عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
   د. أندريه كحّالة

د. أندريه كحّالة

بيروت – لبنان


 لبنان الآرامي والتسميات التاريخية القديمة

L'histoire n'est pas une suite de faits, mais leur synthèse.              Jawad Boulos

        إنّ أوّل ذكرٍ لبلاد الآراميين ولملك آرام، نجده في أقدم حفريّةٍ في ديار بكر (تركيا الحالية) للملك "نارام سن" الأكادي، حوالي سنة 2600 ق.م.، حيث يذكر أيضاً منطقة أموروّ أي المنطقة الغربية نسبةً إلى آكاد[1].

        إنّ تسمية "آرامو" أو "آرامي" سوف تظهر حوالي 2000 ق.م. لتحل مكان تسمية "أخلامو" الأصلية في الهلال الخصيب ومناطق الفرات خاصة (ومعناها "الرفيق"). وتسمية "آرامي" معناها "أهل المناطق العالية" أو "أهل الجبل" حيث سيطر الآراميون في ما بعد على بقية مجموعات "الأخلامو" وثبتوا تسميتهم عل المنطقة بكاملها.

       كذلك في تسمية "عبراني" وأصلها "خابيرو" التي كانت تعني "المرافق" (أو "البربري" حسب المصطلح اليوناني الروماني) فتسمية "عبري" وأصلها من "عبر" وهو رئيس في قبيلة الخابيرو في المناطق الفسلطينية الساحلية (وتعني أيضاً بصورة أشمل "التائه والرّحل" كما أن كلمة "عربي" تعني "البدوي")، وفي ما بعد جاءت تسمية إسرائيل التي أطلقت على يعقوب وعلى قسمٍ من العبرانيين[2]...

       أمّا إسم لبنان بلفظه المعروف، فهو أقدم تسميةٍ ما زالت تستعمل حتى اليوم لبلدٍ أو منطقةٍ... وأقدم أثرٍ لهذه التسمية ذات الأصل السامي، نجده على نقوش تعود إلى حوالي 2000 سنة ق.م. إلى جانب التسمية كنعان[3]. وقد أتى ذكر لبنان أكثر من سبعين مرة في العهد القديم[4].

          فكلمة لبنان هي من جذر "لبن" ويعني البياض للدّلالة على المناطق الجبلية.

         وكلمة كنعان هي بمعنى المنخفض للدّلالة على المناطق الساحلية.

         فالكتابات الفرعونية والبابلية في الألف الثاني ق.م.، تطلق على المناطق الفلسطينية واللبنانية الساحلية إسم كنعان، دون تدقيق للحدود[5]...

       هذه البلاد الكنعانية كانت تتألف من مدن وممالك مستقلة: أوغاريت، جبيل، صيدون، صور، أورشليم، أريحا حيث شكلت المدن الساحلية أولى الممالك التجارية في التاريخ[6].

أما كلمة "فينيقيا" فهو لقب أو تسمية يونانية لم يبدأ استعماله إلاّ في الألف الأول ق.م.[7]

          في التوراة، وهي من أقدم المصادر التاريخية، نجد كذلك تسمية المناطق الجبلية باسم لبنان، بينما تسمية "بلاد آرام" تستعمل للمناطق الداخلية، ولا ذكر لكلمة "سوريا" في التوراة... بل تذكر دويلات آرامية أهمها: "آرام دمشق"[8].

        إنّ كلمة "سوريا" بالتحديد هي بالأصل لفظة بابلية كانت تطلق على مقاطعة في بابل تقع إلى الغرب من الفرات الأعلى، ثم تعمم هذا الإسم من مبدأ تسمية الكل ببعضٍ منه، والظاهر أن الإغريق أطلقوا اسم "سوريا" على "بلاد آرام"، ومنهم من يعتقد أنّه تحريفٌ للفظة آشور = أسور، كما أطلقوا على أهلها إسم سريان[9].

        إذاً بالمختصر، نجد أن هذه المنطقة المسماة قديماً "امورّو"، سوف تعرف لاحقاً باسم بلاد آرام بالنسبة إلى العبرانيين، وفيما بعد باسم بلاد سوريا، بالنسبة إلى اليونانيين[10].

       لا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أن تسمية "الهلال الخصيب" تعود إلى عالم الآثار كلاي في القرن التاسع عشر[11].

       في العصور القديمة، بينما كانت امناطق الآرامية الداخلية تتعرض للتأثير البابلي، كان الساحل الكنعاني يدور في الفلك المصري الفرعوني[12].

       أمّا اللهجات المختلفةالتي تعود إلى الألف الثالث ق.م. في بلاد آرام، فهي الكنعانية والأمورية: الكنعانية انقسمت إلى فينيقية في الشمال وعبرانية في الجنوب. والأمورية اندثرت أمام الآرامية السامية في الألف الثاني ق.م.[13]

       مع انتصار الأمبراطورية الأشورية على مجمل الممالك الآرامية في القرن الثامن ق.م.، أدّى السبي والترحيل لانتشار الغة الآرامية في بلاد أشور: وهي المرة الأولى في التاريخ حيث تنتشر لغة الشعب المهزوم ويتبناها الشعب المنتصر.

       مع صعود المملكة البابلية حلّت اللغة الآرامية مكان اللغة البابلية كلغةٍ عالميةٍ للتجارة والدبلوماسية [14]lingua franca . أمّا سبي بابل الشهير 586.ق.م.، فقد أدّى إلى تكلم الشعب اليهودي للغة الآرامية عند عودته إلى بلاده من السبي وظلت لغته العبرانية لغة طقسية (حيث تكلم السيد المسيح باللغة الآرامية حسب لهجة الجليل وصلى باللغة العبرانية في المجمع...).

        مع حلول الأمبراطورية الفارسية الأخمينية (قورش 539 ق.م.)، أصبحت اللغة والكتابة الآرامية اللغة الرسمية في هذه الأمبراطورية الشاسعة من مصر إلى الهند (بدل اللغة الفارسية القديمة والكتابة المسمارية)[15].

       مع قدوم الإسكندر المقدوني، سيطرت الحضارة الهللينية اليونانية على حوض البحر الأبيض المتوسط (333-64 ق.م.)

        أمّا الممالك الهلينية التي ورثت الإسكندر، فما يهمنا منها هي المملكة السلوقية وعاصمتها أنطاكيا، حيث نجد للمرة الأولى ذكر لكلمة "سوريا" إبتداءً من سنة 312 ق.م. والمملكة اللجيدية وعاصمتها الإسكندرية. هاتان المملكتان ظلتا بحالة حرب طوال ثلاثة قرون إلى أن جاءت الجحافل الرومانية (سنة 64 ق.م.) لتحتل الشاطئ كله وتفرض ما عرف "بالسلم الروماني" على حوض البحر الأبيض المتوسط.

        لا بد من ذكر الاحتلال العابر لبلاد السريان وما بين النهرين من قبل الملك الأرمني تيغران (92 ق.م. – 64 ق.م.) بالتحالف مع الملك الفارسي ميتريداد...

       هذه الأمبراطورية اليونانية السريانية السلوقية التي امتدت من أنطاكيا إلى إيران يصفها مونتسكيو كما يلي: لو ظلّ سلوقس في بابل وترك المناطق البحرية لخلفاء أنتيغونن لكانت الأمبراطورية السلوقية لا تقهر بالنسبة إلى الرومان[16].

        مع سيطرة الأمبراطورية الرومانية، تطورت حضارتان بشكل حرّ ومتقابل في المشرق: الأولى حضارة بحرية وهي الأمبراطورية الرومانية، والثانية حضارة قاريّة وهي الأمبراطورية الفارسية، وكان خط التماس بينهما هو نهر الفرات[17].

       هذه الحضارة البحرية ارتكزت على الفكر اليوناني، واستعمال اللغتين اليونانية واللاتينية، مع انتشار الديانة المسيحية[18].

 بالخلاصة:  إن تبلور الهوية المشرقية يجد جذوره في التاريخ القديم حيث قام الفينيقيون بأول توحيد إقتصادي للعالم المتوسطي في الألفية الأولى قبل المسيح. أمّا الحضارة الهلينية اليونانية، فقد قامت بالتوحيد الثقافي للمتوسط، والرومان أخيراً سيجعلون من هذه المنطقة وحدة سياسية، هذه الوحدة دمّرت مع سقوط الأمبراطورية الرومانية الغربية (486 ق.م.) ولم يتمّ إعادة بنائها في ما بعد[19].

        أمّا الوحدة الدينية، فقد جاءت مع الديانة المسيحية لتكتمل مرتكزات الهوية عند الشعب المشرقي...

       في لبنان، بدأت الآرامية بالانتشار منذ 300 ق.م.، أمّا اللغة الفينيقية، فهي تظل بالاستعمال حتى القرن الثاني ميلادي، ثمّ يتمّ استبدالها بالآرامي (السّرياني) كلغة عامية[20].

        مع المرحلة الهلينية، تفرعّت اللّغة الآرامية إلى لهجاتٍ عديدةٍ "dialectes".عندما تنصّرت القبائل الآرامية، تخلّت عن اسمها القديم "آرام" لأنّ الآسم هذا كان يذكرها بوثنيتها وتسمّت باسم سريان أي سوريين.[21]

        من الجدير بالذكر "أن تسمية الشاطئ اللبناني باسم بلاد كنعان، سوف تستمر حتى أوائل الحقبة المسيحية"[22]

        أيضاً مع المرحلة الهلينية، فإن اللغة اليونيانية، سوف تصبح اللغة الثانية على الشاطئ الفينيقي كلغةٍ عالميةٍ للتجارة مع هلّنة الأسماء: "صور" تصبح "تير"، "عشتروت" تصبح "أشترتي"، "أشمون" يصبح "أدونيس"، بلاد كنعان تصبح فينيقيا وبلاد آرام تصبح سيريا[23].

        إنّ التّسمية "السامية" قد تمّ اختراعها في نهاية القرن الثامن عشر: للدلالة على العبرانيين والآراميين وغيرهم: "أمّا اللغات الأكادية أو البابلية، والأشورية والأمورية والكنعانية والفينيقية والعبرانية والآرامية، فهي سوف يتمّ امتصاصها كلها بدايةً من الارامية-السريانية، ثمّ من العربية: هذه اللغة العربية مع العبرانية الحديثة والأثيوبية هي اللغات الوحيدة التي ورثت اللغات السامية"[24].

        ومن المعتقد أن اصطلاح "السامية" أطلقه العالم الألماني "شلازل" سنة 1781 مستنداً إلى أن اللغات الثلاث: الآرامية والعبرانية والعربية لها نفس القواعد واللفظ تقريباً، فشملها كلها وسمّاها "ساميّة".

        أمّا اللهجة السريانية الغربية، فهي لهجة الرها (أديسا) التي كانت مملكة آرامية (132 ق.م. حتى 244 م.). حكمها الأباجرة حتى سقطت بيد الرومان... وقد لجأ المسيحيون بعد طردهم من بلاد الكلدان والفرس إلى تلك المناطق حيث ازدهرت المدارس اللاهوتية في الرها ثمّ نصيبين... وصولاً إلى القرن الخامس ميلادي، حيث أدّت الانشقاقات بين الأرثوذوكس والنسطوريين إلى انقسام مدرستين: الأولى في أديسا للأرثوذوكس الذيي سيصبحون يعاقبة أو مونوفيزيين، وفي نصيبين حيث انسحب النسطوريون ليؤلفوا عاصمة ثقافية للمجتمع الكلدو-فارسي. نتيجةً لهذا الانقسام، تفرقت اللغة الآرامية وهي اللغة الوطنية لمجمل الهلال الخصيب، إلى لهجتين ثقافيتين: لهجة الرها أو اليعقوبية (السريانية) التي استعملت في فلسطين سوريا وشمال بين النهرين، ولهجة نصيبين أو النسطورية (الكلدانية) في الشرق وفي كل البلاد التي دخلها المبشرون النسطوريون لكن السريانية الرهاوية تظل في كل الأمكنة اللغة الكهنوتية والأدبية[25].

        توضيحٌ صغير عن مار مارون الذي توفي حوالي 410م. فهو كان متنسكاً في ما عُرِفَ بمنطقة "سوريا الثانية" وعاصمتها أفاميا (قلعة المضيق) على مجرى العاصي.

        أخيراً، ماذا عن العنصر العربي خلال هذا التاريخ القديم:

"إنّ كلمة "عربي" أو "عرب" المذكورة في الكتابات الأشورية للقرن التاسع ق.م.، كانت تعني العناصر والتجمعات الرحّل التي كانت تعيش في الصحراء غرب الفرات"[26].

        حتى خلال الحقبة الفارسية والرومانية، "لم تكن اللغة العربية مشابهة لتلك اللغة الأدبية للقرون التالية". فإن أقدم كتابة عربية شبيهة باللغة العربية الكلاسيكية تعود إلى 328م[27].

        وفي رأي المستشرق "Weil"، فإن نظرية انشقاق الخطوط، تشير بكل جلاء إلى انشقاق القلم العربي من القلم النبطي المتفرع بدوره عن الخط الآرامي...

        كلمة أخيرة عن علاقة الآرامية بالسريانية، بما يعاكس النظرية القائلة بأن التسمية السريانية تمّ اعتمادها لتعني مسيحية، وذلك للابتعاد عن التسمية الآرامية التي كانت ذات دلالة وثنية خاصة عند اليهود... فالنصوص التالية تبيّن أن الكتّاب المسيحيين لا يفرقون بين الآرامية والسريانية...

          فأهم نص يمزج بين الآرامية والسريانية نجده عند مار يعقوب السروجي (توفي سنة 521م) وهو يتكلم عن مار أفرام السرياني توفي سنة473 بقوله:

"هذا الذي صار إكليلاً للآراميين كلهم – هذا الذي صار بليغاً عند السريان"[28].

          كما أن مار يعقوب الرهاوي يؤكد في أحد ميامره (القرن الثامن)

"وهكذا نحن الآراميون أي السريان"[29].

          وفي تاريخ مار ديونوسيوس التلمحري (القرن التاسع)

"ومنذ ذلك الوقت، بدأ أبناء هاجر (بمعنى العرب المسلمون) يستعبدون الآراميين استعباداً مصرياً"[30]

          في تاريخ إيليا مطران نصيبين السرياني الشرقي (القرن العاشر)

"أمر الحجاج ألاّ يقوم بطريرك للمسيحيين. وبقيت الكنيسة الآرامية (أو كنيسة بلاد الآراميين) بدون بطريرك إلى وفاة الحجاج"[31].

          كتب البطريرك ميخائيل السرياني (القرن الحادي عشر)

"بمساعدة من الله سوف نذكر أخبار الممالك التي أقيمت في القديم، بفضل أمتنا الآرامية، أي أبناء آرام، الذين أطلقت عليهم تسمية سريان"[32].

  الدكتور أندريه كحاله

منشورات هيئة الثقافة السريانية

يتبع

            *           *           *           *


[1] جواد بولس:"شعوب وحضارات الشرق الأدنى" الجزء الأول، ص 257.

[2] جواد بولس، الجزء الأول، ص 380.

[3] ص 166

[4] الأب جوزف محفوظ: مختصر تاريخ الكنيسة المارونية (بالفرنسية)

[5] ص 211

[6] ص 322

[7] ص 212

[8] د. أنيس فريحة: "معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية"، المقدمة xx

[9] د. أنيس فريحة، نفس المرجع

[10] جواد بولس، الجزء الثاني، ص 133

[11] ص 87

[12] ص 86

[13] ص 332

[14] الجزء الثاني ص 305

[15] الجزء الثاني ص 305

[16] ص 82

[17] ص 81

[18] ص 81

[19] ص 55

[20] جواد بولس، الجزء الثالث، ص 61.

[21] أنيس فريحة: المرجع المذكور، المقدمة.

[22] جواد بولس، الجزء الأول، ص 212.

[23] جواد بولس، الجزء الثالث، ص 396.

[24] جواد بولس، الجزء الأول، ص 110

[25] جواد بولس، الجزء الثالث، ص 270.

[26] جواد بولس، الجزء الثالث، ص 86.

[27] جواد بولس، الجزء الأول، ص 296.

[28] PATRULUCIA ORIENTALIS / Tome 47 – No.209 (1995) page 64.

[29] Jacques D'Edesse, Scolie, Patrologie Orientalis / Tome 29 (1960) page 196.

[30] CHABOT (J.B), Quatrième partie de la Chronique Syriaque de Denys de Tell-Mahre, Texte Syriaque / Page 11

ELIE, Evêque de Nisibe, Chronologie / page 153.[31].

[32] CHABOT(J.B), La Chronique Syriaque de Michel le Syrien / T3 page 442.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها