عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
   د. أندريه كحّالة

د. أندريه كحّالة

بيروت – لبنان


مرتكزات الهويّة القوميّة للشعب الآرامي – السّرياني

إنّ الدّراسة العلميّة بعيداً عن الانسياق العاطفي تمكِّننا من توضيح الأبعاد التي تسمح لنا بأن نعتبر الآراميّة تعبيراً ذا هيكليّةٍ قوميّة، فالآراميّة هويّةٌ كاملةٌ تشمل كلّ مقوّمات الشّعب.

       إن بحثنا إذاّ يتعدّى التّحديد الفرديّ للهويّة، كما أنّه أوسع من التّحديد المناطقيّ والطّائفيّ بالمعنى الدينيّ الصّرف ليشمل التّحديد الاجتماعيّ والحضاريّ عبر التّكوين التّاريخيّ للهويّة القوميّة.

        إن الخطوة الأولى يجب أن تكون بالخروج من عقدة الذّنب التي منعت الأجيال الاستقلاليّة من المجاهرة بالخصوصيّة المسيحيّة عموماً والآراميّة السّريانيّة تحديداً، فسقطوا في فخّّ "الهويّة اللّبنانية" وكل ما يستتبع ذلك من إبهامٍ وتمييعٍ للخصائص الأساسيّة تحت ستار وحدة الشّعب اللّبناني ووحدة الأرض والمؤسّسات...

        فالموقف إذاً مبدأيٌّ أكثر منه سياسي ويمكننا تشبيهه بالهويّة الأرمنيّة أو الهويّة الكرديّة... لأنّه مع احترامنا لهويّتنا الدّستوريّة، لا نستطيع التّفريط بهويّتنا القوميّة...

        لن ندخل في المسألة العرقيّة لتحديد الهويّة في عرضنا، وذلك لضيق المجال:

أمّا مرتكزات الهويّة القوميّة، بصفتها أشمل من الهويّة الوطنيّة الدّستوريّة فهي أربعةٌ كحدٍّ أدنى:

 الدّين – الّلغة - الحضارة – التّاريخ.

 1-     المرتكز الدّينيّ:

       وهو في طبيعة الحال يأتي في المرتبة الأولى أهميّةً. فالدّين في حدّ ذاته هو نقطة الفصل الأولى بين الشّعوب من حيث النّظرة إلى الله وإلى المجتمع وإلى الإنسان وما ينتج عن ذلك...

        فالاختلاف بين المسيحيّة والإسلام يؤدّي إلى استحالة الحوار على الصّعيد الدّيني والّلاهوتي، بينما يأتي الحوار واللّقاء في شكلٍ طبيعيٍّ بين مختلف الكنائس المسيحيّة انطلاقاً من الإيمان بالمسيح الواحد. فالهويّة الدّينيّة إذاً عند الشّعب الآرامي هي "هويّة مسيحيّة مشرقيّة أنطاكيّة"، مهما اختلفت الكنائس والطّقوس وهو موضوع التّوحيد الأول.

 2-     المرتكز اللّغوي:

       إن اللّغة الأمّ للشّعب الآرامي السّرياني هي بالطّبع اللّغة الآرامية السّريانيّة، وذلك على امتداد الهلال الآرامي الخصيب... باللّهجة الآرامية السّريانيّة الشّرقية أم الغربية...

        هذه اللّغة الآرامية السّريانيّة التي عمّت وانتشرت إنطلاقاً من الهلال الآرامي مع سيطرة الأمبراطوية الفارسية الأخمينية إبتداءً من سنة 540 ق.م.، بحيث أصبحت لغة الدّولة الرّسميّة من حدود الهند وحتى حدود مصر...

        لكنّ نقطة الضّعف في هذا المرتكز، هو كون الهويّة الآرامية السّريانيّة بُتِرَت من امتدادها اللّغوي على الصّعيد العملي، ولم يعد الشّعب العاميّ بأكثريّته السّاحقة يتكلّم السّريانيّة نتيجةً للاستعمار اللّغوي العربيّ... لا ننسى إذاً، أنّ اللّغة العربيّة هي لغة القرآن ممّا يجعل ارتباط العروبة بالإسلام إرتباطاً عضوياً، "فالعروبة جسمٌ روحه الإسلام".

        فإذا رجعنا إلى المقارنة مع الشّعب الأرمني أو الكردي، نجد هذين الشّعبين، وعلى رغم خسارة الأرض، حافظا على لغتهما الأصليّة، وبذلك يستطيع الفرد التكلّم عن هويّته الأرمنيّة مثلاً إنطلاقاً من لغته المحكيّة الأرمنيّة، من دون أن يحتاج إلى الغوص في متاهات مرتكزات الهويّة، كما نحن مجبرون أن نفعل... وقد وصل بنا التّشويه إلى درجة أنّ الأرمن يصفون المسيحيين اللّبنانيين بأنّهم "أولاد عرب" لتمييزهم عن أنفسهم. أمّا عن أسباب خسارتنا للمعركة اللّغوية، فلها جذورٌ تاريخيّةٌ أتت على مراحل، أوّلها كانت خطّة السّيطرة الإستعمارية اللّغوية لدى الحكم الأموي وتحديداً مع الخليفة الأموي الخامس، عبد الملك بن مروان، الذي أصدر مرسوماً خطيراً بنتائجه إبتداءً من سنة 691، ويقضي باعتماد اللّغة العربيّة لغةً رسميةً في كافّة دواوين الدّولة الأمويّة بدل اللّغة اليونانيّة والفارسيّة. هذه الدّولة الأمويّة، التي كانت تمتدّ جغرافياً على مساحةٍ لم تصل إليها أمبراطوريةٌ أخرى في هذه المنطقة من العالم، أي من السّند إلى شبه الجزيرة الإسبانية...

        قد لا نرى غرابةً في هذه الخطّة بالمنظار التّاريخيّ، لأنّ كلّ دولةٍ تسيطرعلى منطقةٍ ما، تجلب معها لغتها، كما فعل الإسكندر في القرن الرّابع ق.م.، عندما أدخل اللّغة اليونانيّة والفكر والفلسفة اليونانيّين مع فتوحاته، وكما فعل الرّومان، أو في العصور الحديثة كما كان من أمر الإستعمار الفرنسيّ، والبريطانيّ أو الإسبانيّ...

        لكنّ الفارق الأكبر والأخطر في الإستعمار اللّغوي العربيّ هو أنّ اللّغة العربيّة هي لغة القرآن والفتوحات العربيّة كانت قبل كلّ شيءٍ فتوحاتٍ إسلاميّة.

  "إن الفتوحات العربيّة كانت تعبيراً سياسيّاً عن توحيد الشّعوب العربيّة تحت راية الإسلام[1]."

        إلى جانب ذلك، فإن الفتوحات العربيّة الإسلاميّة، لم تجلب معها قِيَماً حضاريةًّ أو فكريّةً، بل قامت بجمع الفكر والفلسفة والعلوم اليونانيّة والسّريانيّة، وترجمتها إلى العربيّة، بواسطة المترجمين السّريان، كما هو معروفٌ، ممّا أدّى إلى تطوّر الفكر العربيّ، بعدما هضم هذه الحضارات...

        هكذا، إنتقلت العروبة بصفتها لغة القرآن (أي لغة الله ولغة أهل الجنّة)، من المستوى اللّغوي الدّينيّ إلى المستوى الحضاريّ بالمعنى الواسع، فأصبحت اللّغة مطيّةً للسّيطرة العربيّة سياسيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً،وما إلى ذلك...

    ماذا عن وضع الهويّة اللّغوية عند الشّعب الآرامي السّريانيّ؟ وهو بالطّبع لم يخسر المعركة اللّغوية إلاّ بعد مراحل عديدةٍ من المقاومة، دامت مئات السّنين. هذه المقاومة، التي اتّخذت عدّة وجوهٍ خلال عدّة مراحل: ففي المرحلة الأولى، الممتدّة من القرن السّابع وحتى القرن التّاسع، نجد أنّ اللّغة السّريانيّة هي لغة التّعبير الطّبيعيّة عند الكتّاب السّريان، فالقدّيس يوحنا الدّمشقيّ، الذي عاش في دمشق تحت الحكم الأمويّ وتوفّي سنة 754، كتب باللّغة السّريانيّة أكثر ممّا كتب باليونانيّة، ولا شكّ أن اللّغة المحكيّة كانت السّريانيّة عند العامّة، واليونانيّة عند المثقّفين.

        من القرن التّاسع وحتّى القرن الرّابع عشر، لم تترك لنا الوثائق أكثر من الصّلوات الّتي كان يصلّيها الرّهبان والشّعب في الأديار، يرافقها العمل في الجلول التي كانوا يحفرونها في الجبال، وذلك لكثرة الحروب والتّدمير والحرائق[2]...

        أمّا وصول الحملات الصليبيّة إلى الشّرق، فقد سمح بفتح خطّ تبادلٍ ثقافيٍّ جديدٍ بين المسيحيّين وأوروبا، ممّا سيشكّل توجّهاً طويل الأمد نحو الغرب عامةً الممثَّل بروما وفرنسا.

        تجاه هذا التّراجع في اللّغة السّريانيّة لصالح اللّغة العربيّة على الصّعيد الاجتماعيّ، نلاحظ نوعين من ردّات الفعل، فمن ناحيةٍ جاءت الكتابة الكرشونيّة، أي بالحرف السّرياني واللّفظ العربيّ، للمحافظة على ما أمكن من التّراث. ومن ناحيةٍ ثانية، إزداد الانفتاح على أوروبا المسيحيّة مع الإرساليّات التي انتشرت في أراضي السّريان تحت الحكم العثمانيّ، من حلب إلى جبل لبنان، كما أنّ الظّروف المعيشيّة أجبرت الشّعب على تعلّم اللّغة العربيّة ليتمكّنوا من بيع محصولهم الزّراعيّ في المدن المأهولة بالعرب والمسلمين، خلال فترات الهدنة الطّويلة[3].

        هذه المقاومة اللّغويّة استمرّت ما يقارب السّبعة قرون إذاً، وظلّت الأديار هي سفن الخلاص اللّغويّة والثّقافيّة، وظلّ التّراث على ضآلته تحت حماية الكنيسة، بحيث حافظنا إلى اليوم على اللّغة السّريانيّة في طقوس الكنائس السّريانيّة الأنطاكية على اختلافها.

  3-     المرتكز الحضاري:

       قبل التوسّع في المرتكز الحضاري، لابدّ من التّوقّف على نقطةٍ هامّةٍ، وهي تأثير المكوِّن الجغرافيّ على الشّعب الآرامي السّرياني في الهلال الآرامي. لأنّ الوحدة الجغرافيّة شكّلت بحدّ ذاتها حوضاً حضارياً وبوتقةً ثقافيةً ساهمت في توحيد المسيرة الحضاريّة لسكّان هذه المنطقة، بحيث أنّ التّوحيد الحضاريّ جاء بالمرتبة الأولى في التّسلسل التّاريخيّ، يليه التّوحيد اللّغوي وأخيراً التّوحيد الدّيني...

        فالهلال الآرامي له حدودٌ واضحةٌ جداً، إنطلاقاً من الغرب، حيث يحدّه البحر الأبيض المتوسّط، إلى الشّمال وجبال طوروس تفصله عن آسيا الصّغرى، وهي تتّصل بالشّرق بجبال زاغروس الإيرانيّة، التي تفصله عن الدّاخل الأسيويّ، وفي الجنوب، حدودٌ في غاية الأهميّة، وهي الصّحراء الممتدّة من الخليج الفارسي شرقاً، والصّاعدة بشكل نصف دائريّ شمالاً، لتنخفض غرباً نحو خليج العقبة، هذا الفاصل بين الأراضي الزّراعية والأراضي الصّحراويّة – بين الحياة والموت هو الّذي أعطى تسمية الهلال الخصيب للهلال الآرامي. وقد أطلق هذا التّعريف، عالِم الآثار البريطاني "كلاي" في القرن التاسع عشر[4].

        أمّا المرتكز الحضاريّ بمعناه الواسع، فيشمل من المعارف والمعتقدات والفنّ والحقوق والأخلاق والعادات والتّقاليد، والّذي يطلق عليه الغرب إسم "الثّقافة".

        لهذا يعتبر المفكّرون أنّ لكلّ جماعةٍ ثقافةٌ خاصّةٌ بها: ونكتفي بمَثَلٍ واحدٍ عن الوحدة الحضاريّة في الهلال الآرامي، وهو عبادة عشتاروت على الشّاطئ الكنعانيّ ووجود باب عشتار في بابل ما بين النّهرين، وهي آثارٌ تعود إلى 1200 ق.م.

        وأكبر مَثَلٍ على الامتداد الحضاريّ الواحد إلى داخل الهلال، هو اكتشاف نصبٍ وُجِدَ قرب حلب، لملك آرام دمشق "ابن حدد عزر" إلى جانبه نقشٌ لصورة الإله ملكارت الفينيقيّ ليشكره على انتصاره على مَلِكَيْ إسرائيل ويهوذا (من القرن التاسع ق.م.)[5].

        أمّا في عصرنا الحاضر، فإنّ المميّزات الحضاريّة مختلفةٌ جذرياً بين الشّعب الآرامي السّرياني والشّعب العربي المسلم، حتى ولو حصل تجاورٌٌ أو تعايشٌ في منطقةٍ واحدةٍ أو بلدةٍ واحدةٍ. ونكتفي بالمواضيع الأساسية في حياة الإنسان، من ولادةٍ وزواجٍ ومفهومٍ للعائلة والعلاقات الإجتماعيّة والموت، لنتأكد من الفرق الشّاسع بين الثّقافتين وموقفهما من هذه المواضيع...

        على الصّعيد الفرديّ، لا لزوم للتّعمق في النّظرة المسيحيّة عامّةً تجاه الأولاد وتجاه المرأة كقيمةٍ إنسانيّةٍ وفي موضوع الزّواج وتعدّديّته، لنلاحظ المفارقات وأحياناً المعاكسات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية...

        على صعيد الزّيجات المختلطة، فهي مؤشّرٌ أساسيٌّ لخصوصيّة كلّ شعبٍ. وندرة الزّيجات المختلطة مؤشّرٌ على الحاجز البيولوجي إذا أمكننا القول بين الشّعبين...

        أمّا الكلام عن وحدة الشّعب اللّبناني من خلال وحدة العادات والتّقاليد بين قرى الجنوب المسيحيّة والمسلمة، فهذا الكلام ليس أكثر من ذرّ الرّماد في العيون، لأنّه لا يتعدّى المظاهر الخارجيّة لكلّ تجاورٍ بين شعبين، ولا يصل إلى القيم الأساسيّة التي يحيا ويموت عليها هذا الشّعب أو ذاك. (إنّ النّزعة القوميّة التي تفجّرت بين صربٍ وكرواتٍ ومسلمين بعد عشرات السّنين من الوحدة الدّستورية المصطنعة في دولة يوغوسلافيا السّابقة، هي العبرة الّتي علينا أن نتعلّم منها حتّى لا نقع بها).

        أمّا في القرون الماضية، فقد ظلّت الهويّة الحضاريّة واضحة المعالم حتى القرن الثّامن عشر على الصّعيد المجتمعي، من خلال اللّباس المميّز وطريقة العيش وإسم العلم وما إلى ذلك...

 4-     المرتكز التّاريخي:

       هذا المرتكز يجمع في تسلسله المرتكزات الثّلاثة الأولى التي مرّ ذكرها من دينيّةٍ ولغويّةٍ وحضاريّة. فالتّاريخ الواحد الذي جمع أهالي الهلال الآرامي منذ ما قبل المسيح بمئات السّنين، هو الّذي وحّد مسيرة هذا الشّعب نحو هويّةٍ واحدةٍ لغويّاً وثقافيّاً وصولاً إلى التّوحيد الدّينيّ مع انتشار المسيحيّة. فالممالك القديمة، أي حوالي 1200 ق.م. كانت مستقلّةً عن بعضها البعض وتُعْرَف كلّ واحدةٍ بتعريفٍ آراميٍّ مثل آرام دمشق، أو آرام صوبا (أي عنجر)، أو آرام نهرين على الفرات، وذلك تأكيداً على الوحدة الآرامية، رغم التّنافس السّياسيّ والاستقلاليّة لهذه المدن الممالك. وقد كان توجُّه مجمل هذه المدن الممالك نحو التّجارة وليس التّوسّع والحرب...

        أمّا توحيدها القسريّ، فقد جاء مع الأمبراطوريّة الفارسيّة الأخمينيّة، بين القرن السّادس ق.م. والقرن الرّابع ق.م.، كما ذكرنا، بحيث أنّ الإنكسار العسكريّ قابله انتصارٌ حضاريٌّ، إذ صارت اللّغة الآراميّة لغة الدّولة الفارسيّة الرّسميّة من شاطئ المتوسط حتّى حدود الهند... ولمّا جاء الإسكندر، كان التّوحيد العسكريّ لمّدةٍٍ بسيطةٍ حتّى مماته سنة 323 ق.م. لكنّ اللّغة اليونانيّة والفنّ والفلسفة اليونانيّين، قاما بتطعيم الحضارة الآرامية وفتح آفاق جديدةٍ للفكر المشرقيّ بحيث ترسّخت الثّنائيّة اللّغويّة: اللّغة الآراميّة عند العامّة، إضافةً إلى اللّغة اليونانيّة عند المثقّفين...

        وما تسمية المملكة السّلوقيّة بالمملكة "السّوريّة"، وعاصتمها أنطاكيا الّتي تأسّست حوالي 300 ق.م.، إلاّ اعترافاً بهويّتها السّريانيّة وهويّة الشّعب الّذي حكمه خلفاء الإسكندر لمدّة ثلاثة قرونٍ حتّى قدوم الفيالق الرّومانيّة[6]...

        أمّا انتشار الدّين المسيحيّ شرقاً وغرباً، فقد جرى تحت الاضطهاد في القرون الثلاثة الأولى، إلى أن جاء الأمبراطور قسطنطين الكبير وسمح بالدّيانة المسيحيّة (مع مرسوم ميلانو الشهير سنة 313م).

        أمّا ولادة الكنائس المشرقيّة المختلفة، فهي كانت تاريخياً ولادةً مجتمعيّةً في الوقت نفسه، كون المجتمعات السّريانيّة المختلفة نظّمت شؤونها من النّاحية السّياسيّة ومن النّاحية الدّينيّة بتكوين كنائس مستقلّةٍ لأنّ الاستقلال الكنسيّ جاء تعبيراً عن الاستقلال السّياسيّ تجاه حكم بيزنطيا الّتي عاصمتها القسطنطينيّة...

        هذا الوضع سوف يدوم ثلاثة قرونٍ أخرى إلى أن انطلق الفتح الإسلاميّ، في القرن السّابع ميلاديّ، صعوداً من الصّحراء العربيّة نحو بلاد السّريان في وقتٍ كانت فيه الأمبراطوريّة البيزنطيّة تخرج من حربٍ مدمّرةٍ دامت حوالي العشرين سنةٍ مع الأمبراطوريّة الفارسيّة.

        عند هذا المفصل، أي سنة 636 ومعركة اليرموك الّتي اندحر فيها الجيش البيزنطي، والتّي غيّرت وجه الشرق السّريانيّ، نحن أمام تاريخين منفصلين في هذا المشرق...

       من ناحية تاريخ الفتوحات الإسلامية والحكم الإسلاميّ (من الأموييّن إلى العبّاسيّين والمماليك حتى العثمانييّن)، ومن ناحيةٍ ثانية، تاريخ المشرق السّريانيّ في تراجعٍ مستمرٍ للشّعب السّريانيّ جغرافيّاً وديمغرافيّاً ولغويّاً تجاه الحكم الإسلاميّ، فيما يشكّل تاريخ المعاناة أو المواجهة في ردّة الفعل الذّمية أو ردّة الفعل المقاومة لهذا الاحتلال...

        فوجود هذين التّاريخين على رقعةٍ جغرافيةٍّ واحدةٍ، هو أساس الصّراع حول كتاب التّاريخ في السّنوات الماضية، بحيث أنّ منطق العروبة المنتصرة لا يسمح بتواجد هويّةٍ مختلفةٍ على أرض المشرق الّتي صارت تُعْتَبَر "أرضاً عربيّةً"، وصولاً إلى يومنا هذا: "إنّ الحرب المستمرّة في لبنان هي في الواقع وبشكلٍ أساسيٍّ، حربٌ تهدف إلى تحديد ماهيّة التّاريخ الصّحيح للبلد"[7].

       خلاصة عامة:

       تحديداً للأفكار، نقول أن لفظة "الشّعب العربيّ" أو "الشّعب الأرمنيّ" أو "الشّعب الكرديّ" في لبنان، كافيةٌ لبلورة صورة الهويّة القوميّة لهذا الشّعب.

  وفقاً للجدول التّالي:

 

المرتكزالديني

المرتكزاللغوي

المرتكز الثقافي

المرتكز التاريخي

الشعب العربي

مسلم

عربي

عربي

عربي

الشعب الأرمني

مسيحي

أرمني

أرمني

أرمني

الشعب الكردي

مسلم

كردي

كردي

كردي

        أمّا لفظة "الشّعب المسيحيّ اللّبنانيّ"، فهي غير كافيةٍ إطلاقاً ويلزمها عدّة ملحقاتٍ: منها الأنطاكيّ المشرقيّ وذلك لتوضيح المرتكزات النّاقصة.

        بينما نجد كلمة "آراميّ سريانيّ" تفي بالمطلوب حسب المرتكزات الأساسيّة:

الشّعب "الآراميّ السّريانيّ"

دينه مسيحيٌّ

لغته آراميّةٌ سريانيّةٌ

حضارته آراميّةٌ سريانيّةٌ

تاريخه آراميٌّ سريانيّ

        أمّا المشكلة الّتي نواجهها، فهي الجهل الأساسي عند شعبنا المسيحيّ لمرتكزات هويّته الحقيقيّة بحيث أدّت السّياسة "الصيغَوِيّة" منذ سنة 1943، حيث "لبنان ذو وجهٍ عربيّ"، إلى نشوء أجيالٍ مغرَّبةٍ عن هويّتها الحقيقية ومتشرِّبةٍ للمبادئ الّتي نلخصّها "بالتّعريب والتّذويب"، حيث الطّائفية "بغيضةٌ" والانصهار الوطنيّ هو المبدأ. وكلّنا نعرف ما هي الأهداف من وراء هذه المنطلقات، وصولاً إلى مقولة: "إنّ لبنان عربيّ الهويّة والانتماء" مع اتّفاق الطّائف سنة 1990.

             فحذارِ خسارة الهويّة: لأنّها كالنّفس من الإنسان، و"ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم كلّه وخسر نفسه".

        إنّ المطلوب قبل كلّ شيءٍ هو الحصانة الفكريّة والعقائديّة تجاه مختلف الطّروحات والتّيارات من الوحدة السّورية إلى الوحدة العربيّة.... وذلك يكون عبر تحديد الأفكار المبيّتة للطروحات والمفردات مثل "عروبة الهوية" أو "عروبة الإنتماء" وما إلى ذلك من كلامٍ مطالِبٍ بالديمقراطية العددية وهو لا يهدف، كما نعلم، إلاّ إلى السيطرة الإسلامية بواسطة العدد السكاني المتزايد...

        هذه الطّروحات الخطيرة، يرافقها في الوقت نفسه، رفضٌ إسلاميٌّ مسبَقٌ لكلّ طرحٍ عن التّعدّدية الحضارية أو التاريخية أو حتى الثقافية ورشق التّهم بالتقسيم والتقوقع. بينما الفرق شاسعٌ بين التّقوقع وبين المطالبة بالهوية الخاصة والشخصية المميزة التي تسمح لشعبٍ ما بالوجود من أجل الوصول إلى تعايشٍ سليم.

        وما هذا الرّفض إلاّ وسيلةٌ لتحجيم الفوارق إلى المستوى الدّينيّ مع حلٍّ بسيطٍ جداً وهو حرّية العبادة للمسيحييّن في إطار الدّولة الإسلاميّة المتسامحة، أو العيش الذّمّي بصفتهم "مسيحيين عرب"...

        أمّا الموضوع الأهمّ والأخطر على المستوى الإستراتيجيّ، فهو موضوع التّربية وعلى الأخصّ، موضوع توحيد كتاب التّاريخ وكأنّ شعار اليسوعييّن يتوجّه إلينا إذ يقول: "من يمسك بالتّربية يمسك بالمستقبل...."

        فالطّرح الإسلامي يمكن تلخيصه كالآتي:

       "أنا أعارض شعار "لبنان مجتمع تعدّدي" وأقول لبنان "مجتمع متنوّع" وليس متعدّداً. وإذا أفسحنا مجالاً لمفهوم التّعدّديات، يكون هناك مجتمعات، والتّرجمة السّياسيّة للتّعدّدية هي الكونفدرالية أن الفدرالية[8].

أمّا الطّرح المسيحي، فيمكن اختصاره بدعوة البابا الرّاحل التي تقول حرفيّاً:

"إنّ لبنان أكثر من وطن، إنّه رسالة حريّة ومثالٌ في التّعدّدية للشرق والغرب"[9].

        وهنا نستشهد بالقول المأثور: "إذا أرَدْتَ أن تُلْغِيَ شعباً، تبدأ أوّلاً بشلّ ذاكرته ثمّ تلغي كتبه وثقافاته وتاريخه ثم يكتب له طرفٌ آخر كتباً أخرى ويعطيه ثقافةً أخرى ويخترع له تاريخاً آخر، عندها ينسى هذا الشّعب من كان وماذا كان والعالم ينساه أيضاً"[10].

        إنّ أوّل هدفٍ استراتيجي لدينا يجب أن يكون الوصول إلى وعيٍ حقيقيٍّ للهويّة الآراميّة السّريانيّة على الصّعيد القوميّ وهي السّد المنيع تجاه محاولات القضم والهضم الّتي تسعى إليها الهويات البديلة...

        والخطوة الثانية لا تكون بالدفاع عن المسيح أو عن الكنيسة، فالمسيح ليس في حاجةٍ إلى من يدافع عنه. والكنيسة تعرف أن أبواب الجحيم لن تقوى عليها. لكن من واجب الشعب أن يدافع عن كرامة الإنسان وحريته وعن الحقيقة في وجه كل من وما ينتقص من الهوية القوميّة ومن الشخصية الحضارية والتاريخية المميزة.

        فالشعب الذي يؤمن بقضيته ويستشهد شبابه من أجلها لا بد له أن ينتصر.

        كلمةٌ أخيرةٌ بما يختص بالنظرية القائلة بأن "الروم" ليسوا سرياناً بل "يونان" أصلاً أو "عرباً"، وفي ما يلي، تصريحٌ للمطران جورج خضر يفي بالمطلوب:

        ورد في "النهار" بتاريخ الجمعة 5/9/1975،

"نحن لسنا بأروام... لقد أُطلِق علينا احتقاراً إسم الروم لأنهم قالوا أنا ملْكيون، أي أتباع الأمبراطور... لا، نحن لسنا بيزنطيين، ولكننا أبناء "سوريا" المسيحية التي هي عاصمتها أنطاكيا، "دُعينا مسيحيين أولاً" – كنا على الطقس الأنطاكي ككل من انتسب إلى السريانية. نحن سبب تشردنا، أنطبعنا بهذه الصبغة الرومية شكلاً، ولكننا بقينا حتى القرن السابع عشر نستعمل السريانية في الريف..."

 الدكتور أندريه كحاله

منشورات هيئة الثقافة السريانية

يتبع

 

*           *           *           *           *


[1] معجم لاروس: Chronique de l'Humanité

[2] الأباتي بولس نعمان: المارونية لاهوت وحياة، منشورات الكسليك، 1992

[3] وليد فارس، التعدّدية في لبنان، منشورات الكسليك، 1979

[4] جواد بولس: Les peuples et les Civilisations du Proche Orient, Tome I

[5]  عبد الهادي نصري، كتاب شمس آرام، 1986، اللجنة السّريانيّة المشتركة، حلب

[6]  Petit Robert II; Dictionnaire des noms propres

[7]  كمال الصليبي: بيت بمنازل كثيرة

[8] الشيخ محمد مهدي شمس الدين: مجلة الرعية تشرين الثاني 1992

[9] الإرشاد الرسولي 1998

[10] يُنسَب إلى وزير خارجية الولايات المتحدة "كورديل هالّ".

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها