المقاومة
الثقافية – الحضارية عبر التاريخ
الجزء
الأول: من العصور القديمة حتى القرن السابع
بعدما استعرضنا في الحلقات الماضية تطوّر المقاومة المسيحية اللبنانية
الذي جعلها تتمكن من إقامة مساحةٍ حرّةٍ دافعت عنها على الصعد العسكرية،
السياسية، الاجتماعية والاقتصادية... وبعد أن تمكنت هذه المقاومة منذ العام
676 حتى العام 1305 من دون انقطاع، من الدفاع عن هذا الوجود خلال نحو ستة
قرون. رأينا في نهاية المرحلة، سقوط الاستقلال بسقوط المقاومة بعد العام
1305. إلى جانب هذا سنحاول أن نستعرض التطور الثقافي والحضاري للمقاومة، لأن
هذه المقاومة لم تكن فقط عسكرية أو سياسية، إنّما كانت مقاومة شعب، وبالتالي
يجب أن نحيط بكل أبعاد المرحلة وما الذي حصل على الصعيد الثقافي.
الخلاصة الأخيرة التي وصلنا إليها، بالنسبة للحقبة التاريخية العربية
سياسياً وجغرافياً وعسكرياً، إنها كانت مرحلة استقلالية. أمّا بالنسبة
للناحية الثقافية، فيمكننا أن نستنتج المعطيات الآتية من خلال تحليل وضع
المنطقة على الصعيد الثقافي. أكيد هذا التطور الذي شهدته المنطقة المشرقية
بشكل عام، ولبنان بشكل خاص على الصعيدين السياسي والقومي، هو نفسه على الصعيد
الثقافي.
-
فمن ناحيةٍ، وُجِدت حضارةٌ مسيحيةٌ مشرقيةٌ متشعبةٌ إلى عدّة ثقافاتٍ حسب
تعدّد القوميات والإتنيات التي كانت قائمة في هذه المنطقة من سريان وأرمن
وأقباط.
-
ومن ناحيةٍ أخرى، دخلت الحضارة والثقافة العربية مع دخول الجيوش العربية إلى
المنطقة وأصبحت الوجه الوحيد لغالبية سكان المنطقة الذين تعرضوا لعملية
التعريب والتذويب.
إنّ ثقافة الشعوب المسيحية لم تختفِ نهائياً طالما الأمة المسيحية في لبنان
صمدت واستمرت في جزءٍ من هذا الكيان. أكيد أن الاحتلال العربي حاول إزالة
الملامح الحضارية والثقافية للمجتمع المسيحي في لبنان وفي الشرق، ولجأ لذلك
إلى عدّة أساليب.
الصورة الثقافية إذاً، هي نتيجة حتمية للصورة القومية
وللتغيرات السياسية التي طرأت على الصعيد القومي وأثّرت مباشرةً على الصعيد
الثقافي.
ولكن، لنرى ما هي الأساليب التي استعملها الغزاة من أجل
تنفيذ ما باشروا واستمروا به على الصعيد القومي.
ولنفهم هذه الحقيقة بعمقها، يجب علينا أن نستعرض أهم
نقاط التحولات الثقافية التي شهدتها البلاد في موازاة التحولات السياسية
العامة.
بالطبع، لا نستطيع أن نعرض، كل ما أنتجه العالم المشرقي
لعدة قرون وسنكتفي بإبراز الخطوط العريضة التي رافقت التطور القومي في مراحله
حسب تسلسله التاريخي العام.
الوضع الثقافي خلال القرون الأولى...:
قبل الفتح العربي، لم تأخذ المنطقة طابعاً خاصاً، إلا بعد مرور
العهود اليونانية والرومانية وانتشار المسيحية. فالجيوش اليونانية دخلت إلى
الشرق، حيث عاشت شعوبه وتميزت بدرجةٍ عاليةٍ من الرقي، الأشوريين، البابليين،
الآراميين والفراعنة شعب وادي النيل. جميعها أنجزت أعمالاً حضاريةً هائلةً من
بنيان واكتشافات وتنظيمٍ للحياة الاجتماعية والاقتصادية...
-
الكنعانيون-الفينيقيون أهدوا العالم الأبجدية، وأذهلوا العالم القديم
بانتشارهم التجاري على شواطئ المعمورة القديم واتصالاتهم بكل الشعوب وتنظيم
علاقاتهم التجارية والاقتصادية والحضارية.
-
العبرانيون أعطوا الكتاب المقدس، ونشأت على أساسه الديانات السماوية الثلاث
والفكر الإنساني لمعظم شعوب الأرض.
إذاً، هذه المنطقة مع وادي النيل الفرعوني،
شكّلت بالفعل نوعاً من وعاء حضاري شهد نشوء الحضارات الكبرى فيما بعد في كل
أنحاء العالم.
دخول العقل الإغريقي اليوناني إلى هذه البيئة، وحّد
متناقضاتها على أسسٍ جديدةٍ هي أسس المنطق. فإلى حدٍّ ما، يقول المنظِّرون أن
المنعدم الأول في عالم الشرق الراقي كان المنطق بالذات. ولعل هذا المنعدم هو
من الأسباب الرئيسية لتطاحن الشعوب المشرقية وتصارعها مع بعضها البعض رغم
رقيّها وتقدمها في تلك المرحلة.
وبقدوم الفكر اليوناني الإغريقي إليها، وجد العامل
الأول لتوحيدها ضمن نظرة واحدة شاملة للوجود، هذه النظرة تنظم المعلوم وتضع
حدوداً آمنة للمجهول التي أعدّت الإنسان العالمي الواحد لاكتشافه وجهّزته
بسلاح خارق هو المنطق.
شاركت شعوب المنطقة كلها من آرامية وكنعانية وغيرها من
شعوب الداخل السوري، كلها شاركت بهذا الإبداع داخل الحضارة الهلينية
اليونانية التي أفرزت في نهاية المطاف جناحاً مشرقياً لها من جراء احتكاكها
بشعوب مشرقية ومرافقتها في أمورها الفكرية، ونحن نعلم كم هناك من مشرقيين
بشكل عام ولبنانيين بشكل خاص، أنتجوا في الحضارة الهلينية-الإغريقية أكثر من
اليونانيين أنفسهم، فأصبح للمنطقة صورةٌ جديدةٌ تطل بها على العالم بوجه
إنسانٍ جديدٍ، ثقافات تعبّر عن القوميات والإثنيات المختلفة وعن إحساسها
الوطني من جهة وتيار حضاري يوناني إغريقي من جهةٍ أخرى، انتمت إليه جميع هذه
الشعوب مشكِّلةً فيه الجناح المشرقي لهذه الحضارة العظيمة.
وإذا كان الفكر اليوناني دخل هذه المنطقة عن طريق جنود
الإسكندر، فقد استوعبه الشرق وأعطاه الوجدانية التي يتميّز بها ووفّر له
عمقاً آخر لم يكن موجوداً في السابق، هذا العمق هو الإحساس والعاطفة اللذان
يكوِّنان طابع مشرقي أساسي. فلا عجب أن يكتمل الوجود الإنساني فكرياً باكتمال
العقل والعاطفة والمنطق والمشاعر. أما الواقع اللغوي، فأخذ شكل الواقع
الثقافي، حيث أن لغات الشعوب المحلية كالآرامية واليونانية والقبطية وسائر
اللغات، عبّرت عن واقعها القومي ومجتمعها وتكلّمت بهذه اللغات. ولكن اللغة
اليونانية ترجمت التطورات الفكرية والفلسفية والحضارية، فاستعملها المثقفون
والمفكرون عند جميع الشعوب حتى أن جزءاً كبيراً من الذين دخلوا الحضارة
الإغريقية مباشرةً، إستعملها كلغةٍ قوميةٍ، كما حصل في الأناضول أي في
المنطقة البيزنطية فيما بعد.
لا شكّ أنّ الّلغة اليونانية لعبت دوراً كبيراً في
التعبير عن الثقافات المشرقية، لابل الدور الأكبر، حيث سجل أكثف إنتاج أدبي
وعلمي بهذه اللغة. وظلّت اليونانية على ألسنة الكثير من أهل البلاد لاسيما
"الرّوم" حتى ما بعد الغزو العربي. من هنا نفهم تعلّق الجزء الكبير من
المسيحيين المشرقيين باللغة اليونانية عن حق مشروع.
أمّا الرومان، فقد أتوا بتوحيد آخر كما أشرنا إليه في
حلقاتٍ سابقةٍ، وهو التوحيد القانوني أو التوحيد التنظيمي
organique et juridique
. فالحقوق قبل الرومان كانت حقوق يرتبط تطبيقها والاستشهاد بها بحياة من أتى
بها. فالقوانين التي شرّعها عاهل ما أو ملك معين، سرعان ما يزيلها خَلَفُهُ،
اللهم القوانين الدينية التي استمرت فترات طويلة من الزمن. وإذا لم يكن
المشرعون الرومان أول المشرعين وإذا لم تكن القوانين الرومانية أول القوانين
حيث أن هناك قوانين قديمة سبقتها كشرائع حمورابي عند الأموريين، فبالتأكيد أن
الفكر الروماني المنظم وحّد العالم القديم من جديد بعد أن وحّده اليونان من
قبل على الصعيد الفلسفي.
إذاًَ، وحّد الإغريق الشرق على الصعيد الفلسفي ووحّده
الرومان على الصعيد القانوني والتنظيمي والإداري.
إنتشر التنظيم المدني الروماني مع تقدم الجيوش
الرومانية في عملية السلام الروماني
"Pax Romana"
وأصبحت شواطئ حوض البحر المتوسط مع دولها وشعوبها، عالم واحد سمّي بالعالم
الروماني. وقد تميّز هذا العالم بوراثته للحضارة اليونانية كلها، وتميز هذا
العالم الروماني بمشاركة الشعوب المشرقية ذاتها بإقامته، لا بل بتأسيس أهم
الأوجه عنده أي القانون. ربما أهم ما جاء في هذا القانون الروماني هو من نتاج
المشرقيين عموماً وسكان سوريا ولبنان خصوصاً. بالفعل، مثلما أعطى لبنان
وسوريا لروما قياصرة حكموا الدنيا من أعلى عرشٍ في تلك الحقبة، أعطت المنطقة
المشرقية لروما أهم المشرّعين القانونيين في ذلك العصر وغالبيتهم من
اللبنانيين وأهمهم، "القيانوس" و "برقنيانوس" اللبنانيين. واشتهرت كلية
الحقوق في بيروت كأهم معهد للقانون في العالم القديم واشتهر أساتذتها
(بابنياس، وأوليانوس، ولونجينوس) وأصبحت اللغة اللاتينية في لبنان وفي منطقة
المشرق لغة القانون والإدارة والدولة فأتقنها رجال القانون والموظفون في
الدولة وكل المرتبطين بالأعمال العامة أو المتعلقة بالدولة. وأصبحت اللاتينية
التي أتقنها اللبنانيون والمشرقيون بشكل عام من أهم اللغات المكتوبة
والمحكية، وأهم لغة في تلك المرحلة.
جاءت المسيحية في الشرق من أقدس أرضٍ في التاريخ،
أورشليم، وانتشرت في العالم الروماني في مرحلة أولى مع الرسل وتأصلت فيه حتى
أصبح العالم الروماني، العالم المسيحي الأول حول البحر الأبيض المتوسط، ودخلت
المسيحية إلى قلوب البشر، فتكلمت ألسنتتهم لتعبر عما في قلوبهم من إيمان جديد
وتحولت اللغة اليونانية واللاتينية اللتان كانتا موجودتين للتعبير عن هذه
الحضارة، إضافةً إلى جميع اللغات القومية لشعوب هذه الحضارة، تحولت كلها إلى
لغات مسيحية تعبر عن تصوّر كوني إنساني جديد للإنسان ولقيمه الروحية. من هنا،
نجد الترابط ما بين اللغة اليونانية والرومانية واللغات المحلية من آرامية
وسريانية... داخل الحضارة المسيحية.
ومن هنا أصبحت هذه اللغات، وهذه الألسن، مسيحية. ويمكننا
القول أن المسيحية وحّدت العالم القديم مرةً ثالثة من جديد. ومما زاد في قوة
هذه الوحدة أن الوحدتان السابقتان هيأتا لقدوم التيار المخلص والموحد نهائياً
بالسيد المسيح.
أصبح كل شيء في عالم ما حول البحر الأبيض المتوسط
مسيحياً، وأصبحت الثقافات المحلية لكل شعب يشارك في هذا العالم ثقافات مسيحية
تنتمي إلى رؤية واحدة في حضارة عالمية كونية واحدة. مثلاً، إذا نظر سوري أم
لبناني مسيحي إلى شيء ما فرآه مربعاً، فمن المحتم والطبيعي أن يراه الإيطالي
والفرنسي والإسباني في الجزء الآخر من العالم الروماني المتوسطي، مربعاً
أيضاً. لأن الجميع وإن كانوا من بيئات مختلفة جغرافياً وقومياً، فهم قد
ترعرعوا في ظل حضارة واحدة أعطت لكل منهم هيكلية تفكير مبنية على أخلاقية
واحدة، فالمشرق المسيحي أعطى للحضارة العالمية الإنسانية وقتها أكثر ممّا
أعطى الغرب المسيحي الذي لم يدم طويلاً تحت حكم الرومان لأنه سقط تحت ضربات
البرابرة (476م.) والشرق هو الوحيد الذي استمر واقفاً ومنتجاً على الصعيد
الفكري، واستمر هذا الفكر من خلال مثقفيه العلمانيين والدينيين يتجول بين مصر
والقسطنطينية ماراً بفلسطين ولبنان وسوريا وأنطاكيا في عالم متضامن متراص
ومتجانس. ولكن السؤال، كيف تطور الواقع اللغوي؟ لقد شهدت منطقتنا المشرقية
بما فيه لبنان، نوعاً من واقع لغوي تعددي، لكن هذه التعددية لم تكن أفقية بل
عامودية، بحيث أن مجموعة واحدة تكلمت عدة لغات تعبّر جميعها عن الرؤية
الحضارية الثقافية لهذه المجموعة.
المسيحيون الشرقيون تكلموا لغاتهم المحلية القومية في
حياتهم اليومية، مثلاً أهل الهلال السرياني واللبنانيون تكلموا السريانية،
المصريون القبطية. كما تكلموا اليونانية واللاتينية في الأوساط العلمية
والإدارية. وكل لغة عبّرت عن صورة معينة من الاستعمال، فالآرامية مثلاً في
سورية ولبنان كانت اللغة المحكية الشعبية القومية يتكلمها الشعب في الأرياف
والأحياء الشعبية من المدن واستعملت اليونانية في الأوساط الفكرية
Langue Intellectuelle.
أما اللاتينية فلغة الدولة الرسمية. إنطلاقاً من هذا الواقع، يمكن التكلم عن
تعددية لغوية عمودية مسيحية وجدت منذ القرن الذي سبق الميلاد حتى ما بعد
الغزو العربي. وعناصر هذه التعددية تألفت من الآرامية - السريانية،
واليونانية والللاتينية.
ويمكن القول أن اللغة
القومية أو الوطنية لمسيحيي لبنان قبل "الفتح" كانت الآرامية - السريانية
بينما اللاتينية واليونانية كانتا اللغتين الفكرية والرسمية.
إن مكتبات المدن الكبرى التي أحرقها العثمانيون لكانت
تركت لنا آثاراً ضخمةً من إنتاج آلاف الأشخاص الذين سكنوا هذه البلاد قبل
تغيير ملامحها. والذين دققوا في آثار المنطقة المشرقية من بيزنطيا الآسيوية
حتى مصر، شهدوا وجود حضارة عظيمة عاشت على هذه الأراضي لقرون عدة قبل الغزو
العربي، ورأوا أن درجة الرقي والتقدم عند المشرقيين فاقت بكثير الغرب المسيحي
وقتها. وبإمكاننا التصور أن هذه المناطق ذات المناظر الخلابة والطبيعة
الساحرة، كانت أرضاً لحضارة كبيرة عاشها ملايين من البشر لعدة قرون.
وبامكاننا التصور أن المنطقة المشرقية-البيزنطية كانت في نفس موقع أوروبا
وأميركا اليوم في العالم القديم، ففيها كانت الدول المتحضرة والقوية. ومن
العجيب أن يختفي عالم كهذا كما اختفت قارة "الأطلنطيد" حسب الأسطورة، لكن
تراث هذه المنطقة وتاريخها يثبتان لنا أنه كانت هناك "أطلنطيد" حقيقية وجدت
لقرون، ولكنها تعرضت لعواصف وزلازل بدأت بالغزو العربي-الإسلامي للمشرق في
معركة اليرموك سنة 636م. والذي انتهى بسقوط القسطنطينية سنة 1453م. غير أنه
بقي من هذه الأطلنطيد صخوراً صامدة لقمم شامخة لم تنحنِ منذ 1400 سنة اسمها
لبنان.