
الكلمة الإلهية، والإحساس بالمشاعر المتواجدة في معاني هذه الكلمة، لتحريك
مشاعر جموع المصلين لأجل تحقيق هدف معاني النصوص الكنسية وهي الإقتراب من
حضرة الله والشعور بوجوده بينهم.
إن الكنيسة فقدت اليوم الكثير من خصوصيّات إنشاد ألحانها بسبب الكوارث
والنكبات والمجازر التي مرّت بها عبر التاريخ، والتي أدّت إلى أن عشعش
الجهل والتخلف في كل النواحي الحياتية وزوايا ثقافة أبنائها، والموسيقا
الكنسية هي واحدة منها، فخلق نتيجة هذا الأمر تمايز كبير في الإنشاد
وإختلافات في جوهر بعض الألحان الكنسية لدى كهنتها وشمامستها في الأبرشيات
المنتشرة في المشرق والعالم وكذلك بين كنائس كل ابرشية على حدى. كل ذلك
بسبب قلة معرفة هؤلاء في الألحان الكنسية وعدم إتقانهم لخصوصيّات الإنشاد
الكنسي، ونتيجة تأثرهم وبشكل واضح وكبير بموسيقا وغناء بيئاتهم المختلفة
والغريبة عن الألحان السريانية الكنسية.
الجزء الخامس عشر |