عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
   د. أندريه كحّالة

د. أندريه كحّالة

بيروت – لبنان


الكيان المسيحي الحر -2-

دولة المردة الجراجمة الثانية:

        كانت دولة المردة الجراجمة الثانية، كياناً مستقلاً من العام 685 إلى العام 758. فقد كانت حدود تلك الدولة الحرة، هي نفسها حدود جبال لبنان الطبيعية، فمن الشمال منطقة القبيات في عكار، امتداداً عبر السلسلة الغربية لجبال لبنان وسفوحها الشرقية، حتى مرجعيون وجزين في الجنوب.

       هذه الدولة الفتية تعلّمت أن تستقل بقرارها السياسي والعسكري وألاّ تربطه بقرار بيزنطية، بعد التجارب المريرة معها. فهذه الأخيرة تخلّت عن حلفائها الطبيعيين، بل أبنائها في الحضارة المسيحية الواحدة وغدرت بهم لكي تحقق مصالحها السياسية وأطماعها المادية الآنية، غير عابئةٍ بمصير الشعب المسيحي اللبناني والمشرقي ولا بحريته واستقلاله. كما تعلمت هذه الدولة أيضاً، ضرورة بناء قوتها وصمودها من خلال قدراتها الذاتية فقط من سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وتنظيمية...

       ومن هنا، كان القرار بالمقاومة والاستمرار بمفردها، على الرغم من كل الاتفاقات المعقودة بين الدولة البيزنطية والخلافة الأموية.

         وبذلك، مرّت الأمة اللبنانية بالمرحلة الذهبية للمقاومة المسيحية اللبنانية، وهي تجربة تاريخية ينبغي أن نتّعظ منها ونحذو حذوها في مقاومتنا المعاصرة ضمن دروس في المقاومة السياسية، أي عدم ربط المصلحة العليا لمجتمعنا بقراراتٍ سياسيةٍ تتّخذ من الخارج وهي غالباً ما تكون معارضةً لمصالحنا. أيضاً عدم التهافت على السلطة بشرذمة الصف. إلى المقاومة العسكرية أي الاعتماد على قوتنا الذاتية بتجنيد كل القادرين على حمل السلاح مع تحويل كل المجتمع إلى احتياط في وقت السلم ومقاوم ومقاتل في وقت الحرب. إلى الأهم وهو المقاومة الاقتصادية-الاجتماعية، توجيه الاقتصاد القومي ليصبح عنصراً أساسياً في الصمود والمقاومة من خلال استغلال كل الطاقات الإنتاجية الطبيعية والبشرية وترشيد الاستهلاك، وهنا نقف امام تجربة أجدادنا الجبارة باستصلاح الجبال والوديان الوعرة وتحويلها إلى جلالي صالحة للزراعة، كذلك باستخدام المصادر الطبيعية من مياه وغابات وصخور وثروات معدنية وحيوانية... وقبل كل ذلك، التحول إلى مجتمع مقاوم كلياً بالتضحية الجماعية، وبتحمل شظف العيش والحرمان، وبالصبر والإيمان بالهدف والقضية.

       ولا بد هنا من التركيز على عامل القوة العسكرية لدولة المردة-الجراجمة التي من دونها لما استطاعت أصلاً أن تنشئ دولتها المستقلة وتحافظ في النهاية على بقعة حرة من الأراضي المشرقية المغتصبة من قبل الغزاة العرب-الإسلام، منذ الغزو العربي في العام 636... وحتى يومنا هذا.

       فمنذ ذلك التاريخ، تمّ إنشاء قوة عسكرية ذاتية سريعة التحرك، فعّالة تستنفر وتعبأ سريعاً، قادرة على ردّ العدوان وتوجيه ضربة خاطفة وقوية إلى المعتدي بحيث تشلّ قواه بسرعة فائقة. والقوة العسكرية هذه التي اعتمدها المجتمع المسيحي في لبنان، وتحديداً المردة-الجراجمة كاستراتيجية دفاع ومقاومة، اعتمدها ولا تزال جميع الأقليات المحاطة بعدو دائم التربص، عديده كثير وعمقه الإستراتيجي كبير... ولا شك أن مبدأ إنشاء القوة العسكرية-المجتمعية الذاتية قد أصبح من مقدّسات المسيحيين والأقليّات الأخرى.

       وقد أثبت التاريخان الحديث والمعاصر صحة هذه الاستراتيجية ووجوب وجودها. كما أن الحياة الجماعية المنظمة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً... للأقليّات القومية المشرقية، ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بوجود تلك القوة الاستراتيجية وبدرجة تنظيمها وتفعيلها في خدمة القرار السياسي المستقل وبناء العلاقات الخارجية.

       إذاً، شهد الكيان الحرّ لدولة المردة الجراجمة استقلالاً وسيادة تامّين في تلك الحقبة، نظراً للمعطيات التي تمّ شرحها آنفاً، والمتمثلة بالمعاهدت واتفاقات الهدنة الثنائية مع الجانب العربي-الإسلامي، وببناء القدرة الذاتية العسكرية-المجتمعية وتنظيمها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المعاهدات بين المسيحيين في لبنان والخلافة الأموية-الإسلامية قد كرّست السيادة للطرف الأول ومساواته بالدولة أو الأمبراطورية العربية-الإسلامية، بعكس المسيحيين الذين غالباً ما استكانوا في مدنهم الواقعة تحت الإحتلال العربي، كمسيحيي الشام وبلاد ما بين النهرين (العراق) وبلاد الأقباط (مصر).

       ويؤكد المؤرخون أن لتلك المواثيق والمعاهدات التي عقدت في القرنين السابع والثامن، قيمة قانونية كبيرة حتى قدوم العثمانيين وتجديدها. والمعاهدات المسيحية اللبنانية-العربية هي المرتكز الذي أقيمت عليه صيغة التعايش في الشرق وعدم ذوبان المسيحيين أو تذويبهم بشكل حاسم ونهائي، خصوصاً مع وجود بقع قوية وحرّة في هذه المنطقة. 

       لا بد هنا من الإشارة إلى انقلاب التحالف البيزنطي على أيام "يوستنيانس الثاني الأفرم" حوالي سنة 685، الذي تفاهم على هدنة جديدة مع الخليفة الأموي الخامس "عبد الملك بن مروان"، مما جاء بنتيجة كارثية على المقاومة المسيحية في جبل لبنان، إذ أمر الأمبراطور الفارسي فرقة العسكرية المعروفة "بجيش المردة البيزنطية" من جبل لبنان، بحيث أصبحت المقاومة اللبنانية تتّكل على قواها الذاتية بعد سقوط ما عرف "بالسد النحاسي" كما سمّاه المؤرخ تيوفانوس... ومن هنا تسمية المردة بعد تمرّدهم وعصيانهم أوامر الأمبراطور... فيكون البيزنطيون قد وجّهوا الضربة الثانية والقاضية لتواجد المسيحية في الشرق، بعد أن انسحب الروم من المنطقة أول مرّةٍ بعد معركة اليرموك...

       إذاً، مرّت دولة المردة الجراجمة الثانية بين العامين 685 و758، بمرحلة ذهبية من الاستقلال والسيادة الناجزين للأمة اللبنانية. ولكن في نهاية هذه المرحلة، جرى تبدّل وعدم استقرار في اتساع رقعة الحدود والاستقلال، فقد أخذت الحدود الجغرافية للوطن اللبناني المسيحي الحر في الانكماش، كذلك الحدود السياسية، من دون أن يعني ذلك التأثير على انتشار المسيحيين اللبنانيين والمشرقيين خارج حدود الاستقلال السياسي والجغرافي. فأصبحت الرقعة الحرة جغرافياً تمتد بين بلاد الشوف جنوباً وعكار شمالاً. فمع تسلّم العباسيين زمام الحكم بقوة وزخم كبيرين، بعد الإطاحة بالدولة الأموية، وبنائهم لدولة عظمى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً آنذاك، لم يتردد هؤلاء في خرق الاتفاقيات والمعاهدات المبرمة بين الأمويين وبين المسيحيين في لبنان والشرق. وقد فتح العباسيون باعتلائهم الخلافة، عهداً من العدوان المستمر على قاعدة المقاومة المسيحية المشرقية، وهي جبل لبنان أو الأمة المسيحية اللبنانية في هذا الجبل. وقد ساعد العباسيون في تحقيق ذلك، كون الرقعة الجغرافية-البشرية للأمة اللبنانية قابلة للانكماش في هضاب الجنوب والسهول الساحلية، إضافةً إلى ضعف الحليف الاستراتيجي المفترض وهو الدولة البيزنطية وفساد الحكم والحكام فيها.

       بدأت الاجواء المعادية للمسيحيين مع وصول العبَاسيّين إلى السلطة  سنة 750 م ، بحيث أقدم هؤلاء على قتل أعدادٍ كثيرةٍ منهم بالإضافة إلى فرض الضرائب والتضييق عليهم في شتَّى الميادين.

       أدَى هذا الأمر عملياً إلى إندلاع ثوراتٍ في أرجاءٍ مختلفةٍ من الدولة العباسيّة ولعلّ أهمها كانت ثورة المنيطرة، بعد أن نجح الأسطول البيزنطي في السيطرة على طرابلس واللاّذقية فتشّجع أهالي جبّة المنيطرة على المبادرة بالهجوم ،كما يقول المؤرخ البيزنطي "تيوفانوس": "قام في لبنان سنة 760م. قائدٌ سريانيٌ يدعى "تيودور" بثورةٍ على العرب في القرى المتاخمة لبعلبك... ولكنه خسر أخيراً وكلّ الذين كانوا معه قُتِلوا..."

       أمّا المؤرخ المسلم "إبن عساكر" فيسمّيه "بندار" ويقول: "فرفعوا راية الصليب وأخذوا بالإغارة على البقاع فهزمهم الجيش العبّاسي ثّم لحقهم إلى المنيطرة ،عندها أصدر الوالي العبّاسي أمراً بتهجير الأهالي وتشتيتهم في البلاد..."

       أما ثورة بسكنتا ، فنجد أثرها في زجليات "إبن القلآعي" (من القرن الخامس عشر) التي تروي قصّة مقدّمٍ مارونيٍّ على بسكنتا يدعى "إلياس" ويقوم بالإغارة على بلدات المسلمين في البقاع، إلى أن يقع هو ورجاله في كمينٍ في البلدة التي تُعرَف اليوم ببلدة "قب إلياس" حيث يرقد رفاته...

       من نتائج ثورتي المنيطرة وبسكنتا تهجير أهالي المنطقة المسيحييّن والإستيلاء على أرزاقهم ، وإبعادهم عن المناطق المشرفة على طرق المواصلات الجبليّة التي تربط الساحل بالداخل ومنها ممرّ "أفقا" في جبّة المنيطرة.

       أيضاً من النتائج الأساسيّة على المدى الطويل إقدام السلطة العبّاسية على تشجيع القبائل السنّية على الإستيطان داخل جبل لبنان وخاصّةً في الجزء الجنوبي عند التلال المطلّة على بيروت والساحل...

       أما الخطر التاريخي الأكبر والأدهى، الذي أصاب الجسم المسيحي-اللبناني خصوصاً والمشرقي عموماً بسرطان مزمن، فبدأ منذ العام 758 وما يزال مستمراً في مضاعفاته وامتداداته حتى يومنا هذا، ويمكننا تشبيهه بكرة الثلج التي تكبر وتكبر حتى تصل إلى مرحلة الدمار الكلي والشامل، هذا الخطر كمن ويكمن في عملية تغيير هوية الأرض والشعب المشرقيين وتحويلهما ترهيباً وترغيباً، قضماً وهضماً، إلى الهوية العربية-الإسلامية.

       فمنذ العام 758، إستقدم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور قبائل عديدة من شبه الجزيرة العربية وأسكنها المناطق المتاخمة مباشرةً للحدود الدفاعية المسيحية في لبنان، كي لا يعود بمقدور أصحاب الأرض الأصليين الرجوع إليها مرةً أخرى. ومن هنا بدأت حركة الإستيطان العربي-الإسلامي تأخذ مجراها التاريخي الأخطر في الشرق بالنسبة لمسيحيي لبنان. فالمشكلة اللبنانية لم تبدأ إلاّ منذ استوطنت قبائل عربية إسلامية أراضٍ في جبل لبنان وسهوله الساحلية إبتداءً من العام 758. المشكلة كانت قبل هذا التاريخ، عربية-لبنانية، بمعنى أنها كانت بين دولتين قوميتين لكل واحدةٍ منهما أرض معينة وحدود معروفة، وقبل كل ذلك اعتراف قانوني متبادل من خلال المعاهدات المعقودة بين الطرفين. 

 أمّا بعد وضع الخطة الجهنمية الحاسمة، وهي مواجهة شعب بشعب بدلاً من شعب بجيش، استطاع الحكم العباسي اختراق "السد النحاسي" الذي بناه المردة حَول وطنهم، على حد قول المؤرخين. فمقاتلو القبائل العربية التي استقدمت إلى لبنان، كانوا أشد بسالةً واستشراساً من الجنود العرب، لأنهم كانوا كما يعتقدون، "يحررون" أراضٍ طبيعية لهم ولأمتهم حسب تعاليم الإسلام، عدا عن كونها أراضٍ خصبة غنية، مناخها أفضل وطبيعتها أسهل وأجمل من صحرائهم القاحلة وبذلك يربحون جنتين، جنة على الأرض (لبنان الأخضر)، وجنة في السماء لجهادهم واستشهادهم في سبيل دين أفضل أمة، ضد العملاء الأجانب "الكافرين"...

 هذا التحول البالغ الخطورة في الاستراتيجية العربية-الإسلامية المتبعة مع الدولة المستقلة في جبل لبنان، يرشدنا إلى تطور النية العربية حسب تطور المراحل وميازين القوى التي تمرّ بها الأمة العربية-الإسلامية. تلك الاستراتيجية تتلخص في الآتي:

-       المرحلة الأولى، تعريب الأرض وما عليها بالاستيطان العربي المباشر.

-       المرحلة الثانية، تعريب هوية النظام وأسلمة مؤسساته.

-       المرحلة الثالثة، تعريب الشعب الخاضع للاحتلال، بأسلمته أو بإخضاعه لنظام أهل الذمة الدوني، أو بتهجيره من الأرض نهائياً.

وفيما بعد، سندرس ونحلل مرحلة المواجهة المصيرية وثبات المقاومة المسيحية-اللبنانية في معاقلها الجبلية أمام الهجمة الاستيطانية العربية. تلك المرحلة نطلق عليها دولة المردة الثالثة، التي امتدت من العام 758 إلى العام 1305.

 636        :           معركة اليرموك تجاه الجيوش البيزنطية

661        :           إنشاء الحكم الأموي

676        :           بداية الدولة المستقلة الأولى للمردة الجراجمة

685        :           نهاية مرحلة دولة المردة الجراجمة الأولى مع مجزرة قب الياس

691        :           إصلاحات الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان

750        :           إنشاء الحكم العباسي

758         :إستيطان القبائل العربية من قبل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، ونهاية مرحلة دولة المردة الجراجمة الثانية.

الدكتور أندريه كحاله

منشورات هيئة الثقافة السريانية

يتبع

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها