عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
   د. أندريه كحّالة

د. أندريه كحّالة

بيروت – لبنان


 بلاد المشرق ومرحلة الحروب الصليبية

 في هذه الحلقة سنستعرض ظاهرة مهمة جداً غيّرت وجه التاريخ، وهي ظاهرة الصليبيين أو الحملات الصليبية.

       في الواقع، شهدت نهاية القرن الحادي عشر م. حركةً إنسانيةً عظيمةً بين الغرب والشرق أثّرت على تطوُر العالم القديم وطبعته بوجهها، فصار لها وقعٌ في كل مدينة وقرية من بلاد ما بين النهرين والصحاري العربية والسورية حتى أقاصي شمال أوروبا المسيحية، فالحضارات التي تلاقت والجيوش التي التحمت ببعضها على أرض فلسطين المقدسة، أتت من كل ناحيةٍ وصوبٍ فالتقى الأسمر بالأشقر والعربي بالأوروبي والمسلم بالأثيني والبيزنطي والأفريقي الشمالي وصارت فلسطين نوعاً من برج بابل جديد إلتقى على أرضها مجموعاتٌ بشريةٌ أتت من كل أنحاء المعمورة. هذه الحركة هي الحملات الصليبية.

       رأينا سابقاً أن الحملة الصليبية – المشرقية الأولى توقفت مع حملة البيزنطيين في القرن العاشر ولكن تسمية الحملات الصليبية لم تطلق إلاّ على الحملات التي أتت من أوروبا في نهاية القرن الحادي عشر.

       إختلف المؤرخون على أسباب الحملات الصليبية الأوروبية مثلما اختلفوا أصلاً على اسباب "الفتح العربي". مثلاً، هناك فريقٌ يؤكد أن الأسباب هي إقتصادية، لهذا اندفعت أوروبا نحو الشرق. في الواقع، كان هذا سبباً أساسياً ولكن ليس وحيداً. وشدّد فريقٌ آخر على الخلفيات السياسية التي فرضت تدخّل أوروبا في شؤون الشرق.

كذلك في نظرنا بالاتفاق مع عددٍ كبيرٍ من المحللين، إن الأسباب الأساسية والمحركة هي أبسط وأوضح بكثير من الأسباب المعطاة. فالمسيحية في أوروبا استفاقت على ثلاث مسائل أساسية:

أولاً: عدم تمكن رعاياها من الوصول إلى فلسطين والأراضي المقدسة، فقد كانت العبادة والأمور الدينية في تلك المرحلة، حجرٌ أساسي للحياة العامة لا بل للحياة اليومية لمسيحيّي أوروبا والعالم المتديّن عموماً.

ثانياً:       حدث تنكيلٌ بالمسيحيي المشرقيين وتهديمٌ للكنائس والمعابد. ومما لا شك فيه أن روح التضامن المسيحي كانت موجودةً، من هنا، العامل العاطفي والشعور الإنساني كانا يوازيان العامل المادي أو الاقتصادي في تلك المرحلة، وبالتالي الحملات الصليبية كلّفت أوروبا أكثر بكثير مما يتصوّر أنصار النظرية الاقتصادية، فالبعث الاقتصادي لأوروبا لم يأتِ نتيجة الحملات الصليبية، بل نتيجة انتقال العلوم من اليونان عبر إيطاليا إلى أوروبا والجدير بالذكر أن أوروبا لم تحافظ على أي مكسب من الشرق، بل خسرت كل ما كان تحت سيطرتها مثلما سنرى فيما بعد.

ثالثاً:        الخطر العربي-الإسلامي الذي كان يهدد أوروبا، فالعرب كانوا على أبواب القسطنطينية وفي شمالي أفريقيا ويهددون إيطاليا الجنوبية وكان العرب في كل أنحاء البحر الأبيض المتوسط يسيطرون على خطوط الاتصالات والمواصلات الحيوية، كما كانوا في إسبانيا يهددون قلب أوروبا، من هنا هذه الكماشة العربية كانت تهدد بالقضاء على أوروبا المسيحية، خصوصاً وأن الجناح الشرقي أي المنطقة المشرقية التي نعيش فيها، كان قد سقط مرتين، مرةً مع الغزو العربي عندما كرّس العرب دخولهم إلى المنطقة، ومرةً ثانية مع فشل البيزنطيين في استرجاع الشرق كله، فكرّس العرب ما استولوا عليه سابقاً من مناطق وأراضٍ...

       في هذا الجو، ومع نداءات ملوك بيزنطيةالمتكررة واستغاثات مسيحيي الشرق الذين أوفدوا إلى أوروبا رسل للتبليغ عن المجازر والتنكيل الذي حصل، تحرّك الغرب تحت إشراف الباباوات اللاتين وجمع قدراته لينجد إخوانه في الشرق من جهة، وليكسر الطوق الذي كان يحكم من حوله من جهة أخرى.

       لا شك أن المعطيات الجغراية والاقتصادية والاجتماعية لعبت دوراً أساسياً في هذه الحملات ما في في أية حملة عسكرية وسياسية في المطلق، وهي عناصر موجودة في أية حرب فلا دولة ولا مجموعة بشرية تقوم بحملة لأسباب محض سياسية-عقائدية إذا لم يكن هنالك شروط إقتصادية وسياسية ملائمة، ولكن لا يمكن أن نحلل أي تحرك جماعي لشعبٍ ما في العالم دون تحليل هذا المعطيات بالذات.

       من هنا يمكن التمييز دائماً في عنوان التحرك، فإذا كان التحرك يستهدف تحرير الأراضي المقدسة المسيحية فالتحرك هو لذلك، وإذا كان التحرك يستهدف فتح مناطق لأجل الإسلام فالتحرك هو لذلك. أما المعطيات الاقتصادية والسوسيولوجية التي فرضت أو ساعدت في إقامة هذه التحركات فهي البيئة التي هيأت لهذه التحركات إنما ليست السبب المباشر لها.

       من هنا لنتوقف على التطور "Processus" الذي سمح وأعلن وأنشأ الحملات الصليبية، ففي العام 936 أحرقت كنيسة القيامة ونهبت في القدس، في العام 1009، دمرت آلاف الكنائس وحطم القبر المقدس في فلسطين، في العام 1076 منع المسيحيون من رفع أصواتهم للصلاة ومن ثم منع الزائرون من دخول القدس. وفي العام 1074 هوجم جميع الحجاج بكثرة وثم على طريق فلسطين...

       من هنا، بعد هذه السلسلة الطويلة من الاعتداءات التي تذكرنا، إذا أمكن تشبيهها بالاعتداءات على مسيحيي لبنان وعلى الأوروبيين والغربيين في المرحلة المعاصرة الأخيرة من احتجاز للرهائن وهجوم على الوجود الأوروبي والمسيحي بشكل عام وهي مرحلة مشابهة جداً لمرحلة ما قبل الحملات الصليبية. بعد هذه السلسلة من الاعتداءات، وعلى أثر نداءات بطاركة الشرق وملك بيزنطية والكهنة ورجال الإكليروس الذي عادوا من فلسطين، عقد البابا أوربانوس الثاني Urbain II مجمعاً في Clermont Ferrand في فرنسا في 26 تشرين الثاني سنة 1095 حضره الشعب والأمراء والملوك والمسؤولون الروحيون... وألقى البابا خطاباً تاريخياً فيهم ودعاهم إلى قيام حملة مقدسة بهدف تحرير فلسطين من حكم المغتصبين الفاطميين (والمماليك فيما بعد)، وعلى أثر هذا المجمع، انتظم أنصار الحملة الصليبية في كل أوروبا وتنادى الأمراء والملوك وتباحثوا في كيفية تنظيم الحملة والخطة التي يجب اعتمادها.

       تعددت الحملات الصليبية وتتالت واختلفت كثيراً فيما بينها، فالحملة الأولى كانت حملة فتيان بقيادة أحد الرهبان النساك، وسقطت طبعاً وضربت وهي في طريقها. فقد كانت تسمى بالحملة الشعبية، فهي تجمع لجماهير فتية متحمسة، غادرت قراها ومدنها عفوياً دون تنظيم بقيادة راهب اسمه "بطرس الناسك". ولكن مثلما قلنا دمرت هذه الحملة في طريقها ما بين الأناضول وسوريا قبل أن تصل إلى فلسطين، ويقال أنه قتل حوالي 30.000 شخصاً. أما الحملة الأولى الرسمية المنظمة، فانطلقت في العام 1096 من أوروبا بقيادة أوروبية وتمركزوا في القسطنطينية في العام نفسه.

       ومن عاصمة بيزنطية زحفت الجيوش الصليبية إلى الشرق فقطعت جبال تركيا ودخلت سوريا شمالاً من منطقة أنطاكيا. حاصر الصليبيون المدينة تقريباً في العام 1097. وسقطت بعد سنة أي في لعام 1098. ومن أنطاكيا بدأ تقدم الجيش الصليبي جنوباً نحو سهول سوريا ولبنان، فسقطت مدينة الرها، ومن ثم أخذت الجيوش الصليبية تتقدم أكثر فأكثر وركزت أول إمارة للصليبيين عرفت بإمارة الرها في شمالي سوريا.

       إن أول منطقة لبنانية سقطت في أيدي الصليبيين كانت "عرقة" في عكار عام 1099 حيث اتصل الصليبيون بالمسيحيين عامةً وبالموارنة خاصةً.

       أحد المؤرخين "جال دوفيتري" قال أن التحالف بين المردة الجراجمة والصليبيين تحوّل إلى التحام ما بين الفريقين فامتزجوا فيما بينهم ويقول "حتى أن المردة الجراجمة شكلوا الفيالق الأولى في التحرك الصليبي... ويقول بعض المؤرخين أن القوى التي دخلت وحررت القدس لم تكن من الصليبيين الأوروبيين بل كانت من "الصليبيين" المشرقيين الذي يعرفون هذه الأرض وكانوا ينتظرون منذ مئات السنين الفرصة المناسبة لإعادة تحريرها".

       من هنا، من هذا الوضع بالذات، زحفت الجيوش الصليبية تعاونها القوات المشرقية المحلية لتسيطر مرحلة وراء مرحلة على مدن الجليل الأعلى في فلسطين، ودخلوا القدس في 14 تموز 1099 ومن ثم ارتدوا إلى عسقلان وغزة وكل المناطق الواقعة ما بين الرها على حدود الأناضول الشمالية وحتى صحراء النقب جنوباً وأصبحت كل هذه المناطق تحت السيطرة الصليبية.

       ولكن الهجوم المعاكس العربي لم يتأخر كثيراً، إذ بدأت القوات العربية بخوض معارك ضارية مع الصليبيين في عدة مواقع من فلسطين وسوريا "لاسترجاع أرضها العربية" غير أنه جرت حملات صليبية متتابعة، هذه الحملات ركزت وجود أربعة أو خمسة إمارات ما بين تركيا وصحراء النقب في فلسطين، هذه الإمارات كان لها جيوشها الذاتية، وقواتها الذاتية، طبعاً كانت تساعد بأفواج بشرية تأتي من أوروبا، ولكن الجيوش العربية استمرت في حربها ضد المماليك والإمارات الصليبية واستمرت الحرب مع الصليبيين منذ العام 1099، تاريخ تأسيس مملكة القدس حتى العام 1291 تاريخ انسحاب وسقوط آخر إمارة صليبية في الشرق مع سقوط عكا.

كيف حكم الصليبيون؟

       وزّع ملوك وأمراء أوروبا على بعضهم المناطق المحرّرة وحصنوها وبنوا القلاع الشهيرة التي ما تزال حتى اليوم، وجزؤوها إلى أجزاء على النحو التالي:

-       مملكة القدس ما بين 1099 و 1187

-       كونتية طرابلس ما بين 1102 و 1289

-       إمارة أنطاكية ما بين 1098 و 1268

-       كونتية الرها شمالي سوريا ما بين 1098 و 1146

-       مملكة قبرص ما بين 1198 و 1489 (تابعة للصليبيين)

-       مملكة أرمينية الصغرى ما بين 1081 و 1375

حكم الصليبيون هذه الإمارات والممالك وفق نظم جديدة اقتبسوها من الغرب وأعطوها طابعاً شرقياً. من هنا، وجد في هذا العالم القديم نظام يرتكزعلى مزيج من عقليتين وبيئتين غربية وشرقية، وحّدتهما الحضارة المسيحية على أراضي فسلطين وسوريا ولبنان المحررة.

       أمّا بالنسبة للبنان، فقد تعاون سكانه الأصليين من خلال سلطاتهم الزمنية والدينية، مع الصليبيين وحكموا معهم المناطق المسترجعة كالمدن والسواحل والسهول واختلطوا مع الصليبيين وتزاوجوا وتقاربوا وتفاعلوا في جميع ميادين الحياة كالثقافة والتجارة والاقتصاد... من هنا أتت الفرصة للمسيحيين المشرقيين أن يجدّدوا الاتصال الروحي والحضاري مع إخوانهم الغربيين بعد أن طال الانقطاع أربعة قرون من جراء الحصار العربي الذي فُرِض على سكان الجبال اللبنانية. من هنا حدث الاتصال والتضامن ما بين المسيحيين المشرقيين وما بين الصليبيين، فالالتقاء بالصليبيين كان آخر لقاء لهم بشعب مستقل سيد (المردة الجراجمة) حتى القرن العشرين، أي منذ الحملة الصليبية وحتى دخول الحلفاء العام 1919. إذاً كان هناك انقطاع تام بين مجتمعنا المسيحي في لبنان وبين الجناح الغربي في الحضارة المسيحية، في الواقع بعد انسحاب الأوروبيين الصليبيين، خسر المشرقيون بشكل عام والمردة الجراجمة بشكلٍ خاص استقلالهم وتعرّضوا لأشد أنواع التنكيل والتعذيب. ويمكننا القول من موقع التاريخ، أن الحياة أيام الصليبيين كانت نوعٌ من ثغرة تمكن المسيحيون المشرقيون من خلالها أن يعيشوا فترة هدوء، فترة إعادة التقاط الأنفاس، وهذه الحالة لم يكن ليشعروا بها أيام الغزوالعربي منذ القرن السابع وحتى القرن الحادي عشر.

       إبان الحملات الصليبية، تجزأ لبنان إلى جزئين: شمالي بما فيه موطن المردة الجراجمة حتى نهر ابراهيم، تابع لكونتية طرابلس، وجنوبي تابع لمملكة القدس.

       في الوقت الذي تحالف المردة الجراجة مع الصليبيين وتفاعلوا معهم حضارياً، قاتلت القبائل والعشائر العربية المستوطنة حديثاً لبنان الصليبيين وتحالفوا طبيعياً مع الحكم العربي في الشام ومصر.

       ففي الوقت الذي تآخى المردة الجراجمة مع الصليبيين واعتبروا أنهم ينتميان لحضارة واحدة وأن الصليبيين أتوا أصلاً ليساعدوهم على استرجاع الشرق والحفاظ عليه، إرتبط عرب لبنان والقبائل بالحكم العربي وتعاونوا معه ليطردوا "العدو الصليبي الغربي الدخيل، وليؤدبوا المشرقيين لتعاملهم مع العدو ولمشاركتهم إياه في احتلال أراضٍ عربية..."

       من هذا المنطلق، يتوضح لنا أن كل فريق على أرض لبنان يتمسك بحقه الطبيعي، بهويته من دون الإعتراف بهوية الفريق الآخر، واستمرت "حرب الطرشان" بين حقيقتين شرعيتين لا تعترف الواحدة بالأخرى. من هنا يمكننا فهم نظريتنا كمقاومة مسيحية لبنانية إلى الصليبيين ونظرة الإستيطانيين العرب والعروبيين.

       ومن هنا نفهم أنه يوجد منطقين للتاريخ ومن فهمنا لهذين المنطقين ومن تفهم كل فريق لآخر، نستطيع يوماً ما ان نتفاهم على نظرة توافقية للتاريخ ترتكز على اعتراف متبادل بين المجموعتين.

       في الحلقة المقبلة، سنعرض لعوامل انهيار الحملات الصليبية والمقاومة المشرقية الداخلية.

الدكتور أندريه كحاله

منشورات هيئة الثقافة السريانية

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها