عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
   د. أندريه كحّالة

د. أندريه كحّالة

بيروت – لبنان


عوامل انهيار الحملات الصليبية... والمقاومة المشرقية-اللبنانية

        على أثر انسحاب القوات الصليبية من منطقة الشرق الأدنى ومن سواحل فلسطين ولبنان خاصةً، أصبح أمام المقاومة المسيحية اللبنانية واقعٌ جديدٌ يهدّدها ويفرض عيها تحدّياتٍ جديدةً.

       في الواقع، على أثر عدّة عوامل، أصبحت الهزيمة تلاحق الصليبيين بعد مئتي سنة من الحكم على أرض الشرق، ومن هذه العوامل اختلاف الصليبيين فيما بينهم واختلاف الصليبيين مع البيزنطيين واختلاف حلفائهم فيما بينهم، فالأمراء الصليبيون اختلفوا على إدارة شؤون البلاد وعلى امتداد وحدود مقاطعاتهم فأخذوا يشنّون هجماتٍ على بعضهم البعض، وبالتالي كانوا يضعفون قدراتهم المتبادلة على مواجهة المسلمين.

        اختلف الأمراء والملوك الصليبيون مع بيزنطية حليفتهم المسيحية، فهاجم الصليبيون القسطنطينية واحتلوها وأنشأوا فيها المملكة اللاتينية الشرقية، وهنا كان الخطأ الكبير والرهيب الذي أضعف القدرات المسيحية المشرقية والغربية المشتركة (الحملة الصليبية الرابعة سنة 1204).

       ٍحلفاء الصليبيين أيضاً، اختلفوا مع بعضهم، وهنا نعني بشكلٍ خاصٍ الموارنة. وقد يكون غير صحيحٍ القول بأنّهم اختلفوا، بل الحقيقة أنّ البعض منهم خان الوضع الماروني أولاً والمسيحيين المشرقيين بشكلٍ عامٍ والصليبيين ثالثاً. الخيانة بالنهاية هي ظاهرةٌ مستمرّةٌ في تاريخ الشعوب وحتى الموارنة ومسيحيو لبنان لم يستطيعوا التخلّص من هذه الظاهرة الخطيرة.

        في الواقع، دسّ الحكّام العرب بعض العملاء في صفوف المجتمع الماروني ومنهم كهنة وبلباس الكهنة لزرع بذور الانشقاق في صفوف الأمة المارونية. فهؤلاء الكهنة المدّعين والمندسّين من قِبَل الحكام العرب، أخذوا يبشّرون بالعداء للغرب ممّا أثّر على وحدة الصف المسيحي والماروني. ومن إحدى أكبر النكسات التي أدّت إلى خلق هذه الانقسامات، دخول الحاكم العربي "بزواج" من بعلبك إلى طرابلس الصليبية وتسهيل بعض الموارنة الذي كانوا في جبة بشري وأهدن لمرور هذه المجموعات العسكرية. ولكن في العام 1182، تمكّن البطريرك الماروني من خلال إمساكه بزمام الأمور داخل الطائفة والمجتمع والكنيسة من إزالة هذا الإنشقاق. ولكن الأزمة لم تنتهي، فاستغلّ الحكام العرب الوضع وأرسلوا المزيد من المندسّين الذين توافدوا على وادي قنوبين وهؤ قلب الشمال الماروني، وهؤلاء المندسّون بدأوا يرسلونهم تحت غطاء الرهبنة، غير أنّهم خارجين عن الكنيسة كلّياً. ومن جديد أخذوا يزرعون الفتنة متستّرين بالكرم والعطاء والسخاء من المال العربي، ولكن شعب جبة بشري وإهدن ثار عليهم وعيّن مقدّماً بدأ بملاحقتهم وتطهير المنطقة كلّها منهم. وبعدما توفّى المقدم خلفه ابنه المقدم سالم، وكما هو موجودٌ في كل الظواهر التاريخية، كان هذا المقدم من بين أبناء المجتمع المسيحي اللبناني والماروني بنوعٍ خاص، الذي باع نفسه للأعداء وربط نفسه بالاستعمار الخارجي، فاستدعى أعداداً من الأغراب والهراطقة وحاول فكّ الارتباط مع سائر المقدمين المسيحيين والموارنة الذين كانوا يحاربون ويواجهون المماليك وفي الوقت نفسه يؤمنون الحماية للقواعد الصليبية الحليفة.

       في العام 1283، قام قائد المماليك (الظاهر بيبرس) باجتياح المنطقة، هذا الاجتياح كان هدفه اقتحام طرابلس الصليبية، فكيف تمكّن من اجتياح هذه المنطقة كلها؟؟

 إن أزمة العام 1283 هامة جداً في تاريخ المقاومة المسيحية في لبنان لأنه يمكننا أن نفهم من خلالها أن ظاهرة الانحراف والخيانة والخروج عن الصف الواحد الموحد المسيحي ليست بظاهرة جديدة، فهي ظاهرة قديمة في هذا المجتمع بل في كل المجتمعات، يجب أن نفهمها على حقيقتها وببعدها التاريخي وبالتالي نأخذ المثل والاستنتاج منها حتى نعرف في المستقبل وفي المراحل الدقيقة التي يمر بها مجتمعنا، كيفية اتخاذ القرارات، كيف يجب على المجتمع بشكل موحد أن يأخذ القرارات حتى لا يسمح لهكذا ظواهر أن تكبر وأن تؤدي بنتائجها إلى مآسي كبرى للشعب المسيحي.

 المقدم سالم الذي كان حاكماً لمنطقة حبة بشرى وإهدن، هدفه هو أن يتحول إلى أمير علىكل جبل لبنان المسيحي فوق كل المقدمين الآخرين. ولكن بما أنه لم يتمكن من خوض هذه المعركة سياسياً ولا عسكرياً، إستنجد بقوة خارجية، فالمماليك الموجودين في البقاع والمحيطين بجبل لبنان كان هدفهم القضاء على الصليبيين في طرابلس وفي الوقت نفسه الإنتهاء من الكيان المستقل الحر الموجود في جبل لبنان. فاتفق السلطان المملوكي مع المقدم سالم على أن يفتح هذا الأخير له ممرات الجبال الوعرة في الشمال أمام جيوش المماليك كي تمر هذه الجيوش في منطقة الشمال وأن تنزل نحو الشواطئ وتحاصر الصليبيين. وفي المقابل وعد المماليك المقدم سالم إذا سمح لهم بمرور الجيوش المملوكية وبعد أن ينتصروا على الصليبيين أن ينصبوه حاكماً مطلقاً على لبنان، أي في جبل لبنان الحرّ آنذاك.

 وزّع المقدم سالم مجموعاته العسكرية على بعض الممرات التي كانت القوات العربية منذ العام 676 لم تستطع ولم تتمكن من اختراقها. وفي هذه العملية الخيانية، تمكنت القوات المملوكية ولأول مرة منذ على الأقل ستة أو سبعة قرون من اجتياز هذه الممرات ومن دخول جبة بشري وإهدن والتوجه نحو طرابلس. ولكن القوات المملوكية العربية لم تتوجه فوراً نحو طرابلس، فلقد استوطنت في منطقة الشمال المسيحي ودخلت القرى والبلدات من حصرون وبزعون وبشرى وإهدن والحدث وكل هذه المناطق التي كانت محصنة وحرّة، حيث دمّروها وأحرقوها وارتكبوا فيها مجازر كبرى.

 أذاً استخدم المماليك المقدم سالم لدخول مناطق الشمال فاحتلوها وهجّروا أهاليها في العام 1283 وانسحبت قوات المردة الجراجمة المسيحية الحرة من مناطق الشمال وتمركزت في مناطق جبيل والبترون بانتظار العودة.

إن المردة الجراجمة بفقدانهم جبة بشري وإهدن، فقدوا مرتكزاً أساسياً من مرتكزات المقاومة المسيحية اللبنانية ولكن بعد صمود ونضال طويلين تمكن المردة الجراجمة من استعادة مناطق الشمال المسيحية في العام 1287 وانقضوا بدفعات متتالية على جيوش المماليك المتواجدة في هذه المناطق وحول طرابلس وتمكنوا من استرجاع كل المناطق التي كانت محتلة. ولكن الاحتلال المملوكي دمّر وقتها النظام الإقتصادي والإجتماعي وقضى على كل معالم الحضارة في منطقة الشمال. من هنا، حتى ولو كانت العودة بعد سبع أو ثمان سنوات، فالخزان البشري من المسيحيين اللبنانيين في الشمال كان قد استضعف ودمّر تدميراً شبه تام.

 هذه هي النتيجة الأولى لردة فعل المماليك على المقاومة المسيحية اللبنانية، فالمماليك بحد ذاتهم يمثلون العمق الاستراتيجي العربي. كانوا يحاولون ضرب كل وجود حرّ في منطقة جبل لبنان. فلقد أدرك الحكم العربي بعد الوجود الصليبي الذي اسمتر مائة وخمسين عاماً، أن الحكم الصليبي الذي تمكن من التواجد من عشرات السنين في هذه المنطقة كان يستند إلى : القوى الخارجية التي هي قوة الأوروبيين والقوة الداخلية التي هي الوجود الشرعي للشعوب المشرقية المسيحية ومنها مجتمع جبل لبنان الحرّ.

من هنا، كان هدف الماليك هذه المرة إزالة كاملة وشاملة لكل وجود حرّ، غير مملوكي وغير عربي بل غير مرتبط مباشرة بالسلطة المملوكية أو بالخلافة الإسلامية. ومن هنا نفهم هذه الهجمات المتكررة الشرسة والضخمة على مناطق جبل لبنان الحر. الهجوم الأول على منطقة الشمال المسيحي والماروني عام 1283 والذي انتهى باسترجاع منطقة الشمال عام 1287 ولكن بعد استضعاف المنطقة وتدمير مقدراتها. الهجوم الثاني الكبير الذي حصل على مناطق المردة الجراجمة أي على المنطقة المسيحية الحرة والذي يمكننا أن نعتبره أكبر انتصارٍ عسكري استراتيجي لقوات المردة الجراجمة اللبنانية المسيحية، هذه المعركة الكبرى التي لا نراها في كتب التاريخ في المدارس والجامعات ولا في أية كتب تربية رسمية في لبنان أو في منطقة الشرق. هذه المعركة التي كانت المقاومة المسيحية اللبنانية تخوضها في أصعب الظروف يمكننا أن نعتبرها أكبر انتصار تاريخي للشعب المسيحي منذ 1300 سنة ومن وجودهم في الشرق، هذه المعركة وقعت في العام 1293 وعرفت بمعركة "المثلث" الفيدار-جبيل-المدفون. هذه المعركة بدأت عندما قرر السلطان محمد بن الناصر بن قلوون المملوكي أن يتخلص نهائياً من الوجود المسيحي الحر في لبنان ويصفّي هذا الوجود ليمنع تعامله مع الصليبيين. جمع هذا السلطان نائب الشام ونائب طرابلس التابعين مباشرة للسلطنة المملوكية واستدعى أمراء العرب التنوخيين الإرسلانيين وكل القبائل والعشائر العربية المستوطنة في لبنان وأمرهم بجمع جيوش ويقال أن هذه الجيوش كانت توازي نحو مئة ألف عسكري وقتذاك أي العام 1293. وأمرهم بالتوجه نحو الجبال اللبنانية وسحق مناطق جبيل وكسروان التي هي قلب جبل لبنان وقال لهم كما جاء في مقطع من كتاب "أخبار الأعيان": "كل من نهب امرأة كانت له جارية وكل من احتل أرضاً أو قرية اقتطعها..." فتوجهت هذه الجيوش العربية المملوكية بمحورين، محور تقدم من بيروت إلى جبيل قوامه 60 ألف مقاتل ومحور تقدم من طرابلس إلى جبيل أيضاً من30 إلى40 ألف مقاتل. إذاً كان هناك حوالي 80 ألف جندي عربي مملوكي ومن عرب لبنان هدفهم احتلال مدينة جبيل ومن ثم تطويق الوجود الحر باستيلائهم على كل السواحل وبالتالي منع الإتصال بين عمق الجبل والخارج وبالتالي إسقاط هذا الجبل من خلال الحصار.

هذا كان الهدف الاستراتيجي للمماليك المسلمين، وفي هذه المرة استفاق مقدمو المردة الجراجمة بسرعة وتجمعوا في إهمج ومشمش ولحفد وميفوق وجمعوا قواهم ووضعوا الخطة التالية:

وضع قوة في منطقة المدفون تتوجه من قلعة "ثمار جبيل"، ووضع قوة أخرى في منطقة الفيدار، الجزء الأكبر منها يتمركز على الهضاب الموجودة فوق مدينة جبيل، كل القوى المقاومة لم تكن تتعدى 15 ألف مقاتل. عندما توجه الجيش الأول المملوكي من الجنوب نحو جبيل، قطع أمام الكمين الموجود في الفيدار ووصل إلى مدينة جبيل فلم تعترضه القوة الموجودة في الفيدار وكان قادة المردة الجراجمة طلبوا مسبقاً من أهالي منطقة جبيل أن ينسحبوا من المدينة وأن يتركوها بكل ما فيها من مقومات وغنى ومحاصيل وأن يصعدوا إلى المراكب البحرية، ووصل الجيش المملوكي إلى منطقة جبيل، فرأى السكان في البحر وكان ذلك وقت غروب الشمس، فظنّ الجيش المملوكي أن سكان مدينة جبيل هربوا خوفاً وتركوا كل شيء في المدينة. دخل الجيش المملوكي وهو جيش كبير الحجم والقوة إلى البيوت وبدأوا ينهبون ويأكلون ويشربون الخمرة فتضعضع الوضع التنظيمي داخل الجيش المملوكي وتوزع وانتشى بالنصر السهل والمغانم... وفي بداية المساء، تجمعت قوات المردة الجراجمة الموجودة على الهضاب فوق منطقة جبيل وتوجهت مباشرة إلى المدينة وشقت صفوف الجيش المملوكي الذي كان مربكاً ومفككاً كلياً ووصلت إلى القيادة وضربتها فتقهقر الجيش المملوكي في جميع أنحاء المدينة وقُضِيَ على ثلاثة أرباعه. أما الفلول التي هربت جنوباً ووصلت إلى موقع الفيدار حيث كانت قوة من المردة الجراجمة لها بالمرصاد. والفلول الأخرى التي توجهت نحو المدفون قضي عليها أيضاً. وبظرف ثماني أو تسع ساعات أي بمعنى ما يسمونها حرب البرق Guerre éclair تمكن 15 إلى 18 ألف من قوات المردة الجراجمة من القضاء على جيش نظامي كبير يتألف من 50 إلى 60 ألف جندي، وعندما توجه الجيش المملوكي الثاني الذي أتى من طرابلس ليلاقي الجيش الأول في منطقة جبيل صباح يوم المعركة وصل إلى المدفون ورأى النتائج الكبيرة والمذهلة. بمنطق الجيش الثاني أن الجيش الأول المؤلف من 50 – 60 ألف مقاتل قضي عليه فماذا يستطيع جيش مؤلف من 40 ألف أن يفعل؟ من هنا تراجع الجيش المملوكي الثاني إلى طرابلس ولم يدخل في المعركة. ويقال أن كلمة المدفون تعني أن هذه المعركة بقدر ما كانت شرسة وقوية وبقدر ما دفن هناك من جنود من هنا صارت تسمية المدفون.

 هذه المعركة من العام 1293 كانت أكبر انتصار استراتيجي حققته المقاومة اللبنانية تجاه جيش نظامي كبير من دون مساعدة خارجية، بمفردها ولكن بتماسكها وبوحدتها وبقدرتها على الاستيعاب التكتيكي والاستراتيجي للأمور والتعبئة الشاملة.

 من هنا يمكننا القول أن المقاومة المسيحية اللبنانية عندما كانت موحدة ومنظمة، وعندما كانت مشكلة القيادة غير موجودة عندها، تمكنت من مواجهة العدو أينما كان وبكل القدرات التي كانت لديها. وإذا أردنا المقارنة في العدّة والعدد نرى أن النسب غير متكافئة بل بالعكس النسب الصعبة التي كانت موجودة في تلك المعركة عام 1293 هي غير النسب الموجودة حالياً.

إن هذه المرحلة مهمة حداً لأخذ الاستنتاجات التي رأيناها، فنرى أن المقاومة المسيحية اللبنانية تمكنت منذ العام 636 حتى العام 1293 من الصمود ومن توجيه الضربات لكل من حاول ضرب الاستقلال. وبالتالي كانت مقاومة قائمة بحد ذاتها وكانت قادرة رغم كل الصعوبات أن تقف بوجه الغازي والطاغي والخائن... 

ولكن هذه المسيرة لم تستمر للأسف طويلاً في تاريخ المقاومة لأن المماليك تمكنوا من تحضير عملية اجتياح أكبر بكثير، ضد الوجود الحرّ وهذه العملية الهجومية عرفت "بحملة 1305" على جبل لبنان.

 هذه الحملة شهدت ليس فقط انكسار عسكري للمقاومة المسيحية- اللبنانية ولكن انتهاء مرحلة مهمة جداً من تاريخ وجود مجتمعنا الحرّ، وهذا ما سنعرضه في الحلقة المقبلة.

 الدكتور أندريه كحاله

منشورات هيئة الثقافة السريانية

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها