عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
   د. أندريه كحّالة

د. أندريه كحّالة

بيروت – لبنان


مراجعة تاريخية من القرون الأولى حتى القرن الرابع عشر

في قضيّة شعبنا الآرامي المسيحي

1)    المقدمة:

 لعله من الأهمية بمكان، أن نعود أدراجنا الى قول "هوبل" في تعريف تاريخ الشعوب و كيفية تحريف هذا التاريخ و تزييفه، و الذي ُنشر في مجلّة آرام في العدد رقم (5) تحت عنوان " سريانية لبنان" لمدى توافقه اليوم، مع تاريخنا اللبناني.

يقول المؤرخ البريطاني هوبل " اذا أردت أن تلغي شعباً، تبدأ أولا بشلّ ذاكرته، ثم تلغي كتبه و ثقافاته و تاريخه، ثم يكتب له طرف آخر كتبا أخرى و يعطيه ثقافة أخرى و يخترع له تاريخاً آخر... عندها ينسى هذا الشعب من كان و ماذا كان و العالم ينساه أيضاً..."  لماذا القراءة التاريخية: لأن الشعوب التي لا تحافظ على تاريخها يكون مصيرها الأكيد الزوال. و نسيان الماضي يؤدى إلى فقدان المستقبل... من هنا نرى ان التجذّر في التاريخ هو بأهمية التجذّر في الجغرافيا

إن الدراسة التاريخية هي أساس كل النشاطات الفكرية. فلا فلسفة من دون تاريخ الفلسفة، و لا فن من دون تاريخ الفن. أما الكارثة التي تعانيها أجيالنا فهي فقدان الانتماء التاريخي و تزوير الهوية القومية نتيجة التوجيه السياسي المغلوط والكتابة التاريخة المشوّهة التي عتمت على سيرتنا الحقيقية لصالح صورة اصطناعية في خدمة أهداف سياسية قديمة حديثة، وهي باختصار أهداف " التعريب والتذويب ". إن التاريخ هو شرط من شروط الهوية، فالانسان بلا تاريخ، بلا هوية، كذلك المجموعات البشرية.

 الشعوب التي لاتتعلم من دروس التاريخ محكوم عليها أن تعيده...

لماذا قضية شعبنا المسيحي: لأننا نشكو اليوم من ضياع هويتنا الحقيقية وضبابية انتمائنا القومي الحقيقي مما ينعكس سلباً على وعينا لقضيتنا التاريخية السريانية الآرامية الحقّة.

 نحن عندما نقوم بنشاطاتنا اليومية إنما نقوم بها بصفتنا نحمل إرثاً حضارياً و ثقافيا و اجتماعياً في عقلنا الباطن عدا عن انتمائما الديني الصريح و التزامنا المسيحي بكنيستنا و بمجتمعنا.

 أما الحرب الأخيرة منذ سنة 75 فهي بنظرنا على الصعيد الداخلي نتيجة رفض المجتمع المسيحي للأمر الواقع بالمطلق وتفجّر هذا الرفض من العقل الباطن الى العقل الواعي كردّة فعل على محاولات المحو و التذويب على مدى السنين والقرون لخصوصياتنا كشعب حّي وكمجتمع حرّ. هذه المحاولات تستّرت في المراحل المتعاقبة تارة تحت غطاء الدين وطوراً تحت غطاء الإنتماء العروبي اللغوي أو القومي.

إنّ الوضع في لبنان ليس مجرّد "أزمة لبنانية" إنما هو قضية لبنانية و بالأخص القضية المسيحية اللبنانية بكلّ مالها من أبعاد سريانية قومية... فقضيتنا هي على مستوى القضية الأرمنية على سبيل المثال أو القضية الفلسطينية، بل هي أعرق وأقدم لأنها تمتدّ بلا انقطاع منذ 1300 سنة كما سنرى تفصيلياً... إن النظرة "الصيغوية" للبنان تقول: إنّ الشعب المسيحي لا تاريخ له، والشعب الذي ليس له تاريخ ليس له وجود... فلزام علينا أن نتعرّف على شعبنا المسيحي بالعمق من جديد و ذلك بالتنقيب عن تاريخنا الحقيقي الذي لن نجده في كتبنا المدرسية ولا حتى في كتبنا الجامعية " الموحِّدة و الموحّدة"... من أجل الحفاظ على و جودنا كمجتمع و المحافظة على قضيتنا كشعب و عدم خسارة أرضنا كوطن...

1)      المشرق المسيحي قبل القرن السابع:

  إن موقع لبنان المميّز من الناحية الجغرافية على مفترق طرق لثلاث قارّات و المرفأ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، قد جعل هذا الساحل المتوسطي نقطة انطلاق للتجارة و الحضارة الفينيقية التي كانت تفتقر للوحدة السياسية... لكن الأهم من ذلك هو كون هذا الساحل ممرّاً الزاميّاً للفتوحات العسكرية الكبرى بدءاً بالتاريخ القديم ومروراً بالفراعنة ثم لينتقل الثقل الى بابل فآشور فالفرس وكلهم مرّوا من هنا ولم يتركوا سوى شواهد على صخور نهر الكلب (19 نقشا في 8 لغات). ان توحيد الأراضي المشرقية حضارياً تمّ مع فتوحات الاسكندر الكبير المقدوني حوالي سنة 330 ق.م. شاملة مصر حتى حدود الهند بحيث توحّد العالم المتمدّن مع تيار الفكر الاغريقي و الفلسفة الهلينية و الحضارة و اللغة اليونانية.

حوالي سنة 64 ق.م جاءت الفيالق الرومانية لتوحّد العالم القديم من جديد على أسس الدولة المدنية بقوانينها و أنظمتها في جميع المناطق المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط سياسياً، عسكرياً، علمياً وقانونياً.

 الظاهرة التوحيدية الثالثة جاءت مع التوحيد الديني بالمسيحية بعد التوحيد الفلسفي الأغريقي و التوحيد القانوني الروماني. انطلقت المسيحية من الشرق و لوّنت العالم بانسانيتها حتى توحّدت المعمورة بشرقها و غربها. فكانت الحضارة المسيحية تجمع الشعوب في دائرة واحدة و رؤية واحدة للأمور الدينية و من ثمّ الحضارية. ان تطوّر الحضارة في الشرق خاصة، مرّ بمرحلتين هامتين قبل القرن السابع: المرحلة الأولى هي مرحلة الديانة المضطَهدة بحيث تمّ انتشار المسيحية بواسطة الاستشهاد لدى المسيحيين الأوائل الذين كانوا يرفضون عبادة الإمبراطور والآلهة الرومانية و يدفعون حياتهم ثمناً...      

 وصولاً الى القرن الرابع وحكم الأمبراطور قسطنطين الكبير الذي اعتنق المسيحية و أمر بوقف الإضطهاد صار الدين المسيحي مسموحاً به كما وجّه قسطنطين الدعوة لعقد المجمع المسكوني الأول في نيقيا سنة 325 حيث أقرّ قانون الإيمان كما نعرفه. من يومها تمّ التأكيد على دور الإمبراطور في حماية الكنيسة و على انتصار المسيحية بمساندة الدولة. أما اعتماد المسيحية ديناً للدولة، فذلك لم يتمّ الاّعلى أيام الإمبراطور تيودوسيوس الذي أصدر قانونا بتحريم الوثنية و اعتماد المسيحية ديناً للدولة أواخر القرن الرابع قبل موته سنة 395 و تقسيم الإمبراطورية الى شرقية وغربية بين ولديه.

 إن تاريخ الإمبراطورية الرومانية الشرقية أي بيزنطيا، ومعه تاريخ بلادنا السريانية من القرن الرابع و حتى القرن السابع هو تتابع لأحداث من التناحر الداخلي بين البدع المختلفة و الهرطقات كذلك الإنقسامات التي حصلت بين الغرب والشرق. و قد بدأت سياسية و تطوّرت دينية، خاصة بعد سنة 476 تاريخ الامبراطورية الرومانية الغربية على يد البرابرة.

 داخل بيرنطيا حاولت السلطة الكنيسة المحافظة على التعليم الصحيح أي الأرثوذكسية والقضاء على البدع بمؤازرة السلطة الإمبراطورية. هذا السعي للحفاظ على وحدة الكنيسة، كان يتمّ تارة بواسطة المجامع المسكونية المتلاحقة التي كانت ترمي الحرم الكنسي على هذه البدع من آريوسية و غيرها، و معاقبة  أصحابها بواسطة الأوامر الإمبراطورية بالنفي والاضطهاد بمختلف الوسائل الاجتماعية و الاقتصادية والعسكرية...

 إنّ ما ترتّب من نتائج لسيادة فكر الطبيعة الواحدة وانفصال أتباعها عن الكنيسة الشرقية الجامعة لم يكن انفصالاً أو استقلالاً كنيساً فحسب بل كانت له نتائج سياسية انعكست على مسار الشعوب المشرقية كافة: فالإضطهاد الذي مارسته الإمبراطورية البيزنطية على أصحاب الطبيعة الواحدة سبب بغضاً عندهم . و كانوا بالتالي عوناً عليها لكلّ عدوّ أو و محتلّ و تسهيل دخوله إلى المنطقة المأهولة بأكثرية سكانية منهم.

 كما أن الوضع في سوريا و بلاد ما بين النهرين و فلسطين و مصر كان وضعاً ضعيفاً جداً بسبب الغارات الفارسية المتتالية عليها خصوصا الغزو الفارسي الأخير الذي سبق الفتح العربي مباشرة و الدمار الذي سببه في سائر المدن مما أفرز حالاً من الضعف العام سياسيا، اقتصادياً في أرجاء الإمبراطورية الرومانية الشرقية أى بيزنطيا. زد على ذلك أن حلفاء البيزنطيين في بلاد الشام من القبائل المسيحية الغساسنة كانوا في السنوات الأخيرة من القرن السادس في حالة استياء كبير حتى انقلبوا ألدّ أعداء للمملكة البيزنطية خاصة بعد نفي زعيم الغساسنة المنذر بن الحارث إلى صلقية عام 581...

على الصعيد الداخلي، فان البلاد الجبلية الللبنانية قد تأخّرت في الانضمام الى المسيحية، رغم وجود جاليات مسيحية في المدن الساحلية منذ أيام الرسل. فهياكل بعلبك قد شيّدت لآلهة الشمس الوثنية في أواخر القرن الثاني و لم يعط التبشير المسيحي ثماره إلاّ ابتداء من القرن الخامس... في هذا العصر عاش القديس مارون على قمّة جبل في جوار انطاكية و مات سنة 410 بعد أن ذاعت سيرته القديسة بحيث تمّ بناء دير مار مارون الشهير على قبره على الشاطئ الأيمن من نهر العاصي بين حمص و أفاميا الذي أصبح مركز اللتبشير والهداية...

كما تعرّض الموارنة لمضايقات الحكم البيزنطي الذي لم يقبل باستقلالية كنيسة الموارنة عن كرسي القسطنطينية، فالتجأ عدد كبير من الرهبان و رجال الكهنوت الى شمال و وسط لبنان و عممّوا المارونية فيه مع الهجرة الأولى بين القرنين الخامس و السادس. هذا الإضطهاد الذي تسبب به الترجرج في السياسة البيزنطية نتيجة الميول المتعاقبة و المتعاكسة لدى حكام بيزنطيا، قد قابله توجّه رهبان الموارنة إلى الكنيسة الغربية المتمثّلة ببابا روما لطلب الدعم المعنوي خاصة بعد المجمع المسكوني الرابع خلقيدونيا سنة 451 و اعتراف الموارنة به و ثبات كنيسة روما عليه بعكس السلطات الكنيسة و الزمنية القسطنطينية.

الإتصال الأول بين الموارنة و الكرسي البابوى يرجع إلى سنة 517 حيث رفع تلاميذ مارون عريضة الى البابا هورميزاد في روما معلنين التزامهم بتعاليم المجامع المسكونية وخاصة "المجمع الخلقيدوني" مما عرّضهم للإضطهاد من قبل أصحاب الفكر الآخر..

 3)      الفتح العربي المسلم: مفصل مصيرى في تاريخنا المشرقي

إن الأمر الذي يلفت الانتباه قبل كل شيء في تاريخ الجزيرة العربية هو عدم دخول أي غزو منظّم إلى داخل هذه المنطقة الصحراوية...  بحيث كان التناقض واضحاً بين الهلال الخصيب شمالا و الجزيرة العربية جنوباً: الطبيعة الصحراوية في الجزيرة و طبيعة المنطقة المحيطة في الشمال الخضراء ولدّت عنصر التناقض الطبيعي. الكثافة الحضارية في المناطق الشمالية و الركود الحضارى في الجزيرة ولّد التنافس الحضاري. أما الواقع الديني المتقدّم في المناطق الشمالية الذي يقابل فراغاً دينياً بالجزيرة فقد ولّد التناقض الدّيني الذي منه انطلق الإسلام في الجزيرة أولاً، و منها إلى الخارج ثانياً. أتى الإسلام في الجزيرة مطوّراً و موحّدا. التطوير كان تجاه التخلف الاجتماعي و السياسي، فكان منظّماً للعلاقات الاجتماعية عامة و العائلية خاة. التوحيد كان للقبائل العديدة المتصارعة فيما بينها...

وبمجرّد نشوء الاسلام في الجزيرة العربية، كان للعروية معنى وجودي يعطيها اشارة الوثوب والإنطلاق. فالعروبة قبل الإسلام لم تكن إحساساً قومياً مميزاً، فالقبائل التي تكلمت اللغة العربية كانت مقسومة الإنتماءات، فمنها الموالية للحكم الفارسي والمجنّدة له كقبيلة بني منذر ومنها القبائل المسيحية المنتمية للبيزنطيين كالغساسنة. أما القبائل الباقية المنتشرة في بقع أخرى من الجزيرة فلم يكن عندها أيّ حسّ لانتماء قومي معيّن. الإنتماء الوحيد كان الانتماء القبلي.

عندما أتى الاسلام، أحدث ثورة على الواقع في الجزيرة، فهو لم يكن مجرّد دين كديانات الشعوب القديمة، بل أتى من خلال رؤية جديد شاملة كليّة و موحّدة للعالم. أعطى الاسلام للعروبة الرّوح فوُجدت و أعطت العروبة للإسلام الجسد فنهض. إن التضامن العربي يجد أساساته في الإسلام: فالمؤمنون يؤلفون أمّة النبي و هم "أفضل أمة أخرجت للناس. لأن الدين عند الله الإسلام. كما أنزل عليهم قرآناً عربياً" و الموضوع واضح عند المسلم، هناك المؤمنون من ناحية و الكفّار من  ناحية أخرى. من هذه الحقيقة الأساسية، أبصرت القومية العربية النور، فكان لها هدف أوسع من أهداف القوميات الأخرى، فبدل الإستقلال و الدفاع عن هذا الإستقلال، نجد هدف القومية العربية مندمجاً مع هدف الاسلام: "الانتشار في المعمور والجهاد من أجل فرض ارادة الله".

إن الاسلام كفكرة هو أوسع بكثير من العروبة.  فالتضامن الإسلامي يعتمد على المبادىء الدينية الإسلامية، أما التضامن العربي فيعتمد على المبادىء الواقعية و التاريخية. كما أننا نصادف شعوباً إسلامية غير عربية، أما من حيث المبدأ فلا وجود لشعوب عربية غير اسلامية...

اذا أردنا أن نحدد المعركة الفاصلة في تاريخنا المشرقي نستطيع القول انها كانت معركة اليرموك في 15 آب 737. فبعد أن سقطت دمشق نتيجة حصار ستة أشهر في أيلول 635 توجهت الجحافل في عملية التفاف للوصول الى الساحل المتوسطي وتمّت المواجهة الكبرى مع الأمبراطورية البزنطية المرهَقة بسبب الحروب المتواصلة ضد الفرس على الجبهة الشرقية بقيادة الملك هرقل باسيليوس البيزنطي. بينما المدّ الجارف من الجيوش المسلمة ملتهبة بالجهاد و خارجة من الصحراء الجنوبية بقيادة خالد بن الوليد.

أما عن كواليس هذه المعركة على ضفاف نهر الأردن، فإذا صدّقنا رواية المؤرخين العرب، نجد أن الحلفاء الغساسنة بقيادة جبلة بن الأيهم الذين كانوا يؤلفون عدد ثلاثين ألفا من أصل مئة ألف بيزنطي انحازوا في آخر ساعة الى المهاجمين المسلمين، مما قرّر مصير بلاد الشام كلها للقرون التالية.

إن التحليل الموضوعي لانقلاب التحالف لدى هذه القبائل ينبئنا بعدم وجود أبعاد قومية عربية كما يحلو للمؤرخين العرب المناداة بها: إذ أنّ موقف هذه القبائل ليس له أبعاد قومية أكثر من موقف الجماعات المسيحية المنشقّة عن الكنيسة الأرثوذكسية والتي رحّبت بالفتح الاسلامي كسبيل للانتقام من بيزنطيا... هذا على الجبهة الشمالية، أما على الجبهة الشرقية فان الجبّار الفارسي وجد نهايته  سنة 637 في معركة القادسية التي فتحت الطريق أمام الإحتلال الإسلامي لبلاد العراق و بلاد فارس خاصة بعد معركة نهاوند سنة642...

 لكن المواجهة هذه المرة في مناطق المشرق المسيحي أصبح بين تياّرين متواجهين، فالإسلام والمسيحية ديانتان، ولكنهما حضارتان أيضا ورؤيتان شاملتان مختلفتان لايستطيع تيّار استيعاب الآخر دون تذويبه. إن أهم نقطة افتراق بين المسيحية و الإسلام تكمن في مايختص بالسلطة السياسية: إن المسيح بشّر "بإعطاء مالقيصر لقيصر ومالله لله" فمبدأ فصل الدين عن الدولة سهل جدا. أما الإسلام فهو يطرح نظاما شاملا للدين و الدنيا وينظّم العلاقات الاجتماعية والعائلية و السياسية  و القضائية... فمنذ البداية الله الله هو القيصر والخليفة المسلم هو "الحاكم بأمرالله". من هنا نفهم خطورة الكلام القائل: بأن الاسلام دين و دولة، بحيث يصبح دين الدولة...

في الفتوحات العربية كان للدين دور فعّال: فهذه الفتوحات كانت تعبيراً ليس فقط عن الدين الاسلامي ولكن الأهم تعبيرا عن وحدة الشعوب العربية تحت راية الإسلام... وهنا يطرح السؤال ماذا حلّ بسكان المشرق المسيحيين الذين يعدّون بعشرات الملايين تجاه الجيوش المسلمة التي لا يتجاوز عددها مئتي ألف رجل ولاتستطيع السيطرة على منطقة واسعة تنتمي للحضارة الغريكو- لاتينية- آرامية المسيحية. الجواب إن الفتح العربي المسلم قد حقّق في وقت قصير جدا نسبياً نصراً مزدوجاً: النصر الأول حقّقه بالقوة العسكرية بحيث ربح معارك فاصلة محتلاّ مناطق شاسعة. والنصر الثاني تحقّق بحملات التعريب و التذويب الباكرة لمختلف الشعوب التي كان يصل إليها الفتح بحيث أصبحت هذه الشعوب  دافعا و وقوداً للمزيد من الإحتلالات و الإنتصارات. فالإنتشار العسكري الهائل جغرافياً منذ المراحل الأولى تمّ بفضل ابتلاع هذه القوة البشرية العددية الجبّارة التي تمّ تحويلها لتخدم الإسلام و العروبة وتسانده و تردّ عنه الضربات: أبلغ مثال على ذلك هو انتصار طارق بن زياد في الأندلس بجيش مؤلف من أكثرية مطلقة من الشعوب الإفريقية الشمالية و المغربية التي لاعلاقة لها بالتراث العربي و الإسلام سوى علاقة الإحتلال و الإستعمار...

 إن سيطرة الجيوش العربية الفاتحة باسم الإسلام على المدن والشعوب الأكثر تمّت بواسطة ما يلي:

1-          إمّا التخلّي عن الدين "الكافر" واعتناق الإسلام: وهو كان خيار أكثرية الشعوب المغلوبة على أمرها بحيث ذابت دينياً في الدين الاسلامي الفاتح.

2-          إمّا القبول بالوضع الذمّي تحت نير الحكم الإسلامي: مما يعني العيش في درجة ثانية من المواطنية و التخلّي عن الحقوق السياسية و الاجتماعية و الثقافية، عكس ماتريد الدعاية اقناعنا به من تسامح الحكم الاسلامي...

3-           إمّا التفريغ و التهجير: هذا الوضع كان من نصيب الشعوب المسيحية التي تراجعت إلى بعض المناطق للمحافظة على وجودها الحّر و المقاومة لبلورة الكيان. من أمثال ذلك سريان العراق المسيحيين وشعوب الأقباط المصرية. أما في جبل لبنان فقد سمح الوضع الجغرافي لطبيعة الجبال المنيعة و التواصل عبر شاطىء البحر لبلاد الغرب المسيحي بتكوين أطر اقتصادية للإستمرار و الإستقلال.

 إن الإحتلال والإستعمار الاسلامي مرّ بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: وهي حقبة الفتوحات المادية حيث كان العنصر العسكري والجغرافي هو الأهمّ.

المرحلة الثانية: وهي حقبة الفتح الديني التي دامت قروناً ومارافقها من اضطهادات (كالشروط العمرية.

المرحلة الثالثة: مرحلة الفتح الثقافي وانتشار اللغة العربية وسيادتها على كل أرجاء الإمبراطورية العربية الاسلامية. هذه المرحلة كانت الأبطأ في سيرها لأن الأمم المغلوبة لم تتكلم العربية إلاّ عند نهاية العهد العباسي. و المقاومة اللغوية في جبل لبنان استمرّت حتى أواخر القرن الثامن عشر...

و هكذا عودة الى عام 650 أى بعد 11 سنة من موت محمد، كان المسلمون يحتلّون كل بلاد الشام و قسما من آسيا الصغرى و فلسطين و مصر و قسما من أفريقيا. و تراجعت الجيوش البيزنطية المسيحية شمالا إلى حدود سفوح جبال قيليقيا حيث استطاعت مقاومة المدّ تدعمها الميليشيات الأرمنية الشعبية. مع احتواء الحملة العسكرية الاسلامية شمالاً ضد بيزنطيا و انتهائها شرقاً ضد الفرس و جنوبا ضد البيزنطيين في مصر و الشاطىء الافريقي، ارتدّ الحكم الاسلامي لتصفية جيوب المقاومة داخل المناطق التي فتحها، مما يوصلنا الى مفصل الحكم الذاتي المسيحي في جبل لبنان خلال الحكم العربي الإسلامي وصلاً الى القرن الرابع عشر.

 

4)      المقاومة المسيحية التاريخية: حرب السيادة وحرب الهوية.

إن الفتح العربي الاسلامي أفرز واقعين في الشرق:

-         ثنائية قومية وحضارية ناتجة عن تواجد إسلام عربي مسعتمر  ومسيحية سريانية متأصلة على أرض واحدة.

-         أمة لبنانية مستقلّة في جبال لبنان تجسّدت بوطن قومي مسيحي اتسعت رقعته أو انكمشت تبعاً للاحداث.

-         هذه الأمّة اللبنانية جاءت وليدة الهجرة المارونية الثانية الى جبال لبنان و التحام الشعب الماروني السرياني مع الشعب السرياني المقيم بحيث تركّزت دعائم هذه الأمّة جغرافياً حول الجبال اللبنانية، انسانياً و قومياً حول الموارنة الذين شكّلوا فيها الجسم الأساسي، عسكرياً حول المَرَدة الذين شكّلوا جهازها الدفاعي العسكري. وكنسياً حول الكنيسة المارونية التي جسّدت خصوصية الهوية القومية...

 الحكم الأموي (661- 750):

إن حكم معاوية بصفته الخليفة الأموي الأول في دمشق كان الوجه الأول لصراع الشعب الآرامي المسيحي في جبل لبنان والمحيط العربي المسلم. ان معاوية بعد فشل حملته البحرية على القسطنطينية لمدة سبع سنوات، وبعد فشل الهجمات البرّية على مقاطعات آسيا الصغرى اضطرّ الى عقد معاهدات مع ملك بيرنطية قسطنطين الرابع اللحياني سنة 679 بحيث تعهد معاوية بدفع غرامة كل عام. و ذلك بعد أن قامت قوات المردة بمساندة قوات المردة البيزنطيين بمعارك متواصلة وعنيفة، ركّزت من ورائها أوسع حدود لدولة المردة بحيث شملت اللاذقية شمالا الى مشارف حماه وحمص شرقا والى مشارف القدس جنوبا. نجد اذاً معاهدة تقليدية نتيجة حرب تُقام بين دولة المردة المدعومة من الدولة البيزنطية و الدولة الأموية العربية من جهة ثانية. و قد يكون خوف معاوية من ثورة المردة في جبل لبنان و امتدادها الى بلاد الشام هو السبب في حسن معاملته للمسيحيين في دمشق التي كانت تحت رحمة هجمات المردة.

" منذ ذلك الحين بدأ الجبل اللبناني بالظهور على المسرح السياسي في هذا القسم من العالم. هذا الجبل اللبناني بقيادة الموارنة وركائزه الجغرافية هي جبّة بشرّي، بلاد جبيل وبلاد البترون" (ف حتّي)

وفي سنة 685 و على أثر تعاظم قوة الدولة اللبنانية طلب عبد الملك بن مروان من يوستنيانسوس الثاني أن  يبرم اتفاقية جديدة للحل على شرط توقّف غارات المردة من لبنان. و من ثم تمّ سحب فرقة المردة البيزنطية بحراً بحيث تمّ فصل الإلتحام بين الدولة اللبنانية و بيزنطيا. هذا النزف الذي قدّره المؤرخ تيوفانوس بما يقارب 12 ألف عسكري أدّى الى " سقوط الجدار النحاسي" ممّا أضعف كثيرا الإمبراطورية البيزنطية نفسها و قوة التواجد المسيحي في الشرق للمرة الثانية بعد الخسارة الأولى و الانسحاب في معركة اليرموك (حسب المؤرخ تيوفانوس)

المقاومة الثقافية واللغوية

على الصعيد الحضاري  و الثقافي فان المعاملات الادارية عند الأمويين كانت تصدر بالآرامية واليونانية من رسائل ولوائح ضرائب وجباية. و العملة كانت تحمل كتابة يونانية وبقيت بعض الوقت تُصكّ في دمشق و عليها علامة الصليب حتى أيام الخليفة عبد الملك بن مروان. هنا كان للاستعمار العربي المسلم أساليب أخرى أخطر بكثير هي الاستعمار الثقافي واللغوي بحيث أصدر الخليفة عبد الملك بن مروان (685- 705) إصلاحات أساسية ابتداء من سنة 696:

أولا- اعتماد اللغة العربية في كل المعاملات داخل الأمبراطورية العربية بدل السريانية واليونانية والفارسية، مما دفع بالنهضة الفكرية في كل المناطق من ترجمة وتبادل ثقافي في اللغة العربية.

ثانيا- اعتماد صكّ للعملة الاسلامية بدل العملة البيزنطية.

هذان الاصلاحان كانا من أهم الأسباب لتوطيد النفوذ العربي و اعطاء الحكم صفة مركزية، كما ساهم بترسيخ الهوية العربية الاسلامية في كل المناطق بحيث أصبحت كلمة عروبة ملازمة للإسلام...

و هكذا أصبحت المعركة الثقافية واللغوية وجها ثانيا لمقاومة الشعب الآرامي الذي ظل يحافظ على تراثه الذي تمثل بلغته القومية الأصلية أي الآرامية السريانية من خلال انتاجاته الفكرية المؤتمنة في الأديرة و من خلال لغته في القرى  و الجبال، و لما أُرغم بعد قرون عديدة على استعمال لغة المستعمِر العربي للحاجات الاقتصادية ظلّ متعلقا باللغات الغربية التي هي تاريخيا تعلق بثقافتنا المتميزة عن الثقافة العربية، بحيث سقطت السريانية فاستمرّت اليونانية واللاتينية و من ثم تلتهما الانكليزية والفرنسية. كما ظلّ يحافظ على اللهجة الللبنانية التي نستعملها والتي تتميّز كليا عن العربية الأدبية في نهاية المطاف لأنها لغة ذات هيكلية سريانية بمفردات عربية. فبعد أن كانت سائر المناطق قد أسلمت في دينها وتعرّبت في لغتها ظلّ لبنان مسيحيا في دينه و سريانيا في لغته و قوميته...

 الشروط العمرية:

وقد فرضها الخليفة الأموى عمر بن عبد العزيز (717- 720) على المسيحيين تحت الإحتلال أى أهل الذمّة وكانت الأولى من نوعها وخلاصتها: " انه منع المسيحيين من الوظائف الحكومية العامة. ومُنعوا من بناء الكنائس وأن تكون صلواتهم بصوت منخفض لا يُسمع للخارج و أن تكون لهم ثياب تميّزهم مثل زنانير الجلد و مُنعوا من لبس العمائم و أُجبروا على ركوب الدابة دون سرج أو بردعة"

خلال هذا الحكم الأموى القصير نسبيا وصل الإمتداد الجغرافي من اسبانيا غرباً حيث لم يتوقّف الاّ في معركة بواتيِه في فرنسا على يد شارل مارتل سنة 732، الى حدود الصين شرقا، الى آسيا الصغرى و حدود تركيا شمالاً، و كامل شبه الجزيرة العربية جنوباً، مما يتعدّى حدود الامبراطورية الرومانية أو فتوحات الاسكندر... لكن لبنان ظهر وكأنّه جزيرة مسيحية صغيرة في بحر من الإسلام وشكّل الوطن الملجأ الذي نزحت الى أقسامه الشمالية جماعات من كل المناطق المجاورة هرباً من الاضطهاد أو من دفع الجزية أو تجنّبا للذمية والشروط العمرية...

فالعهد الأموي اذاً شهد استقلالا تاماّ وسيادة تامّة للأمة اللبنانية التي اتسعت رقعة تواجدها أكبر اتساع. ولكن نهاية هذا العهد شهدت انكماشاً للوطن المسيحي الى بلاد الشوف جنوبا وعكّار شمالا، باستقلال سياسي و سيادة للأمة المسيحية اللبنانية مع تواجد المسيحيين خارج هذه الحدود.

 نشوء البطريركية المارونية:

 بعد سقوط انطاكية بيد العرب سنة 636، حاول البيزنطينيون أن يُبقوا المسيحيين تحت سيطرتهم، فأخذوا يعيّنون بطريركاً لأنطاكية يقيم في القسطنطينية.لكنهم عرفوا بعد حين أن بطريركا يقيم خارج بطريركيتة لا يعطي ثمره فأهملوا هذا التعيين فزادت الفوضى. هنا أقدم الشعب الماروني على خطوة أساسية في تاريخهم، وذلك باعلان أنفسهم كنيسة مستقلّة. (وهذه جرأة عظيمة في تاريخ الكنيسة. فهي التحدّي لكل من حولهم من جهة وفيها الشعور العميق للذاتية المميّزة من جهة أخرى. وهكذا ولد الشعب بفضل سلطة بطريركه وحضارته وتقاليده.) كان ذلك حوالي سنة 685 حيث تمّ انتخاب مار يوحنا مارون أول بطريرك لأ نطاكية وسائر المشرق للموارنة في دير مار مارون على العاصي. لكن الأمبراطور يوستنيانوس الذى كان هو يعيّن البطاركة استاء من موقف الموارنة الاستقلالي فأرسل العساكر ضدّهم 694 فخرّبوا دير مار مارون و قتلوا 500 من رهبانه، مما اضطرّ البطريرك الى الهرب الى لبنان حيث لا حقه العسكر البيزنظي واحتدمت المعركة في أميون...

مع انتقال البطريرك الى لبنان ترافقت هجرة الموارنة من وادي العاصي حيث سكنوا الى جانب إخوانهم موارنة لبنان في الجبال. و لاتزال كنيسة ماما في اهدن أقدم كنيسة للموارنة في لبنان 749. بعد ذلك قام البطريرك الجديد بزيارة الى بابا روما وحصل بالمقابل على براءة من البابا سرجيوس. وفي سنة 707 توفي البطريرك يوحنا مارون ودفن في دير مار مارون، كفرحىّ في بلاد البترون، الذي شيّده ...

من هنا يمكننا أن نفهم ونستخلص مايلي: تماما كما أن هذا المجتمع الذى صمد في جبل لبنان و أخذ القرار بالاستمرار في المقاومة، هذا القرار نفّذه على الصعيد القومي و الجغرافي و السياسي و العسكري أيضاً، نفّذ هذا القرار على الصعيد الحضاري و الثقافي و اللغوي و كان أميناً على كلّ هذه القيم التي من أجلها أخذ القرار أساساً قبل أن يجتمع و يعلن استقلاله في جبل لبنان بما عُرف بدولة "المردة الجراجمة" الأولى سنة 676 و ولادة المقاومة المسيحية التاريخية و ولادة قضية شعبنا المسيحي اللبناني.

إن تاريخ الشعب السرياني المسيحي في لبنان ممتزج بتاريخ الكنيسة المارونية في جبل لبنان و هو تاريخ الإضطهاد و المقاومة: فليس لدينا عن حياة الموارنة في الجيل الثامن و حتى الحادي عشر إلاّ هذان المستندان: الجنائن التي نحتوها في الصخور و الصلوات التي كانوا يصلّونها.

إذا كان تاريخ لبنان يبدأ منذ ستة آلاف سنة، يؤكد المدافعون عن النظرية الفينيقية، فالحقيقة هي أن التاريخ القومي الللبناني كشعب وعى كيانه ور أراد السيادة و الحرية و ضحّى بكل شيء من أجلها، هذا التاريخ يبدأ مع الفتح العربي إذ كان الوعي القومي غافياً قبل هذه الفترة: لأن لبنان المسيحي قبل القرن السابع كان مرتبطاً بسائر المشرق المسيحي الآرامي كما بالغرب، داخل الدائرة الحضارية الواحدة. لكن تغيير ملامح المنطقة المحيطة بلبنان و فرض العروبة عليها تحت الاحتلال العربي المسلم فكّ الارتباط العضوي بين سكان لبنان المسيحيين و سائر المنطقة الآرامية المُعرّضة بحيث شهدت المنطقة تناقضاً و مواجهةً بين قوميتين عربية اسلامية وسريانية مارونية مسيحية، وصراع بين حضارتين ماتزال نتائجه تتفاعل حتى اليوم...

في  قضية نشوء الموارنة كياناً وكنيسة نستخلص حقائق ثلاث:

الحقيقة الأولى: لم يكن هذا النشوء صدمة بل كان و نما و ازدهر على مرّ التاريخ و أثبت معتقداً ايمانياً خلقدونيا (451) صريحاً و شهد له حتى الدم (تجاه فريق المشيئة الواحدة)

الحقيقة الثانية: رفض الموارنة السريان أن يسيروا في تاريخ يكون أكبر منهم ويذوبهم، و على قلّة عددهم فهم يرفضون الإنقراض و يريدون العيش في سلام و بحرية. وتأسيس البطريركية المارونية الانطاكية جاء تعبير عن هذا الايمان وعن تلك الحرية.

الحقيقة الثالثة: كان عليهم من أجل تثبيت ذلك أن يناضلوا منذ نشأتهم و أحياناً لوحدهم من أجل المحافظة على هذه المسلّمات. فهم يناضلون كي تظهر حقيقة الحرية. و هكذا فُرض على الموارنة و على كل من تَمورن معهم أن يرحلوا و يهجروا سهول بلادهم الشامية و يهجروا بيوتهم و أرضهم و يتشبثوا بايمان مارون الناسك و قدوة بطريركهم الأول اللذين أصبحا رمزاً لعدم الرضوخ لأي محاولات ترويض أو تغيير في معتقدهم و حريتهم (الأب ناصر الجميّل)

الحكم العباسي (750-1250):

 لقد استولى العباسيون على الحكم إثر مذبحة مدبّرة فتكوا خلالها بالعائلة الأموية و تعقّبوا من تبقّى منها و قضوا عليهم و لم ينج الاّ واحد أصبح حاكماً لأمويّي الأندلس فيما بعد.

أما بالنسبة للبنان فلم يتردّد العباسيون بخرق الإتفاقيات المبرمة بين الأمويين و بين الموارنة السريان في الشرق. ساعدهم على ذلك انكماش الرقعة المستقلّة الى الجبال اللبنانية فقط و ضعف البيزنطيين و رداءة الحكم و فساده في القسطنطينية. فعادت المعارك من أجل إخضاع جبل لبنان و مسيحيه. لكن الحرب اتخذت طابعاً آخر أكثر دهاءً: فبينما كان الأمويون يواجهون دولة المردة في لبنان بصفتها دولة عدوّة تحتوى على شعب من "الكفّار" يسكن أرضاً هو صاحبها الشرعي ويؤلف معها أمة السريان الموارنة. أما العباسيون فقد نقضوا الوضع القائم من أساسه بحيث اعتبروا الأرض اللبنانية السريانية المارونية، بكل بساطة أرضاً عربية و أصبح الشعب اللبناني السرياني، صاحب الأرض، شعباً دخيلا وجب القضاء عليه بمختلف الطرق واستبداله بسكان عرب مسلمين "من أجل استعادة الأرضي العربية من أيدي المحتلين المسيحيين..."

فما يميّز الاستعمار العربي عن بقية الاستعمارات التاريخية الأخرى، أنه لم يسيطر فقط على الأرض و الشعب سياسياً و عسكرياً فحسب، بل كان يزوّر هويتها و يحوّلها الى الهوية العربية من خلال التذويب و التعريب.  من هنا بدأت خطّة الاستيطان العربي على الأراضي اللبنانية، بحيث استقدم الخليفة أبو جعفر المنصور العباسي قبائل من الجزيرة و طلب منها الإستيطان الدائم في السهول و على الشواطى اللبنانية التي أُعلنت أرضا عربية، وذلك من أجل هدفين:

 الهدف الأول: هوتخفيف الوزر العسكري عن الجيوش العباسية على جبهتها الغربية بواسطة الشعوب العربية التي ستقاتل للحصول على الأرض.

الهدف الثاني: هو تكملة الإِطباق على الأمة المارونية السريانية المسيحية الحرّة، التي تصبح دخيلة و عدوّة لأنها تحتلّ أرضا عربية.

من هنا يمكن القول: ان تاريخ الإسلام على الأراضي اللبنانية يبدأ من سنة 758 مع حملة المنصور الإستيطانية بواسطة القبائل العربية الإسلامية. كما أن القضية اللبنانية بدأت بالفعل مع هذا الإستيطان، بحيث تحوّلت الحرب من حرب عربية- لبنانية بين دولتين قوميتين لكل منها أراض معينة وحدود معروفة إلى صراع على الأرض الواحدة، بعدما اعتبر المستوطنون أنفسهم السكان الشرعيين، وكل من ليس عربيا يصبح محتلاّ و دخيلاً أو عميلاً. فالتاريخ أعطى المسيحيين الحقّ، و الشرعية الاسلامية أعطت المسلمين حقها.

أهمية هذه الصورة بالغة الخطورة لأنها ترشدنا الى تطوّر النيّة العربية في المنطقة... الاستراتيجية العربية الاسلامية تقوم عبر التاريخ على مايلي:

المرحلة الأولى: تعريب الأرض وما عليها بالاستطان المباشر= الفتح المادي.

المرحلة الثانية: تعريب هويّة النظام و أسلمة مؤسساته = الفتح الديني.

المرحلة الثالثة: تعريب لغة و ثقافة الشعب تحت نير الإحتلال، بأسلمته و إخضاعه لنظام أهل الذمّة وبتهجيره من الأرض نهائياً = الإستعمار الثقافي والحضاري.

 إذا كانت ولادة المسألة المشرقية تُحدد بحوالي سنة 636 أى بالفتح الاسلامي و ما استتبعه من مدّ على كل الأراضي المشرقية مماّ بلور الهوية القومية اللبنانية والإستقلال في جبل لبنان. فإن ولادة القضية اللبنانية تُحدد بحوالي سنة 758 أي  بالخطّة الاستيطانية على الأراضي اللبنانية وما ولدّت من ثنائية في الهوية و الانتماء ما زالت تتفاعل حتى يومنا: فمن ناحية هناك الشعب المسيحي السرياني اللبناني و من ناحية ثانية هناك الشعب المسلم العربي في لبنان...

انطلاقا من هذه المرحلة التاريجية يمكن أن نفهم عمق التناقض السياسي بين المسلمين والمسيحيين في لبنان... على الصعيد العسكري، فإن حدود الوطن القومي المسيحي انكمشت جنوب نحو نهر الكلب مع استيطان الارسلانيين في بيروت أما الخط  الجبلي فكان خط بحر صاف- ترشيش...

 خلال القرن التاسع كانت العلاقات بين الدولة اللبنانية المسيحية والدولة البيزنطية خير دعامة من الناحية العسكرية، كنتيجة طبيعية للعلاقات السياسية الدينية الحضارية. مثال على ذلك الإنزال البحري  للقوات البيزنطية سنة 810 على شواطىء الأوزاعي الغربية من بيروت، و مساندتهم قوّات المردة في معاركها مع الأرسلانيين العرب. بحيث فرغت السواحل الممتدة من انطاكية الى عكّا من التواجد العربي المسلم الكثيف، خوفاً من الإنزال البحري البيزنطي ممّا حمى ظهر المردة و وفّر لهم خطوط إمدادات عن طريق البحر.

كما كان للبنانيين روابط مع أوروبا اللاتينية عن طريق إنشاء علاقات مع أقوى دولة فيها ألا وهي دولة شارلمان امبراطور الغرب آنذاك، حتّى تمّ اتفاق سنة 807 تنازل بموجبه الخليفة هارون الرشيد الى الملك الفرسي عن حقّ الحماية على الأراضي المقدسة بعد تبادل السفراء والهدايا.

ابتداءً من سنة 825 ضعفت القوة البحرية البيزنطية وضعفت المردة تلقائيا، بحيث قاتلت وحدها دون أي مساعدة مع تزايد الاستيطان و قدوم التنوخيين من العراق الجنوبي...

مع حلول القرن العاشر لم يعد الاستئثار بالحكم حكراً على العرب، ولم يعد الحكم العباسي مركزيا بل كان للمقاطعات حكم ذاتي الى حدّ بعيد، كما تزايدت العناصر الايرانية والتركية و البربرية في المغرب حيث وصلت الى الحكم تحت راية الإسلام. ففي مصر وصل الفاطميون الى الحكم 909- 1172 وجعلوا عاصمتهم القاهرة. كذلك في بلاد فارس والأندلس.

إن الحكم العباسي لم يكن كالحكم الأموى في تسامحه وتحرّره، و إنا أن نعتقد أن هجرة المسيحيين الى لبنان ازدادت أيام العباسيين لا سيما خلافة هارون الرشيد (786- 808) و في خلافة المتوكّل (847- 861) ولنا أن نعتقد أنه عند منصرم القرن العاشر أصبحت سوريا و مصر و العراق بلداناً اسلامية في حياتها و مظاهرها العامة. أما في مصر فإن القوانين التي سنّها الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (997- 1021) أجهزت على ما تبقّى من معالم النصرانية و جعلت البلاد بلاداً إسلامية محضة. ففي سنة 1009 قام الحاكم بأمر الله بتدمير كنيسة القيامة في القدس. كما كان اختفاؤه سنة 1021 منطلقاللدعوة الدرزية...

 5)      مرحلة الحروب الصليبة

الحملة البيزنطية المشرقية: (927- 1084)

إن الحملة لتي قام بها البيزنطيون ابتداءً من سنة 927 على المناطق المشرقية لاسترجاعها تُعتبر بحق ممهدة للحملة الصليبية الأوروبية. فبدأت حرب شرسة و طويلة بين الجيوش البيزنطية و حلفائها المسيحيين حيث جنّد الأرمن أكثر من 110 آلف مقاتل مع القوات النظامية الرومية و قام المردة بحماية ظهر الروم عند اجتيازهم سهل البقاع، و انضمّت القبائل المسيحية الى البيزنطيين أيضا و أغارت على المحميات الاسلامية. من جهة العرب تولّى الحمدانيون  وعاصمتهم حلب، المعركة في شمال بلاد الشام، وتولاها الفاطميون على سواحل لبنان و في فلسطين و مصر.

استمرّت المعارك وواصل البيزنطيين تقدّمهم، فاسترجعوا انطاكية فحلب سنة 969، أما طرابلس فلم تسقط. لكن البيزنطيين لم يستطيعوا الحفاظ على انتصاراتهم طويلا و انكمشت رقعة تواجدهم في انطاكية، و تمّ ابرم معاهدة بين الملك باريل الثاني و الخليقة الفاطمي الحاكم بأمر الله (أبو علي المنصور) لتكريس الأوضاع.

تجاه هذه الحملة الصليبية المشرقية، كان ردّ الفعل عليها مزدوجا: فالمسيحيون اللبنانيون وقفوا مع القوات البيزنطية و دعموها في موقف تضامن تاريخي من الارتبط العضوي بين شعوب الحضارة الواحدة و الوحدة المصيرية بين عناصر تيّار عالمي واحد. أما القبائل الأرسلانية والتنوخية و حلفاؤها العرب المسلمون الذين استوطنوا المناطق اللبنانية، فقد تحالفوا طبيعيا مع الدولة الإسلامية التي أرسلتهم و دعموا المحيط الاسلامي حولهم، و هو رابط عضوى أساسي أيضا... مما ولّد نظرتين قوميتين و منطقين حضاريين تجاه كل الأحداث التاريخية في المناطق المشرقية. فبينما التحم الموارنة طبيعياً مع الصليبيين باعتبارهم أبناء حضارة واحدة، في سعيهم لاسترجاع الشرق و الحفاظ عليه، تحالف عرب لبنان طبيعاً مع العربي الاسلامي، وتعاونوا ليطردوا العدو الصليبي الغربي الدخيل على أراضيهم التي اعتبروها عربية، لمجرد أن الفتح المسلم كرّسها منذ قرون...  ومن ثم التفتوا ليؤدبوا مسيحيي لبنان لتعاملهم مع العدو الصليبي. هنا أيضا نرى أن كل فريق على أرض لبنان يتمسك بحق طبيعي ويقاتل لأجله، وتستمّر حرب الطرشان بين حقيقتين وشرعيتين لا تعترف الواحدة بالأخرى...

 عودة الى الحملة البيزنطية التي لم تنجح خاصة أن الفترة الممتدّة بين سنة 1025- 1081، كانت مطبوعة بالضعف عند بيزنطيا بسبب الصراع على السلطة والحروب الأهلية...

سنة 1054 مثلا شهدت الإنشقاق الكبير بين الكنيسة الغربية والشرقية وتبادل الحرم.

سنة 1055 سيطر الأتراك السلاجقة على بغداد عاصمة الحكم العباسي، برتبة سلطان زمني للخليفة الديني العباسي و كحماة للسنّية تجاه الشيعة.

إن بداية التراجع العسكرى البيزنطي كان في معركة منريكرت سنة 1071 حيث انتصر السلاجقة بقيادة ألب ارسلان الذي تمكّن من أسر الامبراطور للمرة الأولى، مما فتح طريق السيطرة السلجوقية على آسيا الصغرى ومن ثم على بلاد المشرق، ماعدا مصر الفاطمية. أما تحديد نهاية الحملة البيزنطية فهو سنة 1084 تاريخ سقوط انطاكية في يد السلاجقة تبعه سقوط القدس سنة 1085....

 الحملات الصليبية الغربية: (1097- 1291)

خلال القرن العاشر كانت الأرضي اللبنانية في الساحل و في الداخل، حلبة للصراع بين الفاطمية و السيطرة السلجوقية. أما الجبل فقد حافظ على استقلاله وكيانه وسيادته. و قد استطاع الجيش البيزنطي السيطرة على السواحل بين (968- 976) حيث احتّل حلب و عرقة و طرابلس و صيدا و بيروت. في مدينة صور أعلن علاّقة نفسه أميرا عليها بمساعدة الاسطول الرومي من أجل الثورة على الفاطميين. لكنه هُزم و اقتيد الى القاهرة حيث أُعدم.

 في وادى التيم كان نشوء الدروز بدعوة من نشتكين الدرزي على أيام الحاكم بأمر الله (996- 1021). هذه الدعوة كان برفقتها حمزة بن علي الذى وضع أسس المذهب التوحيدى فقهياً وفلسفياً. مع اختفاء الحاكم أُغلقت الدعوة الدرزية. فقد تمركز الدروز في الشوف و المتن و وادي التيم، كما تمركز الشيعة في جبل عامل و بعلبك. مع سنة 1070 تدفقت جيوش السلاجقة بأعداد كبيرة على لبنان و بلاد الشام الشمالية التي وقعت بأيديهم. وظلّت فلسطين والساحل اللبناني بيد الفاطميين.

كان لسقوط انطاكية والقدس أثرا عظيماً وساط الأوروبية، ولماّ توجّه الأمبراطور البيزنطي الكسيس كومنين بطلب المساعدة لدى اعتلائه العرش سنة 1081 للحصول على المرتزقة والمساندة العسكرية، ماكان من البابا أربان الثاني الاّ أن دعا الى الحرب المقدّسة في مجمع كلارمون فران سنة 1095 بحيث تمّ تجنيد كل الطاقات السياسية و العسكرية في أوروبا مما سوف يتخطّى كل مخاوف وكوابيس بيزنطيا.

إن الحملة الصليبية الأولى هي الوحيدة التي بلغت أهدافها بالوصول الى القدس و تحريرها من الفاطميين و ذلك بين سنة (1098- 1099). على مدى هذا الانتشار الجغرافي، بدأ الصراع المرير بين الحكم اللاتيني و الحكم البيزنطي. فقد نكث أمراء اللاتين بعهودهم نحو امبراطور بيزنطيا، وبدل أن يعيدوا إليه الممتلكات البيزنطية، أقاموا عليها امارات لاتينية و نصبوا بطاركة من اللاتين في انطاكية و في أورشليم... أما في جبل لبنان فإن البقعة الحرّة التي كانت محصورة من العاقورة الى اهدن مرورا بتنّورين الى الحدث الى حصرون فبشرّي ، كل هذه البقعة هبّت بشعبها المسيحي الحرّ لملاقاة هذا الجيش المسيحي الذي قدم من أوروبا ليحرّر الأرض المشرقية و يدفع بالمسلمين رجوعاً، الى الصحراء من حيث أتوا، ربما...

 لقد جاءت الحروب الصليبية وكأنها رافعة تاريخية لتعيد التوازن الى الساحة المشرقية. وقد كانت المرحلة الصليبية مرحلة ذهبية للاتصال بين المشرقيين والمسيحيين الغربيين على مختلف الصعد، الدينية خاصة و العسكرية و الاجتماعية و الحضارية و اللغوية و الثقافية. وقد كتب المؤرخ الصليبي غليوم: "ولماّ خيّم الفرنج فوق مدينة طرابلس- في زحفهم على أورشليم بعد فتح أنطاكية- هبط اليهم جماعة من المومنين السريان الذين يسكنون جبل لبنان فوق البترون وطرابلس... لأجل تهنئتهم و عرض خدماتهم عليهم. فرحبّوا بهم بعواطف الحب الأخوي واتخذوا منهم هداة يرشدونهم آمن الطرق و أيسرها في تلك الجبال الهائلة التي كانت تعترضهم". (المطران يوسف دريان)

 مراحل البطريركية المارونية:

العلاقات المسيحية الصليبية، و تحديدا المارونية اللاتينية كان محورها العلاقات الكنسية بين البطريركية المارونية و كرسي روما، و التي كان من نتائحها العادات اللاتينية الطقسية التي مشى عليها الموارنة... و قد أتاح الوجود الصليبي سبل الإتصال بالكنيسة الأم في روما، فما إن دخلت الجيوش الصليبية لبنان حتى وجّه البطريرك يوسف الجرجس من كرسيه في يانوح رسالة الى بابا روما حوالي سنة 1110 ، يوكد له خضوع طائفته، وبالمقابل استلم التاج و العصا صاحب الكرسي الروماني مع التثبيت. وكانت الرسالة تستغرق ثلاث سنين.

 أمّا مراكز الكرسي البطريركي، فالكرسي الأول كان في دير مار مارون كفرحي في بلاد البترون من سنة 685- 938، ثم انتقلت الى ديرمار جرجس يانوح في جبل المنيطرة على أيام البطريرك بطرس الجبيلي حتى سنة 1120.  في سيدة ايليج ميفوق 1120- 1174 ثم مرة أخرى 1245- 1440. ثم تنقّلت بين لحفد وهابيل ويانوح وكفيفان، كفرحي، كفر، ثم يانوح وميفوق ومردين...

 الاتصال المباشر تمّ على أيام البطريرك أرميا العمشيتي حيث قام بزيارة الى روما واشترك بالمجمع الرابع سنة 1215. وقد وجّه اليه البابا أنوسنت الثالث مع درع التثبيت البراءة المسطّرة كما يلي: بعد أن وافقنا على التقاليد المرعية حتى اليوم في الكنيسة الانطاكية لصالحكم و صالح أسلافكم نمنحكم درع التثبيت".

 في مجال العلاقات الحضارية والثقافية، نستشهد هنا بالرسالة التي بعث بها الملك القدس لويس التاسع الى الشعب الماروني من عكّا سنة 1250: "وأنتم أيها السيد البطريرك والسادة الأساقفة و سائر الاكليروس و الشعب الماروني مع أميركم الشريف أيضاً، فاننا ننظر بمزيد التعزية لتعلّقكم الثابت بالديانة الكاثوليكية والى احترامكم لرئيس الكنيسة خليفة القديس بطرس. ونحضّكم على حفظ هذا الاحترام وعلى الثبات في ايمانكم بلا انقسام. أما نحن و كل الذين يخلفوننا على عرش فرنسا فاننا نتعهد بأن نوليكم و شعبكم نفس الحماية التي للفرنسيين و أن نعمل على الدوام كل ماهو ضرورى لسعادتكم" (المطران يوسف الدريان، نبذة تاريخية في أصل الطائفة المارونية)

 على الصعيد السياسي فان جبل لبنان ظلّ على حكمه المستقلّ مع أمرائه ومقدميه وبطريركه. وكانت الأراضي اللبنانية مقسومة اداريا بين امارة طرابلس شمال نهر الكلب ومملكة القدس جنوب نهر الكلب. أما العرب في لبنان " فقد نزح الشهابيون من حوران إلى وادى التيم حيث انتصروا على الصليبيين مما أفرح صلاح الدين حيث ولاّهم على الأراضي التي سيطروا عليها. وقد عمل التنوخيون بشجاعة على صدّ هجمات الروم على المدن الساحلية ووقفوا بوجه موأزريهم من المردة" (التاريخ في المرحلة المتوسطة) فكل مامرّ على لبنان من أهوال وتضحيات خلال قرني المرحلة الصليبية، لم يجد لها مخططو تربيتنا الوطنية أفضل من هذا الملخّص!! فنحن لا نريد أن تنشأ أجيالنا على تاريخ يقول : إن أجدادنا حاربوا إلى جانب صلاح الدين الأيوبي و طردوا الصليبيين... لأن أجدادنا كانوا يدافعون عن كيانهم و هويتهم و أرضهم ضد الأيوبيين و المماليك بعدهم رغم انسحاب الصليبيين وانتهاء الحملات الصليبية سنة 1291 بسقوط عكّا والمدن الساحلية الكبرى. و لكن هذا لا يعني أن المسيحيين في جبل لبنان كانوا متّحدين دائما خلال العهود الصليبية، كما أن ما أخذه الموارنة من حرية بفضل الصليبيين سيعود عليهم بالويل، وسيجعل أعداء الصليبيين أعداء للموارنة. بحيث وجّه المماليك الى داخل لبنان عدّة حملات انتقامية لإخضاعه بمشاركة التنوخيين و بمساعدة حاكم طرابلس التي سقطت سنة 1289. هذه الحملات تتالت في السنوات 1283 و في 1292، إلى أن جاءت الحملة الكبرى سنة 1305 على كسروان.

 اجتياح المماليك: سقوط استقلالية لبنان

 ان الحرب الصليبية كانت من القضايا الكبرى الخاسرة في التاريخ: فهي لم تستطع تحقيق هدفها الأساسي وهو تحرير الأراضي المقدسة. وقد بدأ التراجع العسكري ومراحل الانكسار الصليبي منذ الحملة الثالثة سنة 1190. ومن عوامل التقهقر اختلاف الصليبيين فيمابينهم واختلافهم مع البيزنطيين سياسيا ودينيا، خاصة بعد توجّه الحملة الصليبية الرابعة الى القسطنطينبة واحتلالها سنة 1204 واقامة حكم لاتيني حتى سنة 1261 بحيث لم تستطع بيزنطيا العودة الى أمجادها.

 ان النصف الثاني من القرن الثالث قد شهد تطورات خطيرة على الساحة المشرقية: ففي سنة 1250 قتل المماليك السلطان الأيوبي و اغتصبوا السلطة. بالنسبة الى الدولة العباسية و السلجوقية فقد جاءت النهاية على يد هولاكو المغولي حفيد جنكيزخان الذي حاصر بغداد واحتلها سنة 1258 وخرّبها وقتل المعتصم وهو آخر خليفة عباسي، لكن المدّ المغولي توقّف عند معركة عين جالود سنة 1260 حيث سحق المماليك بقيادة قطز و بيبرس الجيوش المغولية وأخرجوهما من بلاد الشام. فتدعّم سلطان المماليك و أكملوا انتصاراتهم على الامارات الصليبية، فاستولى بيبرس على انطاكية سنة 1278. وفي سنة 1270 فشلت الحملة الصليبية السابعة والأخيرة بموت قائدها الملك لويس التاسع بالطاعون بتونس. على الصعيد الداخلي فان الحملات العسكرية المملوكية توالت على جبل لبنان. مثل حملة سنة 1283 حيث استطاع بيبرس قائد المماليك اجتياح جبّة بشرّي بالرغم من وقوف البطريرك دانيال الحدشيتي على رأس رجاله أربعين يوم أمام اهدن، لكن خيانة المقدّم سالم من الجبّة سهلّت المرور من البقاع عبر ممرات ومكّن المماليك بالحيلة من اعتقال البطريرك ومن ثم تدمير بشرّي. في سنة 1289 سقطت طرابلس بيد قلاوون الذي دمّرها مما فتح المجال للالتفاف على جبل لبنان انطلاقا من الشمال.  سنة 1291 سقطت عكّا وهي آخر معاقل الصليبيين بيد الأشرف خليل، واستسلمت المدن الساحلية كحيفا و صور و بيروت و طرطوس بجلاء الصليبيين الى قبرص، وانتهى الحكم الصليبي في الشرق بعد صراع مرير دام حوالي قرنين.

حاول المماليك اكمال فتوحاتهم لجبل لبنان لكن المقاومة المسيحية سجّلت انتصارا جبّارا سنة 1293 ((  لايتكلّم عنة تاريخنا الرسمي)) وهو ما عرف بمعركة مثلّث الفيدار جبيل، المدفون حيث واجه ثلاثون ألف مسيحي نحو مئة ألف من جيوش المماليك و العشائر العربية وانتصروا عليهم من دون مساعدة البيزنطيين و لا الصليبيين...   لكن هذه المعركة كانت آخر وقفة استقلالية للوطن القومي المسيحي، لأن حملة جديد هائلة تمّ تحريدها حوالى سنة 1305 من عدّة محاور فسار نائب بعلبك مدعوما من نائب الشام الذى قاد الحملة و هو أقوش باشا الأقرم من ناحية البقاع، وسار نائب طرابلس من الشمال، وغزت قوات عرب لبنان بقيادة أمرائها من الجنوب. تجاه هذه العساكر الجراّرة الكبيرة من ناحية وبسبب الضعف الداخلي والانقسامات في صفوف المسيحيين، لم يجدِ الدفاع المستميت في الصمود هذه المرّة وانتصر المماليك انتصارا عسكريا ساحقاً، كما عمدوا الى شتّى أنواع المذابح البشرية والتهديم و حتى الى احراق الأشجار و المزروعات بهدف الغاء الوجود البشري المسيحي في كسروان الذي شكّل لهم عداءً بغيضا.

 حملة كسروان هذه غيّرت مرة أخرى وجه التاريخ: فاذا كانت معركة اليرموك هي المفصل التاريخي المصيري الذي سمح للغزو الاسلامي أن يمتّد الى مناطق المشرق المسيحي و يسطر عليها ماعدا جبل لبنان الذى حافظ على استقلاله وكيانه طيلة ستة قرون، فان حملة كسروان والاجتياح الكبير قد أدّت الى سقوط الوطن القومي السرياني المسيحي و الى سيطرة الحكم الاسلامي على جبل لبنان، أى ماتبقّى من آخر بقعة حرّة في المنطقة المشرقية.

 تضمنّت هذه الحملة هدفين للحكم المملوكي السنّي فمن ناحية استهدفت القضاء على الشيعة، ومن ناحية ثانية استهدفت ازالة القوّة المسيحية المستقلّة في كسروان و سحقها نهائياً لعدّة أسباب أهمها:  تعامل المسيحيين مع الصليبيين و رفضهم للحكم العربي.

على إثر هذه المجزرة الكارثة تداعت ركائز الأمة اللبنانية وتصدّعت أسس استقلالها. لأن لبنان المسيحي المستقل ارتكز على عنصرين، وحدة صف أبنائه ومناعة الجبل: إن فقد ان وحدة الصف من أسباب التعجبل في سقوط الكيان المستقلّ، ومنعا لا لتئام وحدة الصف من جديد عند المسيحيين عمد المماليك الى حملة واسعة من التهجير والتشريد بحيث تراجع الوجود المسيحي الى المناطق الشمالية.كما عمد المماليك الى خطّة استيطانية جديد والى " توزيع المناطق على أعوانهم، فأقطعوا كسروان للعسافيين و الغرب و بيروت للتنوخيين. وذلك منعا لنزول الصليبيين الى البرّ و حرصا أن لا يتمّ بينهم وبين الكسروانيين أي اتصال" (كتاب التاريخ).

على الصعيد الجغرافي فان هذه المرحلة التي اتسمت بخسارة الأرض، استغرقت مئات السنين لاسترجاعها، كما أدّى الانكسار العسكري الى انكسار سياسي بحيث قسمّ المماليك الأراضي اللبنانية على ثلاث ولايات: من المعاملتين الى أقصى الشمال يتبع ولاية طرابلس ومن المعاملتن حتى صيدا يتبع ولاية دمشق ومن صيدا حتى أقصى الجنوب يتبع ولاية صفد. ومن أجل مكافأة القبائل العربية التي شاركت وساهمت في محاربة الصليبيين والمردة، ولّى المماليك آل عساف التركمان على منطقة كسروان فسمّوا المناطق على أسماء مقدّميهم عامر و خربان و مصبح، و استقرّوا في غريز. كما اقتسم آل حماده و الأرسلانيون و معن وشهاب المناطق الأخرى.

على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي فان مرحلة قاتمة طغت على الشعب المسيحي، بحيث فقدوا حقوقهم الوطنية القومية و بالتالي حقوقهم السياسية و الاجتماعية و المدنية. و هكذا تحوّل الشعب المسيحي الى طبقة اجتماعية من الفلاحين على أراض لم تعد ملكهم، تحت سلطة اقطاعية اسلامية... كان حكم المماليك الذى دام قرنين تقريبا من الحقبات المظلمة على تاريخ المنطقة المشرقية وخاصة على الشعب المسيحي الذي فقد كيانه السياسي المستقل، بحيث لن نعود نستطيع الكلام عن أمّة لبنانية مستقلة بالمعنى الكامل...

على الصعيد الكنسي، فان المراسلات بين البطريركية المارونية و روما توقّفت بين سنة 1256 وسنة 1441 بسبب الاضطرابات و قساوة الاحتلال المملوكي (الى أن نزح الكرسي البطريركي الى وادي قنّوبين). أما العوامل التي سمحت للوجود المسيحي بالصمود و المحافظة على حدّ أدنى من الكيان الاجتماعي و الاقتصادي، فهو نظام الجزية الذى وضعه المماليك لحاجتهم الى استيفاء الضرائب: وقد تمّ ذلك عن طريق الابقاء على هيكلية و بنيتها التحتية و الاجتماعية كصلة وصل. ففي أيام المماليك كان البطاركة ، أكثر من ذى قبل، مرجعاً في الأمور الروحية والزمنية، و كان يساعدهم الأساقفة و المقدمون. و قد قبل المقدمون الدرجة الشدياقية. خاصة و أن رقعة لبنان انكمشت الى حدود نهر ابراهيم العاقورة جنوباً و جبّة بشرّيى شمالاً و أصبحت مناطق جبيل و البترون قلب لبنان و الأكثر رفضا للعروبة و الأكثر ارتباطا بالغرب. و هذا يعني أن انحلال الوطن القومي المسيحي لم يحلّ في فترة واحدة. كما هاجر عدد كبير من الموارنة الى قبرص حيث التحموامع الصليبيين فيها و ألّفوا الجالية المارونية في قبرص التي ظلّت تحت الحكم اللاتيني الى أيام الاحتلال العثماني للجزيرة حوالي 1570.

 6)      الخلاصة

إن القضية المسيحية اللبنانية قد ولدت و تبلورت من خلال الحقبة التاريخية الاستقلالية التي فصّلناها و بمقدار فهمنا للتاريخ الحقيقي، ندخل إلى جوهر القضية اللبنانية في واقعها الثنائي، في البنية اللبنانية وفي التصوّر المزدوج لهذه البنية. فمن ناحية البنية الأساسية لا بدّ من طرح مقوّمات الهوية القومية، ومن ناحية التصّور العقلاني لها لا بدّ من طرح العلاقات الاجتماعية والسياسية الناتجة عنه.

 إن مقوّمات الهوية القومية تشمل مختلف ركائز الحياة عند شعب ما: تاريخا، دينا، لغة وحضارة.

1-        فيما يختصّ بالتاريخ فان القراءة التي بين أيدينا تطهر جليّا أن الأراضي التي تكّون لبنان شهدت تاريخين مختلفين تماما بالشكل والمضمون. مما ولّد نظرتين مختلفتين لكل الأحداث والوقائع عند ها تين المجموعتين.  من هنا يمكننا أن نفهم فشل " التاريخ الرسمي" الذى يُدرس في المؤسسات الرسمية في الدولة اللبنانية. فالتاريخ الواحد لا يمكنه استيعاب تصوّرات شعبين، مما خلق ضياعا قومياً عند المسيحيين خاصة، و عنصراً هاما من عناصر تفجير القضية اللبنانية، وهي قضية هوية لبنان وانتماؤة...

2-     فيما يختصّ بالدين فان المسيحية التي كانت منتشرة في كل البلاد المشرقية، قد انحسرت تجاه المدّ الاسلامي الذي تبع استراتيجية تذويبية عامة، أو على الأساس الذمّي مع مختلف الديانات الموجودة أصلاً.  في لبنان اتخّذ هذا الطابع الديني مظهراً مختلفاً مع تبلور الخصوصية لدى الشعب الماروني في هيكلية كنسية قررت المحافظة على هويتها و على انتمائها، رافضة التذويب و الذميّة في نفس الوقت.

3-     فيما يختصّ باللغة فاننا على يقين ثابت بأن اللغة الآرامية التي كانت "لغة التخاطب الدولي" في المشرق، هي التي طبعت بلاد الشام بواسطة فرعها " السرياني" بهذا الطابع المميّز لشعب سرياني مسيحي.  بينما نجد اللغة العربية دخيلة جاءت في زمن الفتح الاسلامي و ازداد تغلغها مع الحكم العربي وسياسات التعريب و ما استتبعه من استعمار لغوي. هذا الاستعمار اللغوي واجه مقاومة شرسة على مدى قرون طويلة في وجهيه اللغوي و الحضاري.

4-     فيما يختصّ بالحضارة تراثاً و فكراً و ثقافةً، فقد شكّلت في مجملها مقوّمات الهوية المميّزة للشعب المسيحي. و هذا المحتوى الحضارى هو السدّ الأخير الذى يقف في وجه السياسة التعريبية والخطط التذويبية التي استمرّت على شعبنا منذ 1300 سنة حتى اليوم بحيث تتحوّل رسالتنا الحضارية من دفاع مجتمعنا الى نضال في سبيل الحرية في كل المجتمعات وتكون رسالة لبنان في كونه بلد لقاء لحضارتين السريانية المسيحية والعربية الاسلامية...

 ان العلاقات الاجتماعاعية السياسية الناتجة عن التصوّر الصحيح للهوية القومية المزدوجة، تكمن في كلمة واحدة هي التعايش، من أجل التعايش و التواجد لا بدّ من العيش والوجود قبل كلّ شيء.

بعبارات أوضح، ان الخطوة الأساسية للوصول الى صيغة للحلّ النهائي للقضية اللبنانية هي: " القبول بوجود مجموعتين حضاريتي مع اختلافهما وتناقضهما على أرض واحدة، و لكن في إطار من المساواة و الاحترام المتبادل. حتى يركز التعايش على رفض صلة الاستعمار بشتى وجوهه بحيث تنال كل مجموعة حقوقها الاساسية الطبيعية و حقّ تقرير المصير و الحياة الحرّة في اطار من التعددية". لقد أفرز التاريخ على هذه البقعة التي أصبحت فيما بعد" الجمهورية اللبنانية" مجموعتين حضاريتين لكك منها خصائص شعب، شعب مسيحي آرامي لبناني  و شعب اسلامي عربي لبناني، قدرهما التواجد لأن ابادة شعب و اذلاله مستحيل... 

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها