عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
  
     
http://www.walidphares.com

English

مقالات سابقة

وليد فارس:

بروفِسور في العلوم السياسية

كتاب "التعددية في لبنان"

تأليف د. وليد فارس

   بيروت في 12 كانون الأول 1978


الفصل الخامس

 التعددية و مرحلة الحكم العثماني

بعد سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين. لم يعد للنصرانية الشرقية وجود سياسي، فتداعت أركان العالم المسيحي و اهتز الكون بأجمعه فتغيرت ملامح المعمورة و خسرت المسيحية جناحها الشرقي، و انحسرت في أوروبا حيث ظلت قرونا عديدة تمزق نفسها بحروب قومية و أقليمية قبل أن تمتد من جديد الى اميركا.

و بثبوت الدولة العثمانية على ضفاف البوسفور و في الأناضول، قرر سليم الأول سلطان الأتراك خلع الخلافة الأسلامية على نفسه و دحر المماليك من سوريا و مصرو جعل المنطقة اقليما في امبراطوريته. دخلت الجيوش التركية الى سوريا من الشمال و بعثرت قوات المماليك في واقعة "مرجع دابق" بالقرب من حلب سنة 1516.  و منذ هذه المعركة، تاكد النصر للعثمانيين ففرضوا أحتلالهم على الشرق وشمال أفريقيا. وبدخولهم سوريا ولبنان، نظم المحتلون المناطق التي أجلاها المماليك من جديد و استبدلوا التجزئة القديمة بأخرى جديدة، فكانت الولاية مكان النيابة و الوالي مكان النائب. و وضعوا قوانين جباية جديدة للضرائب و نظموا العلاقات بالأقليات، حتى تم تتريك المنطقة مع مرور الزمن بعد أن عربها المحتلون السابقون.

كان للحكم العثماني خصائص عدة بالنسبة للعلاقات مع  الأقلية ضمن بيئة التعددية، كما كان له ميزات متنوعة للوجود اللبناني.

القسم الاول: الحكم العثماني والبيئة التعددية

إن الخاصة الأولى التي ميزت الدولة العثمانية منذ نشوئها حتى انكسارها في أواخر الحرب العالمية الأولى، ترتبط بمبدأ التعددية ارتباطا وثيقا. فالدولة العثمانية، خلافا للدولة العربية، و مع انها حاربت هذا الواقع، عاشت في واقع تعددي حاد. فقد تعايشت مع شعوب مختلفة جدا داخل حدود السلطة. العرب المسلمون في سوريا والعراق و مصر و شمال افريقيا و جزء من الجزيرة العربية، و العثمانيون في الأناضول و أوروبا، و الأرمن و شعوب القوقاز في آسيا، و اليونانيون و البلغار و الرومان و جميع الشعوب السلافية في أوروبا المسيحية فقد تعايشت مبدئيا ملايين من البشر المتعددة الأجناس و الحضارات و الثقافات و اللغات تحت سلطة الباب العالي الواحدة.

و لكن التعددية التي طبعت العالم العثماني، لم تكن صيغة تعايش، أصولها في العدالة و الإحترام، أي أن  الشعوب المحتلة في الدولة العثمانية لم ترتبط ببعضها بنظام شبه فدرالي يحق من خلاله لأية مجموعة المطالبة بالإستقلال الذاتي و الثقافي. فالرابطة الوحيدة و الدائمة كانت رابطة الإحتلال و الإستعمار. و قد قويت هذه الصلة و ضعفت حسب التطورات الدولية. و قد نعمت الشعوب المحتلة بمصير هادىء أم حالك حسب العهود و الظروف. و لكنه باستطاعتنا القول أن الشعوب المسيحية، أي التي تختلف عن الأتراك حضاريا و ثقافيا، قد شهدت أعنف المواجهات مع السلطة المركزية العثمانية. كما نلاحظ أن هذه الشعوب، و خاصة الأوروبية منها، هي أول من استقل عن الباب العالي، كالكروات و صربيا و هنغاريا و رومانيا وبلغاريا و اليونان. و الشعوب المسيحية الشرقية هي التي قاست أكثر الويلات والنكبات و التي تعرضت لأشد حملات القمع. و نشير طبعا الى المجازر المرتكبة بحق الشعب الأرمني و الماروني خاصة في القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين. أما الشعوب الأخرى أي الأسلامية، والعربية خاصة، فقد تضامن أغلبها مع الدولة المركزية على أساس الخلافة الإسلامية التي أستأثر بها السلاطين العثمانيون. و حارب شباب العرب في صفوف الأتراك ضد الأوروبيين و ضمن الحملات التي قامت بها السلطة لقمع المسيحيين و الشرقيين خاصة.

و عند تضعضع الدولة التركية و انحلالها نهائيا أبان الحرب الأولى، أجهز العرب المسلمون عليها و ثاروا ليقيموا دولتهم من جديد. و قد بدأ المسلمون المشارقة بالعمل ضدها نسبيا منذ أن ضعفت الدولة التركية، خاصة في القرن التاسع عشر فقاموا بجمعيات و أحزاب نادت بمبدأ القومية العربية و استقلال العرب عن الأتراك، و لكن دون الأعتراف بالشعوب الرازخة تحت الحكم العثماني و غير العربية.

أما العلاقة المباشرة للعثمانيين بالأقليات فقد مرت بمراحل عدة اختلفت حسب ارتباطات الأتراك الدولية و مواقعهم من أوروبا المسيحية. فالمرحلة الأولى بدأت بالإتفاقات التي حصلت بين فرنسوا الأول ملك فرنسا وسليمان القانوني سلطان العثمانيين. و المعاهدة  الدفاعية و الهجومية المتبادلة و المواجهات التي وقعت بين الطرفين، احتوت على بنود تسمح للعاهل الفرنسي الكاثوليكي أن يبسط نفوذه و حمايته على المسيحيين في الشرق. فبعد أن كان حامياً للفرنسيين في الشرق أولا، و للكاثوليكيين ثانيا، أضحى فرنسوا الأول و الملوك الفرنسيون من بعده حماة لنصارى الشرق و حراسا للآراضي المقدسة المسيحية في فلسطين. و المعاهدة هذه هي تجديد بنظر المؤرخين للمعاهدات التي ربطت شرلمان بهارون الرشيد العباسي. و قد أتيح للامبراطور الكارولنجي حماية الأراضي المقدسة و مسيحي الشرق.

ثمة ظاهرة نراقبها هنا: لقد عقدة أتفاقيات و أبرمت معاهدات شرقية أسلامية ــــ غربية مسيحية استهدفت ترتيب العلاقات في الشرق، طالما رزخ هذا الأخير تحت واقع التعددية. فنرى من هنا أن التعددية عنصر لا يفنى إلا بفناء الأطراف المشاركة به. فطالما وجدت أقليات حضارية مسيحية في الشرق، محتلة كانت أم مستقلة، وجدت صلات ربطت العالمين المسيحي و الأسلامي كي تمنع الأنفجار و التناقض المتواصل بينهما. و يمكن القول هنا من باب القياس أن مشكلة الأقليات القومية لا يتعداها التاريخ و لا أي مسبب محول أخر. فمشكلة أقليات البلقان لم تنحل نسبيا إلا باستقلال القوميات فيها مبدئيا مع انسحاب المحتل التركي. و المشكلة الشرقية للأقليات قد انتظرت حلولا مماثلة، إلا أن الظروف السياسية و المتحولات الدائمة في الساحة شرق - أوسطية، إضافة الى موقع المنطقة الأستراتيجي العالمي، قد منع إفراز عناصرها  و ترتيبهم حسب الحقوق المعترف بها عالميا. و لا شك أن الواقع الشرقي أصعب و أدق من التعدديات و المشاكل القومية في أية ناحية من العالم، كما رأينا في أصول هذا الواقع و كما سنراه ونوضحه في تطوره و حالته الراهنة فيما بعد. و لكن المرحلة الأولى التي ربطت الدولة العثمانية بفرنسا الكاثوليكية ما لبثت أن تلاشت بعد قرون أمام مرحلة تشدد الأتراك إزاء الأقليات، و ذلك ردا على محاولات أوروبا لضرب و إضعاف الباب العالي. و قد قامت أستنبول بسحب العديد من الأمتيازات التي خصصتها لشعوب كثيرة و قمعت محاولات عدة للمطالبة بالأستقلال الذاتي أو التام، كما حصل في الشق الغربي من الأمبراطورية ( الصرب واليونان وسائر الشعوب). كذلك شدد الباب العالي وطأة الأحتلال على مسيحيي الشرق خاصة، كلما اصطدمت سياسته بتطلعات الغرب و أهدافه في دحر الأتراك من شمال أفريقيا و أوروبا. و لكن ضعف الدولة العثمانية في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر، حيث أصبحت تركيا "الرجل المريض" بين الدول الكبرى العالمية، أوجب عليها شروط و امتيازات جديدة للدول الأوروبية. فكانت المرحلة الثالثة حيث ارتبطت السلطات العثمانية مع العواصم الغربية بمعاهدات متتالية كرست حماية هذه الأخيرة لنصارى الشرق أولاً و نفوذهم في مناطقهم ثانيا. و لكن المرحلة هذه لم تكن إلا لتفجر تيارين في المناطق الشرقية: تيار قومي تركي، رفض الخضوع للغرب المسيحي و طالب بتتريك جميع المناطق الواقعة في ظل الأمبراطورية العثمانية. و قد رأى هذا التيار أن ضعف الدولة التركية الأسلامية يأتي من عدم تجانس العناصر التي تحتوي عليها. فطالب بتحويل هوية المنطقة التعددية الى تركية عثمانية صرفة. و أدت هذه السياسة التي طبعت أواخر القرن التاسع عشر و أوئل القرن العشرين الى قيام ردات فعل متباينة لشعوب الأمبراطورية التي رفضت كل واحد حسب تصوره حملة التتريك هذه.

فبينما رفض المسيحيون التتريك، رفضا حضارياً، حيث إنهم لا يزالون يعانون من التعريب و زادت مآسيهم بالحملة العثمانية، رفض العرب المسلمون التتريك لسببين، الأول قومي حيث أن العرب ارتبطوا بالعثمانيين إسلاميا، إنما لا يزالون عرباً و لا يريدون التحول الى أتراك.

و السبب الثاني أدى الى انطلاق التيار الثاني، و هو تيار القومية العربية. فالشعوب الأسلامية العربية التي وضعت ثقتها بالسلطان العثماني كخليفة شرعي للعباسيين و الأمويين و الراشدين، انتفضت ضد سياسة تركيا المنهزمة أمام الغرب و المستسلمة له. فثارت هذه الشعوب قومياً على الباب العالي و طالبت بالمشاركة مع الأتراك في إدارة شؤون العالم الأسلامي. و عندما لم تفلح بهذا المشروع و بدأت الدولة العثمانية كلها بالسقوط، ارتد العرب و طالبوا بقيام دولة عربية فور تراجع الأتراك، لتتولى هذه الدولة شؤون الدفاع عن الأسلام بعد أن فشلت السلطة بذلك.

من خلال هذه الصورة التحليلية الموجزة، نستطيع فهم حقيقة الوضع في الشرق تحت الحكم التركي. فالأقليات تعاني ضغط الأكثرية العربية الأجتماعي و الأقطاعي و ضغط العثمانيين السياسي و العسكري. لذلك فإن مقاومة هذه الأقليات، و خاصة في لبنان اتخذت شكلا جديدا و اتبعت منهجية أكثر حذراً.

و تلخص خطة المسيحيين في المنطقة كما يلي:

1- الألتفاف حول السلطة الدينية، و مواصلة العيش الجماعي من خلال الإحتماء بالمؤسسات الدينية و بالتنظيمات الكنسية. و لم تكن الحماية الأوروبية للمسيحيين الشرقيين إلا لتجعل هؤلاء أكثر التصاقا بالمسؤلين الدينيين، الذين يستطيعون وحدهم طلب التدخل. لأنه لم يكن للمسيحيين سلطة سياسية غير سلطة الدولة الأسلامية.

2- دعم المسيحيون، أو بعض المفكرين منهم، حركة النهوض العربية، مستهدفين إقامة تيار قوي عربي علماني كي يضربوا الحكم العثماني الذي يمثل الأحتلال. فمشاركة بعض المثقفين المسيحيين في حركات و جمعيات قومية عربية، أدبية و سياسية، ليست إلا محاولة لضرب الأكثرية من خلال إقامة تيار تصوروه علمانياً. و قد استهدفوا من ذلك، القضاء على حكم الأكثرية بسلاح و قوة الأكثرية نفسها.

3 - التقرب من الأقليات غير المسيحية و غير التركية كالشيعة و الدروز و التحالف التكتيكي معهما ضد خطر الأكثرية. و لقد نجحت هذه التحالفات أحيانا و سقطت أحيانا أخرى حسب استغلال الدولة العثمانية لعامل العاطفية الدينية، كما حصل في لبنان.

4 - اتصل المسيحيون بالغرب دوما من خلال عدة قنوات و طالبوه بالتدخل لصالحهم، فأعدوا له دائما العدة لكي يشاركوه معهم في تحرير أرضهم.

5 - استمر المسيحيون في تتبع الثقافة المسيحية في الغرب و استيعابها، إذ إن الضغط الثنائي العربي - العثماني قد قضى على الثقافات المحلية المسيحية في الشرق.

انطلاقاً من هذا البرنامج التاريخي للمسيحيين، نستطيع إدراك أي عمل أو تيار أو كيان شارك أو قام به هؤلاء طيلة أربعة قرون من حكم الأتراك.

إن سقوط بيزنطية قد أثر مباشرة على قوة المسيحية المشرقية، فلم تستطيع إقامة دولة خاصة بها. فالمسيحيون في الشرق لم يستطيعوا إقامة دولتهم من جديد بعد اجتياح المماليك لكسروان، لأنه لم توجد دولة صديقة بقربهم، تمدهم بالمساعدات و تحارب العرب كي تمتص جزءا من قوة الأعداء. و لا يمكن لأي شعب. إذا حللنا موضوعيا، أن يقف على رجليه ويستقل، في وضع كوضع لبنان - الأقلية، إلا بمساعدة دولة قوية تعاني نفس المتاعب و يربطها به مصير مشترك بوجه خصم مشترك. و الدولة البيزنطية كانت الدولة التي اجتمعت فيها هذه الخصائص كلها: مصير واحد، عدو واحد، منطقة واحدة. و بالقضاء عليها، أصبح القضاء على لبنان المسيحي المستقل أمرا بديهياً.

بالفعل، إن سقوط القسطنطينية أدى لذلك مباشرة، و لو أن أجتياح المماليك وقع من قبل، الى انتهاء عهد الأستقلال اللبناني المسيحي الحقيقي.

كذلك بانتهاء هذا الأستقلال، فقد مسيحيو الشرق المقهورين في سائر أنحاء سوريا و العراق و فلسطين و مصر، أي أمل في الأستقلال و الصمود طالما أن لبنان المستقل و هو رمز بقاءهم التاريخي قد سقط..

لذا، فالتوجه عند مسيحيي الشرق، و خاصة الواقعين في المناطق السهلية والساحلية، كان الى عروبة جديدة يخلقونها كي يستطيعوا من خلالها ضرب الأستعمار التركي. و لكنهم لم يدركوا، كما سنرى فيما بعد، أن التيار الذي شاركوا فيه، لا بل أسسوه، انقلب عليهم و أعاد التاريخ الى الوراء أي الى الحكم العربي.

هذا بالنسبة للمنطقة، أما بالنسبة للبنان فالوضع كان أكثر تعقيدا.

القسم الثاني : الحكم العثماني ولبنان    

إن الأربعمئة سنة التي مر بها لبنان تحت نير الأستعمار التركي تشكل مرحلة تاريخية بارزة و مجهولة في نفس الوقت.

إنها بارزة لأن المؤرخين جميعهم، غربيين كانوا أم شرقيين، أوروبيين كانوا أم لبنانيين، قد أعطوا عن هذه الحقبة صورة واضحة ملونة كبيرة، بينوا من خلالها، أمجاد و نكبات و قضايا كثيرة و عظيمة. فجميع الذين بحثوا في هذه المرحلة من تاريخ لبنان، و ناقشوا فيها و حللوها قد وصلوا تقريبا الى نفس الأستنتاجات:

·         الإستقلال اللبناني الحقيقي بدأ مع فخر الدين ....

·         جيش لبنان بدأ مع جيش فخر الدين ....

·         التعايش في لبنان بدأ مع فخر الدين ....

·         نشأت الأمة اللبنانية مع إمارة فخر الدين ....

·         العصر الذهبي للبنان كان داخل حدود إمارة فخر الدين ....

و يزايد هنا المفكرون السياسيون و المؤرخون، مستندين الى بحوث مستشرقين أوروبيين (قلما يفهمون بعضهم البعض، عارضين نظريات قومية و شبه قومية، يفسرون بها قيام الوجود و الأستقلال و الأمة اللبنانية من خلال تاريخ يجيدون كتابته بالتفاصيل الصغيرة و مزينة بقصص و أساطير عديدة. و قد طغت هذه الظاهرة التقليدية في علم التاريخ اللبناني، لا سيما و أن دولة لبنان الـ 43 قد ساهمت في تشجيع هذه النظرة، في جميع المؤلفات و الكتب المدرسية و الجامعية و الأعلامية، حتى أنه لم يبقى شخص واحد إلا و أيد هذا التصور لتاريخ لبنان خلال الأربعة قرون هذه ... و لكن هذه المرحلة ظلت مجهولة لأنه لم يُقل شيىء عن كل جوانب حقيقتها و لأن الأضواء سلطت على وجه واحد دون الأهتمام بالوجه الآخر.

فالمؤرخون جميعهم "يقفزون" دائما من نهاية دولة المردة ( هذا إذا لم يحصروا فترة استقلال المردة التام في بضعة سطور) الى بداية الإمارة، دون أن يفسروا هذه القفزة و دون  أن يبرروا هذا العبور العشوائي علمياً. و الأعجب من ذلك أن تناقضاً صارخاً يحصل عندما يواصلون عرض تاريخ لبنان من منظار الإمارة و يصلون الى القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين.

فالأمارة تتفجر وتتلاشى و تنبت مكانها دويلات على نمط التي قد وجدت أبان الفتح العربي. و لعل المؤرخين هنا يبدأون بتحميل مسؤولية تفجير الأمارة على الغرب تارةً، و على الشرق طوراً، ليستطيعوا مواصلة العرض دونما مناقضة أنفسهم و كأنما الشرق والغرب لم يتدخلا من قبل ....

بالنسبة لنا، لا نناقش تطور الأحداث و لا صحتها ماديا. بل ما يهمنا هو تفسير التاريخ على نمط لا يتناقض مع سيرة التاريخ، و ذلك بالأنقطاع عن خط اتجاهه لفترة من الزمن و استمراره باتجاه آخر بعد إنهاء فترة الإنتقال هذه.

فبذات السيرة المادية للتاريخ، ننظر نحن إليه من خلال ما باشرنا باستعراضه و من خلال الواقع و المنطق. فلن نمس التواريخ، التي يقدسها المحللون و المؤرخون، و لا سيرة المعارك و التنقلات التي لا يناقشها أحد، بل سنواصل مسيرتنا دون انقطاع و دون تغيير أتجاه و نصل بأمان فكري الى ما نحن فيه اليوم.

لقد توقفنا في تاريخ لبنان عند اجتياح المماليك لكسروان و لتهجيرهم سكانه و إقامة قبائيل عربية إسلامية مكانهم. فعلى أثر هذه الحملة، انكمشت رقعة لبنان المسيحي الى حدود نهر ابراهيم - العاقورا جنوباً و جبة بشري شمالاً، و أصبحت مناطق جبيل و البترون قلب لبنان، و الأكثر رفضا للعروبة و الأكثر إرتباطاً بالفرنج.

هذا يعني أن انحلال الوطن القومي المسيحي لم يحصل في فترة واحدة لأن الأمة اللبنانية مع خسارتها لجنوبها و كسروان، و ضعفها في الشمال استمرت في جبيل و البترون و المناطق المحيطة بها، و ظلت القوات العسكرية اللبنانية قائمة و المردة مستعدة للدفاع عن الكيان. أما العلاقات مع الفرنج أو مسيحيي الغرب الشرقيين أبناء الصليبيين، فظلت وطيدة و الأتصالات مكثفة\ن لأن انسحاب الصليبيين من سواحل فلسطين و سوريا ولبنان لا يعني رجوعهم الى أوروبا. بل تحصنوا في قبرص و لم ينكفئوا عنها إلا مع دخول الأتراك إليها. و قامت قوات الصليبيين بغارات كثيرة على قواعد العرب المماليك في سوريا و لبنان و مصر، محاولة استرجاع المناطق أو على الأقل اضعاف القوة العسكرية العربية. و شارك اللبنانيون الموارنة المردة على الأخص بهذه الحملات، حيث أن عددا كبيرا منهم كان قد هاجر الى قبرص حيث التحم مع الصليبيين فيها. و تذكر المناشير الصليبية أن 22  ألف مقاتل من مردة لبنان قد شاركوا في حملة الملك لويس11 على مصر. و الجدير بالذكر هنا، أن التواجد التجاري و الأقتصادي للبندقيين في بيروت و بعض مدن الساحل، و وجود الجنوبيين بقيادة عائلة لوزينيان في قبرص قد ساهم في مرحلة هامة من التوجيه الثقافي لمسيحيي لبنان: فكما رأينا، و على إثر الحصار العربي السياسي العسكري الإقتصادي و اللغوي لجبل لبنان، تراجعت اللغة الوطنية السريانية أمام العربية. و لكن المسيحيين، ومنعا للذوبان الثقافي نقلوا قيمهم الفكرية الى اللغات المسيحية المستمرة. فبعد أن لجأوا الى اللاتينية، انتقلوا الى الايطالية. و الأنتقال من لغة مسيحية الى أخرى كلغة ثقافية، كان ملازما للحالة السياسية الجغرافية. اللغة اللاتينية كانت الأقرب الى السريانية جغرافيا، لوجود الدولة الرومانية على طول حوض البحر الأبيض المتوسط.

و عندما أتى الصليبيون، اتصل بهم المسيحيون الشرقيون و بلغاتهم جميعا، كالفرنسية و الأنكليزية و الألمانية و الأيطالية. و بانسحابهم، لم يبق للبنانيين إلا الإيطالية، حيث كان صليبيو قبرص و تجار البندقية إيطاليين و الأقرب جغرافيا. فباشر المثقفون الموارنة و غيرهم بتكلم و تعلم الإيطالية المسيحية، خاصة و أن مدرسة و مراكز علمية و دينية مارونية قد أنشأت في روما و أصبح لديها نفوذاً هاماً. فأصبح الجسر الثقافي اللغوي لايطالي- اللبناني، خطا تموينيا فكريا يربط المسيحية الشرقية بالمسيحية الغربية و يمنع القضاء على الأولى ثقافيا وحضاريا، و يسمح استمرارها من خلال مشاركتها أخواتها الغربيين في التقدم الحضاري و الأنتاج الثقافي. نرى إذا أن الحياة الثقافية، حتى و لو انكمشت جدا عند اللبنانيين، قد استمرت من خلال هذا الجسر العضوي و تطورت فيما بعد كما سنرى لاحقا.

و استمرت الحالة هذه قرنين، تميزت المرحلة التاريخية فيها بذروة المقاومة على الصعيد القومي و الثقافي واللغوي، و أقصى إمكانات الصمود. فالأنكماش الجغرافي الضيق و الأنقطاع عن الغربيين إلا عن البعض منهم المتواجدين في المدن وقبرص، أدى الى قيام حالة من البؤس، تحملها اللبنانيون بشجاعة فزاد تمسكهم  باستقلالهم و حضارتهم.

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها