عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
  
     
http://www.walidphares.com

English

مقالات سابقة

وليد فارس:

بروفِسور في العلوم السياسية

كتاب "التعددية في لبنان"

تأليف د. وليد فارس

   بيروت في 12 كانون الأول 1978


القسم الخامس:

 نظام القائمقامية 1842- 1861

بعد أن تفاقم الوضع على الساحة اللبنانية و استحال الأتفاق على أمير واحد للبنان الموحد الجبلي، و بعد أن برزت التناقضات بين أعيان الدروز و المسلمين من ورائهم، و بين تيار الموارنة الصاعد، فرضت الدول الاوروبية حلاً نمساويا اتخذ شكل نظام فدرالي منطلقاً من مبدأ الصيغة التعددية. فقسم جبل لبنان الى قائمقاميتين يترأس كل منها قائمقام يعينه العثمانيون. الشمالية و عاصمتها بكفيا للمسيحيين، و الجنوب و عاصمتها بعقلين للدروز و بعض المسلمين.

و قد أريد من هذه الصيغة و هي الأولى التي تعطي كيانا للمسيحيين بعد انحلال الأستقلال منذ عدة قرون، أن توفق بين المجموعتين المتجاورتين اللتين تتواجدان على أرض لبنان: الدروز و الموارنة. إذا حللنا هذا النظام نظريا رأينا أنه الأفضل بالنسبة لسابقيه، حيث أن لا حكم المماليك العرب المباشر ولا حكم القبائل العربية و لا حكم الأمارة الأقطاعي تتماشى مع تطلعات المسيحيين في لبنان، لا من حيث الأستقلالية و لا من حيث الحقوق القومية التاريخية. و نظام القائمقامية أعطى شرعية مبدئية و كيانا و لو صغيرا للمجموعة المسيحية و ساواها بالمجموعة الدرزية التي حكمت إمارة كل لبنان طيلة قرون. و صيغة 1842 أعطت لكل لبنان حق وجود. فكان للبنان المسيحي كيان و حقوق، و كان للبنان العربي الذي ضم أغلبية درزية كيان و حقوق مماثلة. إلا أن النظرية الحقوقية هذه، التي اعتمدت التعددية حسب مفهومها الاوروبي، و هو مفهوم يرتكز على المساواة و العدالة بين القوميات لم تجد تطبيقا حقيقيا لها، و لم تطلّ الستينات حتى أضحى النظام الوقائي الذي وجد لمنع الصدامات، وسيلة لإبادة الأقليات، و إعادة "النية التوسعية الفتحية" الى الساحة المشرقية. إذا سلمت النظرية و كانت الأفضل نسبيا بين الأنظمة التي سبقتها، فما هي الأسباب الأساسية التي فرضت انفراطها و انحلالها؟

يتفق أغلب المؤرخين التقليديين و المحللين السياسيين و المفكرين الرافضين للحقائق التاريخية التي تناقض أطروحاتهم القومية و الأجتماعية على أن السبب الاول و المحرك لسقوط نظام القائمقامية و لقيام الحرب المسيحية- الدرزية سنة 1860 ، يكمن في تدخل الدول الاوروبية المتصارعة في شؤون لبنان "الداخلية"، حيث أن "وحدة بنيته التاريخية أصبحت عاملا يضايق سياستهم، فأرادوا ضرب هذه الوحدة".

الحقيقة، و قبل أن نرفض هذا الطرح الجزئي و البسيط، إن الصورة السهلة التركيب التي يرسمها هؤلاء المناظرون، هي إثبات على عدم نجاح نظرياتهم، حيث أن تفسيرهم للتاريخ هو تفسير خاطىء و ينصب في مصب الخطأ الايديولوجي- الفلسفي الذي لا نناقشه في هذا البحث.

أما نحن و استمرارا لاستطلاعنا الواقعي للتاريخ حسب ما رأينا حتى الآن، لا يسعنا إلا أن نشير إلى إن صدام الخمسينيات و أوئل الستينيات من القرن التاسع عشر ليس إلا إعادة لصدامات عديدة حصلت طيلة تاريخ المواجهة بين الأمة اللبنانية المسيحية السريانية، أو الوطن القومي المسيحي التاريخي، و هو نتيجة لانصهار خيرة اللاجئين المسيحيين الى جبل لبنان بعد الفتح العربي. إبان المواجهات السابقة التي حصلة بين نفس الأطراف و بنفس الطريقة و لنفس الأسباب المباشرة و بذات العقلية، لم يتحرك المسيحيون بناء على طلب الاوروبيين، بل دفاعا عن أنفسهم، و لم يستجيبوا لمخططات غربية، لأن مصيبة المسيحيين الشرقيين كانت دائما ببعد الغرب المسيحي عنهم، و استجابته البطيئة لاستغاثتهم. من هنا لا يعقل القول بأن المواجهة على الأراضي اللبنانية هي تاريخيا من صنع "الأيادي الخارجية الاوروبية"، حيث أن الفتح العربي و هجوم الأمويين و العباسيين و المماليك و العشائر العربية على الشعب المسيحي في لبنان لم يكن مخططا اوروبيا حسب ما هو معلوم..

أما الأسباب الحقيقية بنظرنا فهي:

1 ) إن إعطاء الموارنة والمسيحيين كيانا خاصا بهم وتعيين قائمقام شرعي مسيحي و مساواته بالدروز الذي يدير شؤون قائمقاميته قد أدى الى إثارة النية التاريخية التوسعية للأكثريات في الشرق. و مع أن الدروز أقلية بالنسبة للعنصر السني، فالضربة التي تلقتها المسيحية و المارونية خاصة في الشرق، قد واجهتها و أمنت لها الغطاء العملي، إدارة دوائر و مجالس أسلامية عربية و عثمانية. و القضاء على القائمقامية أو صيغة التعايش و التعددية اللامركزية المسيحية- الأسلامية سنة  1860 ، هو حلقة في سلسلة المحاولات التي قامت لأجل منع أي كيان أستقلالي أو شبه أستقلالي لأية مجموعة مسيحية في الشرق، كما لاستنزاف التكتل النصراني و إجباره على التفرق و الذوبان أو الهجرة. و السلسة هذه قد بدأت منذ الفتح و لم يعرف أحدا إذا انتهت أم لا.

 

 

 2 ) إن الوعي الإجتماعي الذي انتشر في أنحاء القائمقامية المسيحية، قد أثر على مصالح الإقطاعيات العربية الدرزية مباشرة و هدد الطبقة الثرية العربية من خلال ضرب مصالح الطبقة الإقطاعية المارونية. بالفعل، فالتيارات الثورية العالمية، التي تبلورت و اتخذت شكلا منظما منذ ثورة 1789  الفرنسية، قد أثر على الساحة اللبنانية، حيث أن كثيرا من المثقفين  و المفكرين المسيحيين و الموارنة قد استفاقوا على الواقع الأجتماعي - القومي الذي يعانيه الشعب المسيحي في لبنان. فالقائمقامية الشمالية، و تسكنها أغلبية مارونية، رزخت تحت حكم أقطاعي، سيطرت من خلاله بضعة عائلات مارونية على أغلب المناطق و ملكت جميع الأراضي و فرضت على عامة الشعب أشكالا متعددة من الرضوخ أمامها. 

فالعادات التقليدية الأقطاعية أجبرت المواطنيين المسيحيين على الإنحناء و تقبيل يد الأقطاعيين، و النظام الإجتماعي القائم فرض على الفلاحين و المزارعين "خوة" يدفعونها من ثمرة أتعابهم من أعمال على أراض لا يملكون شىء منها.

و بما أن العنفوان الطبيعي عند هؤلاء السكان الجبليين لم يستطع السكوت طويلا بما أن التيارات الأيديولوجية العالمية قد برهنت أن الأقطاعية هي العدو الأول و الأخطر للأمة و المتسبب الأول للهزائم و النكسات التي يتكبدها الوطن.

و بما أن الأقطاعية المسيحية المارونية خاصة قد نبتت في الجبل اصطناعيا حيث أن السلطة الإسلامية، عربية كانت أم عثمانية قد زرعتها و دعمتها على مدى سنين عديدة لتستطيع تركيع الشعب من الداخل.

و انطلاقا من الممارسات التي قامت بها هذه الأقطاعيات، قامت ثورة شعبية مسيحية مارونية على النمط الغربي في الجبل اللبناني و ألهبت منطقة كسروان، حيث أن الثوار، بقيادة طانيوس شاهين، قد طردوا الأقطاعيين من قصورهم و فرقوا الأراضي على عامة الشعب و نظموا أنفسهم و حياتهم من خلال إقامة مجلس ثورة، خطط لإقامة جمهورية شعبية مسيحية مكان القائمقامية الأقطاعية.

و الحقيقة، أن ثورة الخمسينيات الشعبية التي قام بها فلاحو كسروان، هي ثورة أجتماعية- قومية، عبروا من خلالها عن تطلعات الشعب المسيحي في لبنان و عن انتفاضته ضد واقع ذمي وطني و اجتماعي منذ سنة 1305 . و الثورة الشعبية هذه هي بنظرنا الثورة المسيحية الثالثة و الأهم في تاريخ لبنان المسيحي. فالثورات الأولى التي قام بها المردة في القرون اللاحقة للفتح، كانت ثورات قومية ضد غاز عربي، أما ثورة طانيوس شاهين، فكانت ثورة قومية، حيث رفضت الحكم الأجنبي و لكنها قبل كل شىء كانت ثورة أجتماعية ضد نظام أقطاعي فرضه العرب و كرسته الإمارة طيلة قرون. و لم تكن مفاعيل هذه الثورة محليا إلا لتنبه الإقطاعية الدرزية الى مخاطر امتداد الثورة الى الفلاحين الموارنة المنتمين الى اقطاعيتهم و كانوا بعدد لا بأس به. و خاف الأعيان العرب الدروز ايضا من وعي شعبي درزي يفجر الوضغ عندهم و يقضي عليهم. فعمل هؤلاء بمساندة الدولة العثمانية على خوض حرب ضد القائمقامية الشمالية لتحجيمها بعد أن حاولوا محو جميع الأقليات المسيحية الواقعة داخل حدودهم كما سنرى فيما بعد.

من العجيب في هذا الصدد، أن يشدد بعض المفكرين والأحزاب في لبنان الـ  43 على هذه المرحلة الثورية من تاريخ لبنان، و يصوروا ظاهرة طانيوس شاهين، الوطنية - الأجتماعية و كأنها وثبة لوعي اجتماعي ضد تطلعات الشعب المسيحي الأساسية، و كأنها ثورة من ثورات العرب القومية. و يلتقي في هذا المجال الماركسيون و القوميون العرب. و لكن من الأغرب هنا، أن تحليل تطلعات المسيحيين تاريخيا لا يصب في مصب المفكرين السابقين. فالمسيحيون، من خلال ثورة طانيوس شاهين، حاولوا إقامة جمهورية ديمقراطية مسيحية يستقلون فيها و ينظمون أنفسهم من خلال نظام سياسي اجتماعي يرفض الأقطاعية و يستمد أصوله من الديمقراطيات العالمية، و الغربية خاصة. و يمكن اعتبار هذه الظاهرة تقدمية و ثورية. و لكن لا يمكن أعتبارها كما يؤكد الماركسيون و القوميون العرب، انتفاضة عربية اجتماعية قومية، لأن أهداف هذه الثورة كانت متناقضة تماما مع التيار العربي و الحكم العثماني الذي يمكن اعتباره رجعياً في تلك الحقبة.

 3 ) أخيرا ثمة عنصر لا يجب اغفاله، ألا و هو الحكم العثماني. فمهما قيل عن شبه استقلالية الكيان المسيحي، فالدولة العثمانية كانت الناطقة الوحيدة باسم جميع الشعوب الواقعة داخل حدودها. أما القائمقامية فلم تكن إلا نظاماً يؤكد الباب العالي من خلاله للدول الاوروبية التزامه بمبدأ العدالة في التعامل مع شعوب السلطنة. عملياً لم يكن باستطاعة القائمقاميتين أتخاذ قرارات سياسية هامة دون موافقة السلطة العثمانية، كما لم يكن يحق للمسيحيين إقامة علاقات خارجية مع الدول الاوروبية، مما ينفي أية أستقلالية وأية سيادة. و لا شك أن السلطات العثمانية هي التي سمحت و لو بطريقة غير مباشرة أحيانا، بارتكاب المجازر بحق اللبنانيين المسيحيين، مستهدفة من ذلك قمع أي تحرك استقلالي من جهة و توجيه ضربة للغرب من خلال ضرب المسيحيين المشرقيين على يد الدروز والمسلمين، متجردة عن مسؤولياتها كدولة، من جهة ثانية.

القسم السادس: الحرب المسيحية- الدرزية 1860

الأسباب الرئسية الثلاثة التي ذكرناها، لم تكن الا لتفجر التناقض و تشعل حربا عنيفة بين الطرفين. و لكن الحقيقة ان مواجهة 1860 لم تكن حربا بل مجازر جماعية رهيبة ارتكبت بحق المسيحيين في لبنان اولا و امتدادا الى سوريا فما بعد:

في 15 آب 1859، هاجم فريق من الدروز منطقة بيت مري في المتن، وغزا ثلاث قرى بما فيها بيت مري. و في نيسان 1860 تصعد الوضع، و ارتكبت جرائم عدة بحق المسيحيين في القائمقامية الجنوبية اي التي يحكمها درزي. و تتابعت اعمال العنف دون توقف من جزين حتى بيروت مرورا بصيدا...

1-       الوضع السياسي الجغرافي

القائمقامية الشمالية عدّت اكثرية مسيحية ساحقة شكل العنصر الاساسي منها الموارنة. و ضمت هذه القائمقامية مناطق زغرتا و بشرّي و الكورة و البترون و جبيل و كسروان و المتن. القائمقامية الجنوبية، و كانت الاكثرية فيها للدروز، و لكن المسيحيين شكلوا فيها حوالي 25% من السكان. اما سائر المناطق اللبنانية فقد أتبعت الولايات العثمانية (الشام و عكا). و شكل المسيحيون في البقاع الجنوبي اكثر من نصف السكان، و كذلك في بيروت والمناطق المحيطة بصيدا و صور. هذا يعني ان المسيحيين تواجدوا خارج القائمقامية الشمالية في القائمقامية الجنوبية و في المناطق اللبنانية التابعة للعثمانيين بشكل كثيف قبل المجزرة.

2-       الوضع العسكري و سير المعارك

بعد ان انفلت حبل الامن في القائمقامية الجنوبية، حيث هاجم الدروز الفلاحين الموارنة المتجمعين في القرى بشكل اقليات، ارسل العثمانيون خورشد باشا تحت ضغط الاوروبيين ليعيد الامن الى البلاد. لكن المبعوث التركي، بعد ان جمع قواته في البقاع، تقدم مع فرقة الى بعبدا عبر ضهر البيدر، و قصف دون مبرر، 29 ايار 1860، بلدة الحدث المسيحية الى بعبدا. فلم يكن هذا العمل الا اشارة انطلاقة لقوات الدروز التي هاجمت في الوقت نفسه بيت مري و نهبتها. و امتدت نيران الحرب الى المتن كله، فأحرقت فيه اربعين قرية مسيحية بمن فيها عين سعادة و برمانا و مرشعيا و بعبدا. و لم تمر ثلاثة ايام حتى تم اجتياح ستين بلدة مسيحية بين المتن و الساحل. و انسحب موارنة البقاع الى منطقة قريبة من بشري.

 

قاد الدروز عسكرياً يوسف قاسم و سياسياً سعيد جنبلاط، و هو الاقطاعي الاقوى و الاهم. اما الجانب المسيحي فقد التف حول يوسف كرم، و كان عضوا في مجلس قيادة الثورة الذي ترأسه طانيوس شاهين في كسروان في القائمقامية الشمالية. في الجنوب، تجمع المسيحيون في اقليم التفاح القريب من صيدا حول يوسف المبيض. و لكن قوات قاسم و جنبلاط قضت عليه و على القسم الاكبر منهم، و دخلت قراهم و قتلت العديد من اهاليها. اما في جزين، و بعد تأكيدات جمة اعلن من خلالها سعيد جنبلاط أنه لن يحدث اي شغب في المنطقة، تعرض الاهلون فيها لمجازر رهبية و هربوا نحو صيدا، حيث لاحقهم اهلها و اجهزوا عليهم تحت أنظار العسكر العثماني الذي لم يحرك ساكنا.

في حاصبيا وراشيا، جمع الاتراك المسيحيين واكثرهم من الملكيين الكاثوليك والروم الارثوذكس في ثكاناتهم، وبعد تجريدهم من السلاح سلموهم لقوات جنبلاط التي قضت عليهم جميعا.

في زحلة، طوق المدينة سبعة عشرالف مقاتل درزي و اعداد كبيرة من البدو العرب. حاول يوسف كرم التقدم لنجدتها بعد ان اجتمع مع اعضاء مجلس قيادة الثورة المسيحية، فأوقفه العثمانيون مؤكدين له أنه سيتوكلون مهمة ردع المهاجمين و حماية المدنية. و لكن المهاجمين دخلوا المدينة بعد أن رفعوا علم يوسف كرم ( و كان علما ازرق فأبيض فاحمر، و هو علم الثورة اللبنانية في كسروان). و استنكرت العواصم و القناصل الاوروبية هذه الاعمال و طلبت من الباب العالي التدخل فوراً لوضع حد للمجازر المرتكبة ضد المسيحيين. فوعد العثمانيون بتوجيه قوات تفريق بين "المقاتلين"، و اكدوا أن الوسيلة الوحيدة هي تجريد الاطراف من السلاح و دخول الاتراك الى جميع المناطق. و لكن الاتراك لم ينفذوا الا شقين من برنامجهم، فدخلوا جميع المناطق و جردوا المسيحيين من اسلحتهم و وعدوهم بالامن. و لكنهم لم يجمعوا السلاح من الفريق الاخر، بل سهلوا له المهام بتجميع النصارى و تقديمهم اليه كي ينهال عليهم..

هذا ما حصل في دير القمر، حيث قتل 2200 مسيحي و في بيت الدين. و بعد أن قضي على مسيحيي القائمقامية الجنوبية و المناطق المحيطة بها، قررت قيادة جنبلاط مهاجمة القائمقامية الشمالية، و تقدموا باتجاه بكقيا على طول محور المتن. و لكن يوسف كرم، و قد اصبح قائد القوات العام في المناطق المسيحية، توجه لملاقاتهم، و صدّهم في بحنس و اوقع بين صفوفهم خسائر عديدة. و عمد فيما بعد الى التمركز في نهر الكلب مستهدفا التوجه نحو الجنوب لنجدة النصارى. و لكن العثمانيين اقنعوه بأنهم سيضربون المعتدين بيد من حديد، و وضعوا قوات كبيرة في انطلياس لمنع تقدمه. و لكن يوسف كرم، هدد بمهاجمة طرابلس و احتلالها، اذا استمر الدروز بشن غارات على القرى المسيحية.

و امتدت نار الفتنة الى الشام، حيث تفجرت "النية" من جديد، فهاجم مسلحون المدينة، المسيحيين وقتلوا منهم عددا كثيرا واحرقوا منازلهم..

و عند استفحال المعارك، تدخل الاوروبيون بشدة و ضغطوا على الباب العالي و هددت فرنسا بالتدخل المباشر. فخاف الاتراك من تدخل عسكري، و ارسلوا مندوبا خاصا من اسطنبول ليرتب الامور. و منذ ان وصل فؤاد باشا الى لبنان، بدأ في ملاحقة الفاعلين و زجهم في السجن و أقصى عدداً من الموظفين الاتراك عن مراكزهم، محاولا اعادة الثقة بالدولة العثمانية. و لكن الفرنسيين انزلوا ثمانية آلاف جندي في الدامور تحت قيادة العماد دوبول.

و من ثم توجه الفرنسيون مع المندوب العثماني الى جميع المناطق المتضررة و ساعدوا الاهالي على الرجوع الى بيوتهم.

و اجتمعت الدول الكبرى مع تركيا لايجاد حل شامل للمشاكل اللبنانية و لضمان حياة المسيحيين في البلاد، بعد ان كلفهم وضعهم كأقلية مقهورة عشرة الاف ضحية و ثلاثمائة قرية و خسارة مادية و معنوية كبيرة.

و قد برز حل اعتبره الاوروبيون مناسبا بعد مشاورات طويلة تخللتها مناورات فرنسية بريطانية روسية تركية عديدة.

و الحل هذا اعتمد مبدأ اقامة كيان لبناني، تشكل المسيحيون فيه الاكثرية الساحقة، دون ان يكون وطناً قومياً لهم، محمي من قبل الدول الاوروبية، و له نظام خاص يتميز عن باقي الولايات العثمانية و يعين الاتراك المسؤول الاداري فيه على أن يكون من غير الطوائف المتواجدة هناك.

3- النتائج

 اما نتائج حرب 1860 فهي عديدة لن نتوقف الا على الاهم منها:

على الصعيد المحلي:

اولا، وضعت صيغة التعايش على المحك، اذ فشلت صيغة القائمقاميتين و كانت صيغة تطبيقة اولى للواقع التعددي اللبناني.

ثانيا، ادرك المسيحيون ان ثقتهم بالدولة قد انتهت كما انتهت ثقتهم بالتعايش مع الطرف الآخر. فالتجارب القاسية التي مروا بها على مدى قرون قد اقنعتهم أن وجودهم كأقلية، مهما كان لها نفوذ و استقلالية ذاتية و ضمانات عديدة، ضمن دولة تختلف حضارياً عنهم، كالدولة العربية و الدولة العثمانية، يشكل خطرا دائما عليهم من الناحيتين المادية و المعنوية. و أصبح الهدف الباطني للمسيحية الشرقية منذ هذه النكسة:

-        الاستقلال التام عن أية دولة و عن اي محور مهما كانت التطورات.

-        ايجاد كيان يحفظ حقوقهم و يستطيعون حماية انفسهم من خلاله.

و المبادىء الاولية هذه دخلت اعماق المفكرين المسيحيين كما دخلت قلوب الشعب و تأصلت فيه، و اصبحت المحرك الاول لأي عمل قاموا به منذ الحرب الدرزية- المسيحية. و لا شك ان تحليل مواقف المسيحيين في اية مرحلة منذ 1860 حتى اليوم، يمر بالانطلاق من المبادىء الاولية هذه، كما ان تقيم الخط الرئسي لأي تيار مسيحي، يرتكز على قياس نتائج هذه السياسة بالمبادىء و مقارنة النتائج بالاهداف.

ثالثا، ظهرت على الساحة اللبنانية حقيقة التناقض القومي الحضاري المسيحي - الاسلامي، التي طمستها الامارة سنين عديدة، و ما لبثت أن تفجرت بعنف بالغ نتيجة لكبتها مدة طويلة. فالكيان الذي لا يعترف بخصائص المجموعتين اللتين تسكنان الاراضي اللبنانية، يتزعزع و يتجزأ حالما تتجمع العناصر و الظروف الملائمة. فالامارة لم تعترف علنا بوجود تعددية في البلد مع أن التواجد الدرزي- المسيحي كان واضحا في الجبل.

و قضي على الامارة، بانسحاب الارادة و القوة المسيحية منها. نظام القائمقامية اعطى كياناً للمسيحيين و هو المرحلة الاولى من اعطائهم حقوقهم، و لكن هجوما استهدفهم بمباركة الدولة العثمانية، و القصد منه ازالة استقلالهم الوهمي الذي اعطي لهم، فكان ان زالت صيغة القائمقامية نتيجة لضرب احد طرفيها.

من هنا يمكن ادراك معاني اغلب التفجيرات التي حصلت و تحصل في الشرق عند المسيحيين. كلما ينال المسيحيون حقوقهم، يعملون على السلام و التقدم و يساهمون في تقدم من اعطاهم هذه الحقوق، و كلما قمعوا و سحبت هذه الحقوق، تمردوا و فجروا الوضع و ازالوا الصيغة التي خلالها تكبدوا الخسائر...

رابعا، على اثر المذبحة الكبرى، قرر الكثيرون من المسيحيين، و الموارنة خاصة، الهجرة فتركوا بلادهم. و قد شهد لبنان المسيحي هجرة مماثلة مهمة، بعد اجتياح المماليك للبنان، حيث نزح الموارنة الى قبرص و بيزنطية. اما الهجرة الجديدة التي سببتها حرب 1860 فقد نشطت على مدى السنين بعدها حتى اواخل القرن التاسع عشر، و كان امتدادها نحو الاميركيتين.

على الصعيد العالمي:

توضحت على هذا الصعيد، حقائق اساسية الا و هي:

1-        وجود عوالم عدة متصارعة ومتناقضة لا تمر فرصة مناسبة الا و تستخدمها لكي تنقض على بعضها. فأوروبا التي نهضت من جديد منذ سقوط بيزنطية في القرنين الثامن و التاسع عشر، اصبحت استعمارية تبحث عن اي باب لتدخل منه الشرق و افريقيا و تبسط نفوذها. الدولة العثمانية و هي الممثلة الشرعية للعالم الاسلامي، بعد ان امتدت حتى قلب اوروبا و في شمال افريقيا، بدأت تنحسر على جميع الحدود، حتى انحصرت في المناطق التي تحتوي على الشعوب العربية التركية، اي الشعوب الاسلامية. و التراجع هذا، ولّد لدى الدولة العثمانية و من ورائها الشعوب الاسلامية شعورا بالغبن، حيث ان مسؤولية هذا الانكماش تقع على اوروبا المسيحية التي تتدخل مباشرة في شؤون الشرق. فكان على السلطنة الضعيفة عالمياً، أن ترهن قوتها وتجسد "النية" في اعمال قمعية تستهدف مسيحيي الشرق، معتبرة اياهم الايادي الداخلية للعدو الخارجي اي اوروبا.

2-        ان تصارع الدول الاوروبية فيما بينها قد اثر مباشرة على مصالح الغرب اولاً، و على مصير المسيحيين في الشرق ثانيا. فالمواجهة التقليدية الفرنسية- الانكليزية و النمساوية – الروسية قد اضعفت امتداد النفوذ الاوروبي نفسه، و أثرت مباشرة على وضع المسيحيين، حيث أن النصارى في الشرق انقسموا على انفسهم مع انقسام حماتهم. كما أن المناورات البريطانية المتواصلة ضد الفرنسيين قد ادت الى انتكاسات عديدة لمسيحيي الشرق، اذ أن الانكليز وقفوا الى جانب الباب العالي و الدروز و المسلمين بوجه الفرنسيين الذين ساندوا الاقليات المسيحية.

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها