عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
   د. أندريه كحّالة

د. أندريه كحّالة

بيروت – لبنان


الحروب الصليبية وتأثيراتها على العلاقات الكنسية بين روما والقسطنطينية: (1097-1291)

        إنّ التّصوّر الغربي للحركة الصليبية، كان معقداً بعض الشيء، فقد تعدّدت التحليلات حول أسباب قيام الحملات الصليبية، فمنها الأسباب الدينية، كحريّة الحجّ إلى القدس، وتعدّيات السلاجقة ومنها الأسباب العسكرية والسياسية من أطماعٍ في الأراضي البيزنطية.

        لكنّ التّصوّر البيزنطي كان مختلفاً تماماً: فعندما طلب الأمبراطور ألكسيس كومنين المساعدة من البابا أوريان الثاني، كان جلّ ما يطلبه بعض الفرق المرتزقة للحرب مع المسلمين التي ليست بشيءٍ جديدٍ على بيزنطيا. فإنّ استرجاع الأقاليم الآسيوية كانت على عاتق بيزنطيا وليس على كلّ العالم المسيحي في الشرق والغرب... فبيزنطيا نظرت إلى الحركة الصليبية على أنّها مشروعٌ أوروبيٌّ إفرنجيٌّ بربري، واعتبرته حركةً سياسيةً وقابلته بالحذر والشّك، ثمّ قاومته فيما بعد.

       فأهداف الأمبراطور البيزنطي ومصالح دولته، تتناقض وتتعارض مع أهداف الحركةالصليبية والبابوية التي أشرفت على تنظيمها: فالصّليبيّون قدموا لمحاربة المسلمين، بينما بيزنطيا كانت على عداءٍ مع فئةٍ منهم فقط، وهم الأتراك السلاجقة الذين انتزعوال آسيا الصغرى من بيزنطيا.

 مع الحملة الصّليبيّة الأولى سنة 1097، جاءت نقطة التّحوّل الأولى في العلاقات، كانت تنصيب بطريرك لاتيني على أنطاكية، وطرد البطريرك الأورثوذوكسي إلى القسطنطينية، كذلك الأمر في القدس... وهو في العمق كان انتصاراً تاريخياً لمركز البابوية وطموحها للزعامة الدينية العالمية.

نقطة التّحوّل الثانية، كانت عندما قام بوهمند بحملةٍ صليبيةٍ إنطلاقاً من أنطاكية على القسطنطينية وتأييد البابا باسكال الثاني له، ممّا سبّب منعطفاً خطيراً في العلاقات بين الكنيستين والشعبين.

مع قدوم الحملة الصليبية الثانية سنة 1147، كانت المواقف المعادية قد عمّت صفوف العسكر جميعاً، بحيث أتوا إلى الشرق يحملون أفكاراً مسبّقةً عن البيزنطيين كالمثل الذي يقول "إنني أخشى اليوناني (البيزنطي) حتى وهو يحمل الهدايا"، وأصبح الجناح المتطرِّف في الحملة هم رجال الدين اللاتين عكس الحملة الأولى... وكان لفشل الحملة الثانية أثرٌ في أوروبا، حيث عاد الملك لويس السابع ليخبر عن خيانة البيزنطيين، ويدعو إلى حملةٍ أوروبيةٍ على بيزنطيا، لكنّ البابا لم يوصل المشروع إلى الآخر.

 خلال الحروب الصليبية، في القرن الثاني عشر، جرت محاولاتٌ عديدةٌ من أجل التّوصُّل إلى الوحدة بين كنيستي روما والقسطنطينية.

 أمّا أهمّ الأسباب التي أدّت إلى الفشل فهي:

 1-    القضايا العقائدية في الانبثاق واستعمال الخبز غير المختمر إلى جانب القضايا الثانوية.

2-    القضايا السياسية في زعامة الأسقف الروماني والإختلاف في مفهوم الوحدة الكنسية: من تصوّر روما لسلطتها المطلقة تجاه المفهوم المجتمعي عند الكنيسة الشرقية.

3-    إختلاط الأهداف السياسية والدينية: في الربط بين الوحدة والتاج، فروما لم تكن ترغب باستبدال الأمبرطور الألماني بالبيزنطي. كما انّ موقف البابا وقوّته السياسية في إيطاليا، كان يؤثّر على حماسته في ملاحقة موضوع الوحدة.

4-    معارضة بطريرك القسطنطينية: حيث كانت المفاوضات تجري في الغالب بين بابا روما والأمبراطور البيزنطي وكانت عملية الاحتواء لكنيسة القسطنطينية مرفوضة.

5-    غرور الرّأي العام البيزنطي: تجاه سلوك وأعمال الصليبيين من حيث مركز القسطنطينية في الأمبراطورية.

 في سياق المناوشات داخل القسطنطينية، فقد حصلت مذابح على الجاليات اللاتينية سنة 1182. في المقابل، جاءت حملة نورمانية على تسالونيك، حيث حصل فيها مذابح متعمَّدة سنة 1185.

       خلال الحملة الصليبية الثالثة، تمّ إنشاء دولة لاتينية في قبرص سنة 1191 (وهي سوف تدوم حتى الاحتلال العثماني – 1470).

أمّا الفصل النّهائي من الخلافات، فقد جاء مع الحملة الصليبية الرابعة سنة 1204، التي فجّرت الموقف نهائياً بين الكنيستين ووصلت بالعداء الشعبي إلى ذروته: فقد بدأت الحملة باحتلال مدينة زارا المسيحية على الشاطئ الأدرياتيكي رغم الحرم الذي وضعه البابا أنوسنت الثالث.

       كما تمّ تحويل الحملة عن هدفها الأساسي، وهو مصر، إلى القسطنطينية بتحريضٍ من حاكم البندقية: عند وصول الجيش الصليبي إلى العاصمة، قام بنهب كنيسة آيا صوفيا بشكلٍ كاملٍ وإحراق العديد من الأيقونات والمخطوطات والكتب المقدّسة.

       من ثمّ قام الصليبيون بتنصيب أمبراطور لاتيني على القسطنطينية، وبطريرك لاتيني، ممّا جعل البطريرك البيزنطي يهرب إلى نيقيا، حيث قامت أمبراطورية بيزنطية حتى سنة 1261 وعودتها إلى القسطنطينية.

       هذه الحملة الرابعة، جاءت انتصاراً مؤقّتاً للغرب، بحيث فشلت في كثلكة الإغريق أو في إخضاع الكنيسة الشرقية، وأدّت إلى نهاية العلاقات بين الشرق والغرب. وقد استقلّت كنيسة بلغاريا وطرابزون والصرب عن بيزنطيا من جرّاء ذلك.

        إذا كانت الحملة الصليبية الرابعة ضربةً عنيفةً "ومصيريّةً" لبيزنطيا، بحيث لم تصحَ منها هذه الأخيرة، وفقدت بنيتها وأهميّتها الدولية إلى الأبد، إلاّ أنّ هذه الحملة أيضاً كانت كارثةً بالنسبة إلى الحركة الصليبية ومستقبلها، حيث كشفت دفعةً واحدةً عن هويتها المادّية "والإستعمارية" التي حاولت أن تخفِيَها قرناً ونيّفاً من الزمن... فقد كشفت عندهم أنّ الثّروات المادية أهمّ من الثروات الروحية...

       في القرنين الرابع عشر وبداية الخامس عشر، كانت العلاقات على حدٍّ كبيرٍ من العداء: على الساحة المشرقية، فقد انسحب الصليبيون من كلّ المناطق الساحلية سنة 1291، ولم يحافظوا إلاّ على جزيرة قبرص تجاه المدّ المملوكي. وكان على بيزنطيا من جهتها، محاربة المدّ التركي العثماني لآسيا الصغرى، حيث اضطرّ الأمبراطور إلى طلب المساعدة مرّةً جديدةً من الغرب، وقد وضع البابا شرطاً بالوحدة مقابل المساعدة. هذه الوحدة تمّ الموافقة عليها في مجمع فلورنسا سنة 1439، لكنّ السّلطة في بيزنطيا رفضت هذا المجمع وحرمته...

       وتسارعت الأحداث، وجاء سقوط القسطنطينية بيد السلطان العثماني محمد الثاني الفاتح، وقتل قسطنطين الحادي عشر سنة 1453، ليضع حدّاً للأمبراطورية البيزنطية بعد أحد عشر قرناً من تاسيسها. وأصبحت القسطنطينية عاصمة بني عثمان، تحت إسم إسطمبول، ممّا كان له أعمق الأثر على تاريخ المناطق المشرقية التي احتلها العثمانيون لأربعة قرون، وعلى الغرب وأوروبا فيما نتج من نهضةٍ خلال القرن الخامس عشر وما تبعه....

 إنّ العوامل الحقيقيّة التي فصلت الشّرق عن الغرب، تعود كلّها إلى أمرٍ واحدٍ: وهو أنّ الشّرق كان يفهم الحياة الكنسية بمعنى مختلفٍ عن الغرب وبأسلوبٍ آخر. كانت نظرة الشرقيّين إلى البابا والأمبراطور تختلف عن نظرة الغربيين لهم...

لقد ارتبطت الكنيسة الغربية بالبابا كما ارتبطت الكنيسة الشرقية بالأمبراطور.

 "يمكن أن يكون لنا مواقف متغايرة، لكنّنا في العمق ننتمي إلى كنيسة الله الواحدة، واحدة-متعدِّدة.

أمّا كيف نفهم الوحدة في التّعدّدية:

فلنا رسالةٌ واحدةٌ وشهادةٌ واحدةٌ تنغرس في صميم المجتمع الإنساني وتعطي للشّهادة فعاليتها العملية.

الوحدة ليست هدفاً، إنّها وسيلةٌ والهدف هو الشّهادة.

نحن معنيّون بالحفاظ على حقيقة الإيمان ومصداقيّته.

وما المؤسّسات الكنسيّة إلاّ وجه الكنيسة الظاهر في قسمٍ من أقسام المجتمع"[1].

  الدكتور أندريه كحاله

منشورات هيئة الثقافة السريانية

يتبع

 *           *           *           *           *


[1]  البطريرك آرام الأول كيشيشيان، مجلة الرعية، آذار 1997.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها