عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
   د. أندريه كحّالة

د. أندريه كحّالة

بيروت – لبنان


 المسيحيون في لبنان في عهد المماليك

المسيحيون أصيلون في هذا الشرق، ومن أقدم سكانه، بالقياس إلى الديانات الأخرى.

الجغرافية السكانية:

       وقد كان لبنان مأهولاً بالمسيحيين من شتى البدع والطوائف. وفي طليعة المسيحيين الذين سكنوا لبنان، نجد الملكيين والموارنة. الوجود المسيحي، عند الفتح الإسلامي-العربي، كان منتشراً في كل لبنان، وبقي يشكل أكثرية السكان حتى أواسط القرون الوسطى، وقد ساهم في إضعافه، لربما، السياسة التي اتّبعها الحاكم بأمر الله وغيره من الفاطميين، الذين بلغ الوجود الشيعي على عهدهم ذروة مجده. مجيء الصليبيين إلى الشرق قلب المعادلات رأساً على عقب، أمّا انسحابهم وترحيلهم فكان له آثارٌ سيئة حصد ثمنها المسيحيون في الشرق. أولى نتائج انسحاب الصليبيين كانت الحملات التأديبية على المسيحيين في لبنان والطوائف الشيعية أيضاً.

       أولى هذه الحملات التأديبية كانت في عام 1268. وقد قامت بها قوات السلطان المملوكي بيبرس ابان حملاته على طرابلس لانتزاعها من الصليبيين. وقد هاجمت هذه الحملة بلدة حدث الجبّة في شمالي لبنان.

        الحملة الثانية كانت في عام 1283 عندما أرسل السلطان المملوكي قلاوون رجاله من التركمان لمحاصرة قرى الموارنة. وقد تمكنوا من أخذ بلدة إهدن ونهبوها، في حزيران، وقرية بقوفا في تموز حيث أحرقوا أعيانها، ونهبوا منازلها وسبوا نساءها، ثم قطعوا رؤوس أهالي حصرون وكفرصارون، وأخيراً حاصروا قلعة الحدث الشهيرة في 22 آب، فدمّروا القرية، وذبحوا من لم يلجأ من الأهالي إلى المغاور الشهيرة، ولم يكن حظ هؤلاء أفضل إذ قضي عليهم جوعاً فيها.

        لا ننسى أن الوجود الصليبي تواصل في عكا إلى سنة 1291 – تاريخ سقوطها...

       هذه الحملات، ثم سقوط طرابلس بيد المماليك، أجبر السكان على الإخلاد إلى الهدوء، خاصةً الموارنة، الذين كانوا تحت رقابة مشدّدة، لأن المماليك كانوا يخشون من احتمال عودة الصليبيين إلى المشرق بواسطة الموارنة من جهة والأرمن من جهة أخرى.

        وتلا هذه الحملات على الموارنة حملات على الشيعة عرفت باسم حملات كسروان، أصابت المسيحيين الذين كانوا في كسروان إلى جانب الشيعة، وليس بالضرورة أن يكونوا من الموارنة. وكان آخر هذه الحملات في 1305، التي أدّت إلى تطهير جبال كسروان، أي كسروان الحالي والمتن، من السكان، وإحراقها وجعلها مرعى لقبائل التركمان التي طلب المماليك منها منع الناس من العودة إلى كسروان وحماية الشواطئ والثغور.

        المصدر التاريخي الماروني القريب زمنياً من هذه الأحداث، هو المطران تادرس الذي يروي أنه لم يبقَ للموارنة في كسروان سوى دير ما شليطا مقبس.

        التهمة الموجهة ضد الموارنة وضد الشيعة الرافضة ومعهم فريق من الدروز من آل أبي اللمع، كانت التعامل مع الفرنج الصليبيين ومع المغول أعداء الإسلام. وفي نظر ابن تيمية الإمام الحنبلي المتطرف، كان الشيعة أخطر على الإسلام من المسيحيين واليهود لأنهم عدوّ في دار الإسلام. والشيعة بمفهوم ابن تيمية كلهم من الروافض، لأنهم يرفضون تطبيق بعض قوانين الإسلام، وفي طليعتها الجهاد ضد الكفّار.

        الحملات ضد الموارنة كانت للاقتصاص من مساندة جزء منهم للصليبيين منذ مجيء هؤلاء إلى المشرق، ولم يكن لوقوف جزء آخر ضد الصليبيين من تأثير في تغيير مجرى الحملات والاضطهاد الذي تلا ذلك. كما أن المماليك كانوا لا يستهينون بالقوة الاستراتيجية للموارنة القاطنين أو المعتصمين في جبالهم المنيعة.

        أما بالنسبة للحملات التي طالت المسيحيين خارج معاقلهم البحتة في شمال لبنان، فكانت نتيجة فكرة شاعت بين المسلمين تقول بأن سبب اندحار المسلمين أمام الصليبيين يعود إلى انقسامهم إلى شيع وبدع. والحلّ، لذلك، هو بتوحيد المسلمين في أمّة إسلامية سنية واحدة، ولو اقتضى ذلك الفتك بالمناهضين لها وعلى رأسهم الشيعة. كان من نتائج هذه الحملات تدمير البلاد وحرقها وتدمير المنازل. ولما كان الموارنة قد تلقوا ضربة قاسية من جرّاء هذه الحملات، فقد اضطروا للاختباء في المغاور، ثم عادوا بعد مدة لقراهم ليعيشوا بخوف وسيف الانتقام المملوكي مسلط فوق رؤوسهم. وقد أضحت المنطقة الشرقية الشمالية من الجبال اللبنانية معقلاً لهم في جبة بشري والزاوية وجبال البترون وجبيل. ثم مع الوقت بدأ بعضهم بالنزول إلى طرابلس في القرن الخامس عشر وفي التوجه إلى كسروان. وهذا أمر ليس بالأكيد، كما أن قسماً منهم فرّ إلى قبرص، حيث كانوا الطائفة الثانية بعد الأرثوذكس، وكان لهم وجود في القدس، حيث كان لهم مذبح في كنيسة القيامة لم يحسنوا المحافظة عليه. أما ما تبقى من لبنان الحالي، فكان مأهولاً بالسنة خاصةً من التركمان والأكراد في المدن وبالشيعة الرافضة في أقصى الشمال وقد تحوّل بعضهم إلى السنة، وبالدروز في الشوف وعاليه وبالشيعة في جزين وجبل عامل والبقاع. وقد تحوّل شيعة إقليم الخرنوب إلى السنة بسبب الاضطهاد.

 تنظيم المسيحيين:

       لا نعرف عن كل المسيحيين الشيء الكثير في العهد المملوكي في لبنان، سوى بعض المعلومات عن الموارنة فقط، وذلك بسبب عدم وجود مصادر تتكلم على المسيحيين بشكل عام، إلاّ ما تركه الموارنة عن نفسهم.

        في العموم، كان المسيحيون يعيشون في نظام يدعى نظام أهل الذمة.

       هذا النظام كان يعطي للمسيحيين حقوقاً ويحرمهم من أخرى. ومن هذه الحقوق في نظام الذمة: المصالحة على الأملاك المنقولة وغير المنقولة وعلى الكنائس وعلى الأنفس. أي بمعنى آخر، الإعتراف بالحق بالوجود والإقامة في أرض الإسلام والحق في البيع والشراء والتملك والزواج والإرث، وللذميين أيضاً حقوق مدنية ولكنها للأسف مشروطة بشروط هي الشروط العمرية.

        ومقابل ذلك يمنع الذمي من التمتع بالحقوق السياسية والعسكرية وتفرض عليه الجزية وشروط تمييزية في الحياة اليومية لإجبار المسيحي على الشعور بدونيته ولحثه على اعتناق الإسلام.

        وجود الموارنة في المناطق الجبلية بعيداً عن رقابة الإسلام المباشرة، جعل تطبيق الشروط العمرية عليهم أقل اضطهاداً من أؤلئك القاطنين في المدن الإسلامية أو على مقربة منها. وعلى صعيد الحق الشخصي، لم يكن يحق للماروني الزواج من مسلمة، بينما العكس صحيحٌ، وكان الشرع الإسلامي يقرّ الزواج بين الموارنة والمسيحيين.

        وعلى صعيد الإرث، كان للمسيحيين عامة الحق بالإرث. ولكنه إرث على الطريقة الإسلامية، فرضه عليهم الفقهاء المسلمون في أواسط القرن الرابع عشر، والأب هو الذي يفرض الإرث.

        وكان للمسيحيين ومنهم الموارنة الحق بإقامة الأوقاف، برغم رفض الحنابلة لذلك.

 على صعيد التنظيم الديني:

        لجأ الموارنة للتملص من رقابة الإسلام فأنشأوا المعابد في جبالهم ولكن بطريقة سرية لكي لا يلفتوا نظر السلطة الإسلامية، برغم تحريم الشرع الإسلامي لإقامة كنائس جديدة أو أديرة على بعد ميل من الأماكن الإسلامية والسماح فقط بترميم ما كان قائماً عند الفتح.

        هذه المعابد التي أنشئت كانت في أكثريتها على اسم السيدة العذراء مريم التي خصّها الموارنة بعبادة تقرب من العشق. فطلب الشفاعة منها يدخل في الحياة اليومية، في الأمراض والأوبئة والمصاعب والشقاء والفقر والجوع والاضطهاد. ومن تلك الطلبة التي كانت تقال في كنائس الموارنة: نطلب منك يا مريم فيجيب المؤمنون: من كذا وكذا.... خلصينا، نعرف ما عانى منه الموارنة في تاريخهم الطويل، ولم يكن لهم من مرجع سوى وجه العذراء يحمل إليهم دفء المحبة وابتسامة الحنان وبلسم الشفاء.

        ففي الواقع، كان تاريخ الموارنة في القرون الوسطى، خاصة في العهد المملوكي مزيجاً من عالم قويت عليهم فيه الفتن الداخلية والانشقاقات، ونهب السلطة لهم وحملات التأديب عليهم، والجوع والفقر والاضطهاد. وكان للغة السريانية التي استعملها الموارنة دور مريح في الحفاظ على تراثهم، والقول باستعمالهم للغة السريانية لا يعني عدم معرفتهم باللغة العربية، فثنائية اللغة ميزة من ميزات التاريخ الماروني. 

       وعلى صعيد الملكية الخاصة، تميزت المنطقة المارونية على باقي المناطق اللبنانية بوجود الملكية الفردية عند الناس.

 على صعيد الضرائب:

 كان على المسيحيين كما المسلمين دفع ضريبةعلى الأرض هي ضريبة الخراج. ولكن زيادة عن المسلمين، كان عليهم دفع ضريبة الجزية على الرأس.

ونظراً لحالة الفقر المادي التي كان يرزح تحتها الموارنة، لم يكن باستطاعتهم تأدية الضرائب، فكانت السلطة تعمد إلى اضطهادهم، فيضطر البطريرك للتدخل ودفع كل ما يوجد في خزائن كنيسته لإبعاد الاضطهاد عن رعيته.

 هذه الحالة النسبية من تراجع حجم الضغط الكبير على الموارنة كانت سرعان ما تزول وتتلاشى كلما قربنا من سكن المسلمين حيث كان على النصارى لبس ثياب تميزهم عن المسلمين، وعدم الأكل والشرب في رمضان، وعدم رفع الصوت في وجود مسلم، وعدم اقتناء الخدم، والانزواء في المكان الضيّق عند مرور المسلم (منها كلمة "أشمل")، وعدم ركوب الخيل، وما إلى غير ذلك.

على صعيد التنظيم الداخلي للموارنة

        كان البطريرك رأس السلطة وفي خدمته لفيف من المطارنة والكهنة ويسانده المقدمون في إدارة السلطة الزمنية.

        الجو العام الذي عاش فيه الموارنة في القرون الوسطى، في العهد المملوكي، كان جواً من الضغوط الدينية والمادية أجبرت هؤلاء، على اعتماد نوعٍ من التقيّة أسوةً بغيرهم من الطوائف الإسلامية. وقد قادهم الجو العام إلى نوعٍ من العزلة بسبب بعض الاضطهادات التي تعرض لها الموارنة ومعهم المسيحيون في مرات عديدة كما في:

 -       الحملات المملوكية قبيل فتح طرابلس،

-       حملة 1305،

-       الحملة الكبرى على كل المسيحيين في المشرق بسبب نزول الفرنج في الإسكندرية، وقد قاد ذلك إلى إحراق البطريرك حجولا عام 1365 على أبواب طرابلس،

-       الحملة على ميفوق عام 1440 اتي أجبرت البطاركة على اللجوء إلى قنوبين، ابتداء من البطريرك يوحنا الجاجي.

 وبرغم هذه العزلة الإجبارية على الموارنة، فهم لم يتوانوا عن الانفتاح شرقاً وغرباً.

شرقاً على الحضارة الإسلامية-العربية، وغرباً على الحضارة الأوروبية التي كانت النهضة قد بدأت تعقد رايتها فيها. وخير مثال على ذلك، ذلك الأسقف ابن القلاعي، الذي كان أول محاولة مارونية للكتابة أدبياً بلغة الشرق وفكرياً بفكر الغرب.

 الدكتور أندريه كحاله

منشورات هيئة الثقافة السريانية

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها