عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
   د. أندريه كحّالة

د. أندريه كحّالة

بيروت – لبنان


مرحلة انهيار المقاومة المسيحية – حملة المماليك على كسروان (1305)

        إنّ حملة كسروان سنة 1305، غيّرت مرّةً أخرى وجه التاريخ. ويمكننا مقارنتها من حيث حجمها ونتائجها بالنسبة لمسيحيّي لبنان، بمعركة اليرموك عام 636. فإذا سمحت معركة اليرموك للغزو العربي أن يمتدّ في منطقة المشرق، وأن يسيطر عليه عدا جبل لبنان، فإّن حملة كسروان التي قادتها قوات المماليك ضد قوات المردة الجراجمة اللبنانية، أدّت بنتائجها إلى سيطرة الحكم العربي على كل جبل لبنان، أي ما تبقى من بقعة حرية في منطقة الشرق الأدنى.

       في الحقيقة، هذه الحملة كانت نتيجةً لتطوّرٍ طبيعي وحتميّ، تطوّر الصراع ما بين الاحتلال المملوكي العربي المنبثق عملياً عن الوجودين العباسي والأموي اللذين سبقاه، وبين المقاومة المسيحية اللبنانية في جبل لبنان.

       إستمرّ الكيان المستقلّ الذي دافعت عنه المقاومة حوالي سبعة قرون، بدايته ثورة 676 ونهايته انكسار العام 1305. ولكن قبل أن نتكلّم عن الحملة والمعركة بحدّ ذاتها التي أدّت إلى سقوط المقاومة في قلب كسروان بالذات، يمكننا أن نبدأ باستنتاج أنّ كتب التاريخ الرسمية في المدارس والجامعات، هذه الكتب، نسيت أو تناست أو لم تذكر مرحلةً طويلة، مجيدةً ومهمةً من تاريخنا القومي، التي امتدت على مدى سبعة قرون من تاريخنا والتي شهدت أعظم الملاحم، أعظم المواجهات، كما شهدت صموداً عظيماً وتضحياتٍ جسام، وفي نفس الوقت التنظيم الداخلي، القوة الذاتية والإيمان بالصمود الذي أدّى في نهاية المطاف إلى صمودنا أكثر من 650 سنة.

       هذا الكيان الذي مرّ بالمراحل التي تكلّمنا عنها سابقاً ما بين الكيان الواسع الذي استمرّ 20 سنة وامتدّ من شمال سوريا إلى شمال فلسطين، والذي انكسر بفعل الاتفاق الاقليمي ما بين بيزنطية والأمويين، ومن ثمّ الكيان الثاني الذي امتد ما بين جزين وعكار حتى انهارت حدوده الجنوبية بفعل الحملات الاستيطانية العربية التي قامت على أيام العباسيين، ومن ثمّ الكيان الثالث الذي شهد أطول مدّةٍ من الزمن، والذي كانت حدوده ما بين بيروت وطرابلس شمالاً، هذا الكيان الذي استفاد من وجود مئة سنة للصليبيين (بما عرف بدولة المردة الأولى والثانية والثالثة).

       هذا الكيان بحدّ ذاته تعرّض للحملات المملوكية التي كانت بصدد ردّات فعل على الحملات الصليبية. وبالتالي، تعرض لحملة الشمال التي تكلّمنا عنها ولمعركة جبيل – الفيدار – المدفون التي انتصرت فيها مقاومتنا ولكن في نهاية المطاف تعرّض هذا الكيان لحملةٍ كبيرةٍ وعنيفةٍ عام 1305، التي أدّت بنتائجها إلى سقوط المقاومة، وبالتالي إلى سقوط الاستقلال وإلى احتمال سقوطٍ نهائي لوجود المجتمع المسيحي الحرّ في جبل لبنان.

تطوّر حملة 1305

       عيّن المماليك هدفاً وأرادوا من خلاله الانتهاء من الكيان الحرّ. هذا الهدف كان منطقة كسروان (العاصية) بعد أن عيّنوا الشمال هدفاً وتمكّنوا من تدمير مقدّراته. الخزّان البشري الثاني كان منطقة كسروان والمناطق المحيطة بها، وكان هدف المماليك أن يدخلوا إلى هذه المنطقة وأن يسحقوها.

       تقول كتب التاريخ العربية إجمالاً أنّ الحملة المملوكية على كسروان كانت لأسبابٍ مذهبيةٍ إسلامية داخلية وأنّها كانت موجهة ضد الشيعة والدروز بهدف تصفيتهم. وكتب التاريخ اللبنانية الرسمية وغير الرسمية، تؤكد أن الحملة التي قام بها المماليك ضد الشيعة كانت تستهدف كسروان ككل، بكل الذين يقطنونها من شيعة ودروز ومسيحيين، كونها خارجة عن سلطة المماليك، ولكن الحقيقة التاريخية ليست على هذه البساطة. فهذه الحملة إذاً اتفق الجميع على أنّها قامت ضد منطقة كسروان. كان لها أهداف بحد ذاتها متعددة بتعدد سكان هذه المنطقة بالذات، فمن ناحية أولى أراد المماليك إنهاء كل الانحرافات داخل الاسلام وأرادوا أن يقضوا على كل المجموعات الغير مرتبطة مباشرةً بالخلافة الإسلامية السنية، من شيعة في المتن وبعض كسروان، ومن دروز، ولكن من ناحية ثانية، إستهدف المماليك من خلال هجومهم على هذه المنطقة إزالة القوة المسيحية المستقلة في كسروان وسحقها نهائياً وذلك لعدة أسباب أهمها تعامل المسيحين مع الصليبيين ورفضهم الحكم العربي.

       من هنا، في الحقيقة الحملة كانت حملتين: حملةٌ قام بها الحكم المملوكي كحكم إسلامي سني على الشيعة وسائر المنبثقين عن الإسلام، وأخرى قام بها الحكم العربي على المسيحيين في كسروان، وبما أن الحكم العربي والإسلامي كانا بمثابة حكم واحد، فأصبحت الحملتان وكأنها حملةٌ واحدة، خاصةً وأنّهما وقعتا في الوقت نفسه تقريباً، مع العلم بأن بعض المؤرخين يقولون أن الحملة الأولى ضد المسلمين المنشقين، جرت في العام 1304 واستهدفت المناطق التي كان يسكنها المسلمون المنشقون عن الخلافة السنية، أما الحملة الكبيرة ضد المسيحيين في كسروان فجرت في العام 1305.

       في الواقع، إن المماليك والحكم العربي الإسلامي بشكل عام، كانا يقومان بردة فعل ضد كل عنصر يمكن يوماً، وخاصةً بعد الحملات الصليبية، أن يشكل قاعدة للعودة الخارجية أي لعودة الصليبيين. فالحكم المملوكي كان يحاول إزالة كل احتمال استقلالي، كل تعددية، كل مجموعة غير مرتبطة مباشرة بالحكم الإسلامي السني، كي لا تشكل في وقتٍ لاحقٍ نوعاً من قاعدة إعادة الحكم الخارجي من أوروبي إلى إفريقي إلى آسيوي إلى آخره... من هنا ردة الفعل المملوكية السنية كانت ساحقة على كل المجموعات أوالأقليات غير الإسلامية السنية. ولكن إذا كانت الحملة التي استهدفت كسروان في العام 1305 ضربت الوجود الإسلامي المنشقق من ضمن الصراع الإسلامي الداخلي، فإن نتائج الحملة الكبرى عام 1305 على الشعب المسيحي في كسروان، أدّت إلى سقوط المقاومة المسيحية اللبنانية كلها. كما كانت نتائجها المفترضة، انتهاءً للوجود المسيحي الحر في لبنان وتحويله إما إلى وجود مسيحي ذمي أو إلى لا وجود، لولا بعض الظروف الاستراتيجية الاقتصادية التي سنستعرضها لاحقاً.

       سنستعرض هذه الحملة من خلال وجهها الصراعي بين المماليك والمسيحيين في هذه المنطقة، منطقة كسروان-العاصية، القاعدة الثانية للمسيحيين والموارنة بعد جبة بشري وإهدن في الشمال. وقد كانت هذه الأرض غنية، فيها كثافة سكانية، منيعة، ومن هنا سميت "العاصية" ، فأهالي كسروان لم يظنوا يوماً أنّه باستطاعة جندي مملوكي أو عربي أن يدخل هذه المنطقة والتي هي ملجأ المضطهدين ولم يتصوروا يوماً أنه يمكن للعرب أن يستهدفوها لوحدها دون هجوم كامل وشامل على جبل لبنان. كما سميت بكسروان نسبة للأمير "كسرى" والذي كان مشهوراً بعلاقاته المميزة مع بيزنطية. حدد المماليك هدفهم لاسيما أن هذه المنطقة بعمقها الاستراتيجي وغناها كانت مهمة، وأحاطوا المنطقة، من الشمال، من البقاع، من بيروت، ومن متن الشوف فأحاطت هذه الجيوش وعددها حوالي 100 ألف جندي ولكن بالفعل شنّت الجيوش العربية هجوماً رهيباً على هذه المنطقة من كل المحاور التي ذكرناها، فتقدم جيش طرابلس على الخط الساحلي وتقدم جيش بعلبك صوب المنيطرة، وتقدم جيش الشام نحو قهمز-حراجل وتقدم جيش بيروت نحو جونية وقوات الشوف تقدمت في الجبل نحو عمق كسروان. إنتشرت قوات الجراجمة على جميع المحاور وبدأت بإعاقة التقدم العربي المملوكي. ولكن ما العمل مع مائة ألف يهاجمون حوالي 15 ألف من المقاتلين. دارت المعارك بشراسة بين قرية وقرية ومن وادي إلى وادي ومن قمة إلى قمة ومن تلة إلى تلة، حسب ما يقول المؤرخون والمؤرخون العرب بالذات. جيش طرابلس تقدم نحو الساحل وانفصل إلى محورين، محور نحو خليج جونية ومحور نحو غزير، جيش بيروت تقدم نحو جونية ومن ثم تقدم نحو عجلتون. جيش الشام نحو حراجل وجيش بعلبك نحو قهمز وحراجل. كل هذه الجيوش التقت في مناطق ريفون حيث دارت أعنف وأشرس المعارك بين المقاومة المسيحية اللبنانية في كسروان وجيوش الغزاة. فدارت المعارك عدة أيام بل يقال عدة أسابيع. ولكن في النهاية كانت الغلبة للجيوش النظامية الكبرى، في الوقت الذي لم يكن لدى المردة الجراجمة حلفاء خارجيين. وفي الوقت الذي كان الخزان البشري في الشمال قد ضرب من جراء الحملة المملوكية الأولى. من هنا سقطت منطقة كسروان-العاصية في العام 1305 وتمكنت جيوش المماليك من السيطرة نهائياً على هذه المنطقة الحرة وبدأت بعملية تدمير هذه المنطقة من خلال الدخول إلى القرى وتدميرها وارتكاب مجازر جماعية لكل السكان وتهجير ما تبقى، "حتى أن الأنهر اختلطت بالدم وكانت تجري المياه باللون الأحمر على مدى أشهر"، على حد قول أحد المؤرخين. نزلت بالتاريخ تحت إسم "إحراق كسروان".

       لم يكتفِ المماليك بتدمير القرى وقتل أهاليها وتهجير من تبقى منهم إلى خارج المنطقة، بل أيضاً قطعوا الأشجار ودمروا كل النظام الزراعي، فهدموا الجلال وأصبحت منطقة كسروان منطقة قاحلة كلياً. وأصبح هناك فرق بينها وبين جبيل وبينها وبين المتن من جراء الحملة المملوكية. من هنا مثلاً، وقال بعض المؤرخين الدروز ومن ثم أحد قادتهم السياسيين وهو كمال جنبلاط قبل اغتياله، كما كتب ذلك في أحد مؤلفاته: "... إن كسروان هي أصلاً أرض كانت للدروز ومن ثم أتى المسيحيون والموارنة من الشمال واستوطنوها..." بمعنى آخر، إن الدروز كانوا في منطقة كسروان قبل أن يأتي اليها المسيحيون. ولكنه كان يقول جزءاً من الحقيقة، فقبل أن يأتي الدروز إلى المنطقة، كانت كسروان مسيحية ولم تكن فارغة إلا بعد العام 1305. والبرهان أن البحاثة عندما يضعون تقارير عن أبحاثهم الأركيولوجية في كسروان، يرون أن هناك آثاراً للوجود المسيحي القديم ما قبل 1305 في شمالي كسروان وفي جنوب كسروان، غير أن معظم الآثار المسيحية والوجود المسيحي السوسيولوجي في كسروان هو ما بعد 1305. هذا يعني أنه جرى اقتلاعٌ لهذا الوجود المسيحي وقد استغرق مئات السنين لاسترجاعه. وبسقوط كسروان سقطت المقاومة المسيحية اللبنانية في كل جبل لبنان، وتراجع الوجود المسيحي الديموغرافي إلى مناطق جبيل والبترون وما تبقى منه في منطقة بشري، بينما امتدت القبائل والعشائر العربية إلى كل المناطق التي سقطت، وأصبح هناك عامل ديموغرافي جديد في جبل لبنان هو العامل العربي.

       إذن، بسقوط منطقة كسروان سقط جبل لبنان، وبسقوط جبل لبنان، سقطت استقلالية وسيادة الشعب المسيحي في لبنان ودخل مرحلةً مصيريةً جديدةً من تاريخه لأول مرةٍ هي مرحلة الاحتلال، مرحلة التذويب.

       في الواقع، أدّى الانكسار العسكري للمقاومة المسيحية اللبنانية إلى انكسارٍ سياسيٍ لها، وهو أمرٌ هامٌ يجب أن يدخل في الحسابات الاستراتيجية للمقاومة المسيحية اللبنانية بل وللشعوب كلها. فمنذ العام 1305، بدأت مرحلة جديدة، هذه المرحلة تتّسم بخسارة الأرض، بخسارة الاستقلال والحرية.

       من هنا، إحدى الاستنتاجات الأساسية لهذه المرحلة، هي أن خسارة الأرض هي خسارة صعبة جداً فما تخسره في ساعات وأيام، يحتاج إلى سنوات وقرون لاسترجاعه. فعندما سقطت الاستقلالية المسيحية في كسروان عام 1305، عملت أجيال وأجيال بهدوءٍ وصمتٍ وصبرٍ وتضحية للعودة إلى هذه الأرض، وقد استغرق ذلك أربعة قرون. من هنا أهمية الأرض، وأهمية التمسك بهذه الأرض بالذات. من هنا نفهم النتائج الأساسية لسقوط الكيان المستقل ومن هنا أيضاً نفهم معنى الاستقلال ومعنى الصمود من أجل هذا الاستقلال، حتى نتمكن من تقدير قيمته وعدم السماح بفقدانه. ولقد عرف أجدادنا والأجيال قيمة الاستقلال والحرية يوم الذي سقط الاستقلال. ويوم فقدت الحرية في العام 1305، وهذا التاريخ هو الحد الفاصل بين مرحلتين من مراحل المقاومة المسيحية اللبنانية، وسيكون له أبعاد ونتائج مؤثرة للغاية على المستويين الاستراتيجي والقومي لمجتمعنا، وهذا ما سنستعرضه في الحلقة المقبلة.

 نتائج حملة 1305

       حملة المماليك على منطقة كسروان العاصية عام 1305 كان لها نتائج مباشرة وهي سقوط المقاومة وبالتالي اجتياح الجيوش المملوكية لهذه المنطقة واحتلالها وتدمير كل البنية الاجتماعية الاقتصادية وبالتالي كسر قدرة المجتمع على بعث مقاومة من جديد.

       ولكن الأبعاد القومية لحملة 1305 كانت بالواقع أكبر من خسارة فهي، في الحقيقة كانت النكسة القومية الكبرى للمجتمع المسيحي في لبنان، والتي أدت إلى سقوط الاستقلال القومي للمجتمع المسيحي والذي كان محافظ عليه مباشرة منذ العام 676. إذن في العام 1305 إنتهت حقبة قومية، إسقلالية تميزت بالحرية والسيادة والتنظيم الداخلي للمجتمع المسيحي في لبنان والتي استمرت ما بين القرن السابع وبداية القرن الرابع عشر، من هنا العام 1305 كان نوعاً من صفحة تنطوي، وفرزت 1300 سنة من النضال إلى حقبتين، حقبة الاستقلال القومي التام ضمن حدود واضحة، وحقبة الاحتلال والانتداب والادارة الذاتية على مختلف المراحل والأنواع حتى أيامنا هذه.

       إن دراستنا للمقاومة المسيحية اللبنانية ما قبل 1305 وما بعد 1305، يجب أن تتميز بمقارنة للوضع ما قبل هذا التاريخ وما بعده.

       أ- ما قبل سقوط كسروان، وبالتالي سقوط جبل لبنان ككيان مستقل للمقاومة المسيحية اللبنانية، وفي هذه المرحلة يمكننا القول أنه في القرون السبعة التي كان فيها المردة – الجراجمة يحمون الحدود فيها، وبالتالي ينظمون صفوف مجتمعهم في الداخل، هذه المرحلة شهدت وجود نموذج حي، واضح دام نحو 650 سنة بشكل مستمر لكيان مستقل، لقدرة استقلالية قائمة بحد ذاتها على رقعة من الأرض محددة، وكان مجتمع هذا الكيان منظماً على الصعيد المدني والاقتصادي والثقافي وعلى صعيد علاقاته الخارجية بما يسمح بتحديده كأمة قائمة بحد ذاتها.

       من هنا، الاستنتاج الأول لحقبة القرون السبعة ما بين القرن السابع والقرن الرابع عشر كما يلي: لقد قام في جبل لبنان مجتمع حر تمكن من إقامة كيانه الذاتي، السياسي، العسكري، الاقتصادي، الاجتماعي، الثقافي، وهذا الكيان رغم الصعوبات والضغوط ورغم الحروب المستمرة تمكن من المقاومة والاستمرار لا بل على الرغم من كل الذي حدث، تمكن من إقامة نظام اقتصادي ذاتي، وإنتاج ولو بحد أدنى على الصعيد الثقافي والأدبي. إذن، نموذج الاستقلالية وجد في تاريخنا ولم يوجد في بعض نظريات المحللين كما يدعي المؤرخون والإيديولوجيون القوميون العرب والتذويبيون، فالنموذج الاستقلالي للمقاومة المسيحية اللبنانية وجد في مرحلة أصعب وأدق، وحجمها أهم بكثير من كل تلك المراحل التي مررنا بها منذ منتصف هذا القرن وحتى اليوم بالذات.

       من هنا، ردنا على منظري ومحللي التيار التذويبي نقول: إن المقاومة المسيحية اللبنانية التي نخوض اليوم، معركة وجود هذا المجتمع ومعركة وجود كل لبنان التعددي في نهاية المطاف، هذه المقاومة أثبتت ليس على فترة ضيقة فقط بل على مدى 700 سنة أنها كانت قادرة على أن تحمي حدود هذه المنطقة وحماية هذا المجتمع بل وتنظيمه بأفضل طريقة ممكنة على مستوى الكيان السياسي الاجتماعي الاقتصادي. هذا الأمر مهم جداً، من هنا نعتبر عدم شرح وعدم تفسير مرحلة الاستقلال الذاتي للمردة الجراجمة، هذه المرحلة التي تمتد ما بين القرن السابع والقرن الرابع عشر. فعدم ذكر هذه المرحلة في الكتب المدرسية والجامعية وعدم البحث فيها بل أحياناً تمويهها وتذويبها هو جزء من محاولة لمحو هذه المرحلة من تاريخنا وبالتالي محو احتمال خيار ما عند مجتمعنا وعند كل المجتمعات الحرة في المشرق وهو بإقامة حكم متعدد وكيانات حرة لكل هذه المجتمعات قادرة وقابلة للحياة.

       إن الصمود حتى العام 1305 هو إثبات واضح وجازم على أن المجتمع المسيحي في لبنان في نهاية المطاف، ليس لديه مشروع نظري فقط بل مشروعه قام لمدة 700 سنة بشكل متواصل، وأثبت المسيحيون اللبنانيون أنهم قادرون على الحياة الجماعية المنظمة رغم المصاعب ورغم ظروف أصعب بكثير من الظروف التي نعيشها اليوم. من هنا أهمية دراسة تاريخ مقاومتنا وأهمية تفصيله وشرحه بإيجابياته وسلبياته حتى نستطيع في آخر المطاف أن نفهم ونقدّر عمل المقاومة الذي نقوم به في مجتمعنا، والذي يجب أن نعتبره عمل قومي يستحق كل التعبئة، والجهود والتركيز حتى نستطيع في نهاية المطاف أن نحقق ولو جزءاً صغيراً في جيلنا نحن من هذا الإنجاز الهام الذي حققته الأجيال السابقة ما بين القرن السابع والقرن الرابع عشر.

       الحملة المملوكية إذاً قضت على الاستقلال في العام 1305، عملياً على ماذا قضت هذه الحملة؟

أولاً: قضت على القدرة العسكرية للمردة الجراجمة، وثانياً: قضت على النظام السياسي الذاتي للمجتمع المسيحي في جبل لبنان والأقليات الأخرى من دروز وغيرهم بمعنى أنها ضربت البنية الاجتماعية السياسية التي كانت تنظم المجتمع المسيحي في لبنان على الصعيد المدني العلماني. ثالثاً: ضربت النظام الاقتصادي من خلال ضربها للنظام الزراعي وللمجتمعات البشرية التي كانت مرتبطة ببعضها على الصعيد الاقتصادي الزراعي مما كان يكوّن القدرة الدفاعية الحقيقية والعمق الاستراتيجي الاقتصادي لمقاومتنا على مدة 700 سنة، ففي هذه الأرض لا توجد سهول، ولم يكن هناك إنتاج زراعي يوازي إنتاج السهول الطبيعية الكبرى في المناطق المحيطة بنا. ولم يكن هنالك من مواد أولية، أو تجارة أساسية، بل كانت الزراعة في الجبال صعبة جداً مبنية على نظام "الجبل". على نظام ترابط القرى ببعضها البعض، مبنية حتى على إنشاء مجاري للمياه من الينابيع نحو الأراضي الزراعية وهو أمر سنراه في حلقات أخرى.

غير أنه وجدت ثغرة نوعاً ما، في هذه الحقبة بالذات سمحت للمجتمع المسيحي في لبنان وسائر المجتمعات الحرة وبالتالي للمقاومة التي انبثقت عن هذا المجتمع بأن تعود كلها لتتمكن من الانبعاث. فقد كان يفترض مبدئياً أن تتمكن الجيوش الغازية من احتلال الجبل ومن استقطاب قبائل وعشائر وتوطينها مكان المواطنين والمجموعات البشرية التي أفرغت من هذه المنطقة، وبالتالي بتذويب وتعريب هذه الأرض نهائياً. ولكان الوجود الحر بشكل عام ووجود المسيحيين بشكل خاص قد انتهى أو قد تحول إلى ما هو الوضع عليه في سائر الدول العربية مثل مصر والعراق وسوريا وغيرها في المنطقة المشرقية.

       ما هي الأسباب وما هي هذه الثغرة التي سمحت للوجود المسيحي أن يستمر رغم انكساره العسكري والسياسي والاقتصادي؟

 -   في القرن السابع، عندما بدأ الغزو العربي باجتياح هذه المنطقة وتمكن من الانتصار على الجيوش البيزنطية في سهول سوريا والعراق ومصر، كان هناك عامل جغرافي استراتيجي مكّن المسيحيين من التجمع في جبل لبنان وبالتالي من إقامة نظام مستقل لهم، سمح لهم بالصمود نحو 700 سنة. هذا العامل الجغرافي هو الرافعة التاريخية للوجود المسيحي الحر إبان الهجمة العربية في منتصف القرن السابع. لنطرح السؤال مثلاً، لو كان هنالك جبال في مصر عند الأقباط لتمكن الأقباط من إنشاء نوع من مقاومة مستمرة واقامة مجتمع قبطي حر يتمكن من الاستمرار رغم الاجتياح العربي لمصر، ولكن لا توجد جبال في مصر، بالتالي هذا العامل الذي كان مهم استراتيجياً على هذا الصعيد وفي تلك المرحلة، كان مفقوداً في مصر. أما في شمال العراق حيث كانت المقاومة الأشورية الكلدانية، فلا يوجد ساحل بحري يمكنهم من الاستمرار بشكل أفعل ولكانوا استطاعوا أن يكونوا مجتمع حر في تلك المنطقة.

أما في لبنان، فهناك نوع من تجمع لعاملين أساسيين مكَّنا المسيحيين اللبنانييين والمشرقيين من أن يستمروا في جبال لبنان، وهذان العاملان هما وجود الجبل ووجود الساحل بقرب الجبل من أجل الاتصال بالخارج الحر.

 ب- أما بعد العام 1305، وبعد سقوط كسروان وبالتالي سقوط الاستقلال القومي في جبل لبنان، ما هو هذا العامل الذي سمح للمجتمع المسيحي وللمقاومة أن يستمرا رغم سقوط الجبل والساحل؟ ما هي الثغرة التي مكّنت الوجود المسيحي أن يستعيد حريته فيما بعد رغم الضغوطات المملوكية ورغم الاحتلال العثماني التركي فيما بعد؟ وما هي الأسباب التي مكَّنت المقاومة من أن تنظِّم صفوفها مع الوقت وبالتالي تعود للإنبعاث بشكل جديد في منتصف القرن التاسع عشر وبشكل واضح جداً منذ منتصف ونهاية القرن العشرين في المرحلة التي نعيشها حالياً؟

       لكي نفهم الأسباب، يجب أن نفهم التركيبة التي حاول وضعها الحكم المملوكي في هذه المنطقة حتى نستطيع أن نفهم كيف توسعت هذه الثغرة وبالتالي كيف تمكن من خلالها مجتمعنا أن ينبعث من خلالها مجدداً.

       الحكام المماليك كغيرهم من الخلفاء والحكام العرب، كان حلمهم الأساسي بعد تفكيك المقاومة في جبل لبنان هو تذويب كامل للجبل واجراء نوع من الاستيطان البشري مكان الوجود البشري المسيحي. ومن هنا، منع أي تجمع مدني اجتماعي سوسيولوجي للوجود المسيحي في بقعة ما منعاً لتكوين نوع من المقاومة في المستقبل.

لذا، وبعد اجتياحهم لجبل لبنان، أفرغ المماليك مناطق واسعة جداً من كسروان والمتن من الوجود المسيحي وفي مرحلة ثانية استقدم المماليك مجموعات بشرية من العشائر العربية ووطنوها في السواحل والبقاع والجنوب، وأيضاً في المناطق الجبلية التي أفرغوا أو هجروا منها المسيحيين.

 لهدف الأساسي كان خلق واقع ديموغرافي جديد يمنع استعادة المجتمع المسيحي لدوره الحيوي وبالتالي يمنع عودة مقاومة ما للمجتمع السيحي في لبنان في ما بعد.

 لكننا نعرف تماماً أن التنظيم الإداري السياسي عند المماليك وعند كل الخلافات والأنظمة العربية آنذاك، كان يعتمد على تعيين "ولاة" في كل منطقة من مناطق الخلافة أو السلطنة. وهذا الوالي كان ملزماً بجباية الضرائب، أي كان هذا الوالي يؤمن مصلحة السلطة المركزية في الخلافة من المنطقة التي هو مولى عليها، فكان عليه أن يستوفي الضرائب من هذه المنطقة من مال أو خيرات موجودة فيها.

 طبعاً جبل لبنان كان منطقة اقتصادية ذاتية، أي نظامها الاقتصادي الزراعي ليس مبنياً على التجارة بشكل عام بل على خيرات وموارد يستحصل عيلها من مناطق جبل لبنان نفسها.

من هنا، كان من الضروري أن يكون في جبل لبنان مجموعة بشرية تقوم باستثمار موارد هذا الجبل وبشكل صعب ودقيق وذاتي ومتخصص. فالنظام الاقتصادي الأساسي في لبنان كان النظام الزراعي الجبلي، والمجتمع الذي كان قائماً في هذا الجبل ما بين القرن السابع والقرن الرابع عشر هو الذي أسس هذه البنية الاقتصادية الزراعية. وهو الذي كان يديرها وموجود في شكل يسمح له بإدارتها. وبسبب عدم توفر سهول طبيعية واسعة، كل غريب أتى لم يستطع أن يفلحها ويزرعها. فقد كان هناك نظام دقيق يستوجب جهود، ويتطلب مجموعة بشرية معينة اعتادت على هذا النظام الزراعي بل ووضعته.

 من هنا، عندما أتى الحكم المملوكي وعيَّن حكام على منطقة جبل لبنان، هؤلاء الحكام بدورهم عينوا حكام من العشائر لهذه المنطقة. هؤلاء رأوا أن الموارد التي سيجمعونها ويدفعونها كضريبة للسلطة المركزية التي كانت في الشام أو في غيرها، بحاجة إلى نظام بشري اجتماعي يستطيع أن يزرع الأرض ويحصدها ليتمكن الوالي أو الولاة الحصول على شيء ما يبرر وجودهم أصلاً كحكام لهذه المنطقة. أما تلك العشائر التي كانوا يستقدمونها فلم تكن لديها لا الخبرة ولا القدرة ولا المعرقة التامة بالنظام الاقتصادي الزراعي الجبلي. فالعشائر استقدمت أساساً لأغراض أمنية عسكرية وسياسية، ومنها منع أي اتصال ما بين الجبل والغرب الأوروبي من خلال إنشاء قواعد على الساحل لتمنع الاتصال بالصليبيين "الإفرنج". في مرحلة لاحقة كان هدف الحكام من استقدام العشائر والمجموعات العربية، إلى جانب الأهداف السابقة، القيام بعملية السيطرة الاستيطانية. ولكن عملياً لم يكن إلا الفلاح المسيحي الموجود في جبل لبنان والذي كان ما يزال منذ 700 سنة يقوم بالزراعة واستثمار الأرض، كان هذا الفلاح الوحيد الذي يستطيع القيام بهذه العملية لصالح الحكام وبالتالي لصالح السلطة المركزية الموجودة في الشام أو في مركز الخلافة الإسلامي العربي. من هنا، كان الحاكم المملوكي أو الوالي المعين من قبل السلطة المملوكية ومن ثم العثمانية، كان أمام مشكلة: فمن ناحية كان هدفه أن يقضي على الوجود المنظم البشري الديموغرافي الكثيف للمسيحيين، واستبداله بوجود ديموغرافي عربي إسلامي. غير أنه كان من واجبات الوالي أو الحاكم العربي أن يحصل على خيرات هذه المنطقة الزراعية ومواردها الاقتصادية المالية، وأن يرسلها إلى السلطة المركزية التي كانت تحاسبه على وجوده في هذه المنطقة. من هنا كانت الثغرة على الصعيد الاقتصادي والتي استثمرت فيما بعد على الصعيد الروحي والاجتماعي وتحولت إلى الصعيد القومي بعد أربعماية عام.

 وضع الحكام أو الولاة المماليك الصورة على الشكل التالي: "نحن بحاجة إلى وجود مجموعة بشرية في جبل لبنان، تستطيع القيام بعملية استثمار وتقوم بعملية جمع كل المحاصيل وإدارة النظام الاقتصادي الاجتماعي في جبل لبنان. هذه المجموعة في الوقت الحاضر (القرن الرابع عشر) هي المجموعة المسيحية. والمسيحييون وحدهم هم الذين يستطيعون القيام بمثل هذه العملية...."

 إذاً كان لا بد من أجل استمرار الوضع الاقتصادي في جبل لبنان، استمرار الوضع البشري المسيحي كما هو عليه قبل العام 1305. فهذه المجموعات البشرية التي ظلت رغم كل شيء ورغم عدم قبول الحكم المملوكي أساساً بها، يجب أن يكون لديها حدٌّ أدنى من النظام الاجتماعي المدني، إذاً لا بد وأن تكون هناك سلطات محلية ومؤسسة تجمع هذه المجموعة البشرية المسيحية. طبعاً، لم يرغب المماليك في إعطاء هذه المجموعات إدارة ذاتية، فلا درك ولا جيش ولا أي نوع من الإدارة المدنية تسمح لمسيحيي الجبل من أن ينظموا أنفسهم. المطلوب عند المماليك، إيجاد مؤسسة تجمع الحد الأدنى على الصعيد الاجتماعي المدني، المسيحيين في الجبل وتنظمهم، وعلى هذه المؤسسة أن لا يكون لديها أهداف ومصالح على الأرض إنما في السماء.

الكنيسة هي الحل المطلوب، فالمماليك والعثمانيون من بعدهم حافظوا على الكنيسة الوطنية في جبل لبنان كونها المؤسسة الوحيدة في نظرهم، التي ليس لها القدرة الإدارية الذاتية سياسياً وعسكرياً. وفي الوقت نفسه، كونها لديها القدرة من خلال تركيبتها وسلطاتها الاجتماعية أن تجمع هذا المجتمع وأن تكون نوعاً من سلطة محلية لهذا المجتمع. (مقارنة مع دور كنيسة روما إبان الهجمات البربرية وسقوط الأمبراطورية الغربية).

        من هنا نفهم مغزى الإبقاء على الكنيسة كمؤسسة وإعطائها الحد الأدنى من الاستقلالية الذاتية مكان وجود سلطة مدنية أو عسكرية أو قضائية أخرى. ومن هنا بدأ تمييز الكنيسة الوطنية وخاصة الكنيسة المارونية في جبل لبنان، بإعطائها هذا الحد الأدنى من السلطة في نهاية المطاف، من قبل مختلف السلطات العربية والعثمانية-التركية التي تعاقبت على الحكم في هذه المنطقة.

        لذلك تجمع الشعب المسيحي في جبل لبنان حول كنيسته الوطنية خصوصاً المارونية. فكان نشوء الدور القومي للكنيسة الوطنية في جبل لبنان، الذي تميزعن أدوار كل الكنائس والسلطات الروحية في منطقة الشرق الأدنى. ومن هنا نفهم تعلق المجتمع المسيحي إضافة إلى ارتباطه الروحي الوثيق والعميق، بكنيسته الوطنية من الناحية القومية أيضاً وقيادة الكنيسة الوطنية في جبل لبنان، تحولت مع الزمن إلى قيادة قومية تقود الوضع الوطني كله في جبل لبنان.

        من هنا نفهم دور الكنيسة، ونفهم أنه عندما تشتد الأزمة على المسيحيين، وعندما يشتد الحصار عليهم، وعندما يكون هناك خيار قومي للمجتمع المسيحي، تتجه الأنظار إلى الكنيسة الوطنية، وتتجه الأنظار عملياً إلى بكركي.

       من هنا وفي النهاية، نفهم أن الثغرة الثانية التي جعلت المجتمع المسيحي في لبنان، انطلاقاً من القرن الرابع عشر، يستعيد الحد الأدنى من أسباب وجوده، كانت سبباً اقتصادياً بالنسبة للحكم المملوكي والمحتل من جهة، ووسيلة كنسية روحية بالنسبة للشعب المسيحي في لبنان من جهة أخرى. وبتزاوج هذيه العاملين، عامل الحاجة الاقتصادية بالنسبة للسلطة المحتلة، وعامل وجود كنيسة روحية مسيحية وطنية منظمة في جبل لبنان، بالنسبة للمجتمع المسيحي، هذان العاملان بتزاوجهما وبالتقائهما مع بعضهما البعض استطاع الشعب المسيحي والأقليات الحرة الأخرى في جبل لبنان أن يصمدوا وأن يستمروا ويرتكزوا ديموغرافيا واجتماعياً واقتصادياً ووطنياً في جبل لبنان على مدى 400 عام، ليستطيعوا بعد أربعة قرون، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، من أن يستعيدوا الحد الأدنى من الاستقلالية الذاتية، والحد الأدنى من السيادة القومية، وأن تعود المقاومة القومية لمجتمعنا لتنبثق من جديد في بداية القرن الحالي ومن ثم في النصف الأخير منه. لكي تعود المقاومة وتستعيد حقنا في الوجود الحرّ كمجتمع في هذا البلد، وحقوقنا الأساسية، لبناء مجتمع لبنان التعددي الديمقراطي الجديد.

 الدكتور أندريه كحاله

منشورات هيئة الثقافة السريانية

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها