عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
   د. أندريه كحّالة

د. أندريه كحّالة

بيروت – لبنان


الكيان المسيحي الحر -3-

  دولة المردة الجراجمة الثالثة:

       إنها الكيان الذي استمر ما بين العام 758 والعام 1305، وهي الأطول زمناً بين كل الكيانات التي بناها الجراجمة منذ بداية القرن السابع أي منذ العام 676. الكيان الثالث أي دولة المردة الجراجمة الثالثة، كان الكيان الذي استمر أطول مدة من الزمن والذي تمكن من تحقيق مرحلة إستقلالية شاملة وكاملة على كل الأصعدة البشرية والعسكرية والعلاقات الخارجية والاستراتيجية...

        مثلما رأينا سابقاً، إن دولة المردة الجراجمة الثانية التي امتدت ما بين منطقة جزين وجبال عكار في الشمال، هذه الدولة تصدّعت الأجزاء الجنوبية من حدودها مع بدء الحركة الاستيطانية العربية في العام 758، والتي كانت السبب في انتقال العصر الذهبي لدولة المردة الجراجمة الثانية إلى دولة المردة الجراجمة الثالثة في مرحلة جديدة ومغايرة.

       إذاً، شهد العام 758 حركة إستيطانية عربية أتت خلالها مجموعات بشرية كبيرة من العشائر والقبائل العربية من مختلف أنحاء الخلافة العباسية، نحو الجبال اللبنانية، نحو الوطن الحر الذي كان قائماً في جبل لبنان. هذه القبائل والعشائر أتت إلى الجبال اللبنانية بأمر وبإيعاز من الخلافة العباسية وهذا الأمر كان يتلخص بما يلي:

       جمعت هذه العشائر من مختلف الأنحاء وطلب منها الإتجاه إلى الجبال اللبنانية للتوطن هنالك ولمحاربة ما أسماه الخلفاء العباسيون "عملاء البيزنطيين من الروم المحتلين لهذه الجبال..." وقد كانوا في الواقع، الشعب المسيحي الموجود في لبنان والمتجذر في هذه المنطقة منذ ما قبل الغزو العربي الذي بدأ في العام 636 لهذه المنطقة المشرقية.

        إذاً، حتى يمكننا فهم مسيرة المقاومة المسيحية اللبنانية إبان مرحلة دولة المردة الجراجمة الثالثة، يجب علينا استعراض مقوّمات هذه الدولة وحدودها ومقوماتها الاستراتيجية.

 وضع المقاومة على الصعيد البشري والاستيطاني:

       مثلما قلنا، قبل العام 758، كانت هذه الدولة على الصعيد البشري، تمتد من منطقة جزين جنوباً حتى منطقة عكار شمالاً، (وهو ما يتطابق فيما بعد بحدود منطقة المتصرفية في جبل لبنان في القرن التاسع عشر)، ولكن مع الاستيطان العربي الذي جاء في العام 758، أخذت الحدود اللبنانية للتواجد المسيحي تنكمش أكثر فأكثر من الجنوب نحو الحدود التي اسمها اليوم طريق الشام. وتدريجياً، بدأ الاستيطان العربي يأخذ محل الوجود المسيحي اللبناني.

        إذا دخلنا في التفاصيل، نرى أنه في العام 759، أي بعد عامٍ واحدٍ من بدء عملية الاستيطان العربي في لبنان، تقدم الأمير منذر من منطقة "المغيثة" في بلاد المعرّى جنوب العراق شمال الجزيرة، وأخوه الأمير أرسلان وتنقلا في البلاد التي كانت متاخمة للحدود الاستقلالية اللبنانية المنكمشة وبدأا يوزعان عشائرهما في عدة مناطق. وإذا عدنا مثلاً، إلى "تاريخ الأعيان في جبل لبنان" للشيح طنوس الشدياق، نرى أنه في أحد المقاطع يقول: ".... فاستوطن الأمير منذر بن مالك في حصن صلحمور وأخوه الأمير أرسلان في سن الفيل والأمير حسان بن خالد بن مالك في طردلة والأمير عبد الله بن نعمان في كفرا قرب المنصورية والأمير فوارس بن عبد الملك بن مالك في عبيه وتفرّق الباقون في سائر أنحاء البلاد وأخذوا يغزون المردة ويحافظون على أبناء السبيل".

        من هنا، من هذا المقطع بالذات، وبالتأكيد من فقرات أخرى وجدناها في التاريخ، يمكن القول أن تاريخ العروبة الإسلامية على الأراضي اللبنانية بدأ استيطانها منذ العام 758 وليس منذ بداية الغزو العربي، لأنه، صحيح منذ الغزو العربي كانت هناك جيوش نظامية أرسلتها الخلافة الأموية ومن ثم الخلافة العباسية لمحاربة ومواجهة الوجود المسيحي اللبناني المتمثل بجيش المردة الجراجمة، ولكن هذه الجيوش كانت نظامية تأتي للقتال ضد الكيان الحر الموجود في جبال لبنان ومن ثم تنسحب إلى الداخل السوري أو العراقي أو إلى الجزيرة العربية ولكن منذ العام 758-759، بدأ الحضور العربي في لبنان يتحول إلى حضور ديمغرافي، أي أنه بدأت بعض العشائر والقبائل العربية السنّية التوطن في لبنان لتنطلق في عملياتها العسكرية ضد الوجود الآخر في جبل لبنان إنطلاقاً من هذا العام بالذات.

        من هنا، هناك بعض الحقائق يجب التوقف عندها، وهذه الحقائق مهمة جداً لتطور القضية اللبنانية في منظار التاريخ. فهنالك تناقض في مفهوم القضية اللبنانية ما بين المجموعة المسيحية اللبنانية والمجموعة الإسلامية العربية على الصعيد التاريخي. ففي كثير من الأحيان نلاحظ أن البعض من المسيحيين وخاصة في المنتصف الثاني للقرن العشرين يشككون في لبنانية الوجود الإسلامي في لبنان، وكم من الزعماء المسيحيين كان عندهم تشكيك وأحياناً علني في الالتزام الإسلامي بهوية لبنان. وهذا يعود في اللاوعي السياسي إلى هذه المرحلة بالذات حيث يعتبر بعض المسيحيين أن الوجود العربي هو وجود طارئ اتى منذ العام 758-759، لذلك نرى أيضاً، وفي المقابل أن عند الطرف العربي الإسلامي في لبنان، هنالك فريق كبير يعتبر أن لبنان هو بلد عربي، وبلد عربي إسلامي، إنطلاقاً وارتكازاً من هذه المرحلة التي أعطت فيها الخلافة العباسية العشائر العربية الإسلامية حق الإستيطان في لبنان واعتباره بلداً هويته عربية. من هنا، حتى الأحزاب والتنظيمات الأكثر تقدمية وعلمانية عند الطرف الآخر أي العربي الإسلامي، تضع دائماً بنداً أساسياً في أي وثيقة، في أي إصلاح، في أي برنامج... وهو إعلان هوية لبنان العربي. إذاً، نعتبر أن في لبنان نوعاً من "حرب طرشان" بين الأطراف متواصلة، فجزءُ من الطرف المسيحي لأسباب تاريخية، يشكّك في الهوية اللبنانية للطرف الآخر، وجزءٌ كبير من الطرف الإسلامي على صعيد القيادات السياسية، لا يعترف بوجود مجتمع مسيحي-لبناني غير عربي في لبنان.

        من هنا، كل الخلافات والصدامات التي حصلت منذ العام 759 حتى أيامنا هذه بين المجموعتين أو بين النخبتين السياسيتين في المجموعتين الموجودتين في لبنان، هو نوعٌ من "حرب طرشان" فكل فريق في هذه الحرب لا يعترف بهوية الآخر، فالمسيحيون مثلاً، عليهم أن يعترفوا بالهوية العربية والانتماء العربي للمسلمين في لبنان، فالوجود العربي غائبٌ عن لبنان إلى أن تمكّن العرب من غزو الشرق ومن الاستيطان في لبنان، وهذا واقعٌ لا نستطيع تغييره. إذاً، يجب الاعتراف بالوجود العربي الاسلامي في لبنان، ولكن في المقابل أيضاً على المجتمع العربي الإسلامي في لبنان من خلال نخبه السياسية أن يعترف بالوجود المسيحي غير العربي في لبنان، هذا الوجود الذي امتدّ على الصعيد الديني لمدة سبعة قرون وعلى الصعيد الحضاري واللغوي إلى ألف سنة قبل المسيح...ويشكل عندها هذا الاعتراف المتبادل، قاعدة طبيعية للتعايش.

       إن هذه الحرب التي دامت نحو ستة قرون بين المجموعتين، أي بين المجتمع المسيحي المتمثل بالمردة الجراجمة الذين أسسوا المقاومة المسيحية اللبنانية، والذي كان يقاوم حفاظاً على الهوية الخاصة اللبنانية للمجتمع المسيحي وبين المجتمع الإسلامي الذي كان يواجه قوات المردة الجراجمة بهدف تثبيت الهوية العربية في لبنان من دون الاعتراف بهوية المسيحيين. بدأت العام 758 عندما بدأت عملية الاستيطان، هو عام مهم جداً في البحث التاريخي إن بالنسبة للمقاومة المسيحية اللبنانية أو بالنسبة للإستيطان العربي-الإسلامي في لبنان.

        من هنا نرى، أن دولة المردة الجراجمة الثالثة التي استمرت بشكل متواصل ما بين 758 و 1305، هذه الدولة استمر من خلالها المجتمع المسيحي اللبناني واستمرت من خلالها المقاومة المسيحية اللبنانية ولكن انكمشت حدودها، أمّا خارج هذه الحدود وعلى تخوم هذه الحدود فقد تكوّن مجتمع عربي إسلامي في لبنان، تكوّن من مختلف القبائل والعشائر الإرسلانية والشهابية والتنوخية وغيرها من القبائل العربية التي أتت من مختلف أنحاء الجزيرة العربية إلى لبنان وصار هناك ظاهرتان على الأراضي كوّنتا القضية اللبنانية "ظاهرة وجود كيان واضح اسمه دولة المردة الجراجمة الثالثة" وفق اصطلاحنا، وكيان آخر اصطلحنا تسميته "كيان عرب لبنان" أي العرب الذين أتوا واستوطنوا في لبنان. هذا على صعيد الوضعية البشرية والوضعية القومية في لبنان. أمّا على الصعيد العسكري، فطبعاً هذان الكيانان كانا في صراعٍ عسكري مستمر، فمن ناحية المقاومة المسيحية اللبنانية، فهي لا تهادن ولا تقبل بانهيار الكيان المستقل، لأنه في حال انهياره، ينهار الشعب المسيحي بكامله، ومن ناحية أخرى القبائل والعشائر العربية كانت تحاول وبشكل دائم الضغط المستمر على حدود هذا الكيان بالتعاون مع الجيوش العباسية النظامية ودعمها مادياً وبشرياً.

       في حال استعراضنا للوضعية العسكرية على مختلف الجبهات آنذاك، نرى ما يلي:

الحدود الشمالية لكيان دولة المردة الجراجمة الثالثة كانت تمتد على طول جبّة بشري-إهدن، نزولاً إلى القمم الموجودة في جبل لبنان حتى منطقة المتن حالياً، نزولاً إلى منطقة بحنس وحتى منطقة أنطلياس. هذا الكيان ليس كيان حرب السنتين! بل إنه الكيان الذي كان موجوداً في العام 758-759.

        إذاً، المشكلة-الأزمة، بل المقاومة التي يخوضها المجتمع المسيحي ليست مستحدثة، وليست سياسية محدودة أو لامتيازات مثلما كان يقول الكثير من الفرقاء في بداية هذه الحرب المعاصرة. فالمقاومة تاريخياً مستمرة ومشروعة للحفاظ على حقوق بل وجود المجتمع المسيحي الحرّ في لبنان.

 وضع المقاومة على الصعيد العسكري والسياسي:

       إذا توقفنا على الخطوط العسكرية التي كانت موجودة بين الكيانين في منطقة بيروت ومحيطها فقط، نرى أن قوات المردة الجراجمة كانت متواجدة في خط يمتد من منطقة أنطلياس-الدورة صعوداً إلى بحنس-بعبدات-المتين إنتهاءاً بترشيش، وفي المقابل كان نفس الخط ينتهي في الشويفات جنوباً. وكانت المناطق المتواجدة بينهما، أي بين منطقة بيروت وسن الفيل تتبادلها القوى على أساس أن بيروت كمدينة لم تكن موجودة بل كان هناك نوع من قرية صيادين في رأس بيروت. أما المناطق التي تمتد ما بين "العاصية" التي هي كسروان حالياً، حيث كان المردة، وبين منطقة الشويفات، كانت منطقة تعرف بالإنكليزية No man's land أو الأرض الخالية تتبادلها القوى العسكرية. إذاً، خطوط التماس في الحرب الأهلية، عملياً هي خطوط تاريخية. طبعاً، من ضمن منطق الصراع الذي كان قائماً بين هاتين المجموعتين وللأسف كان من الممكن أن تحل المشكلة ومن مئات السنين، بالاعتراف المتبادل بين المجموعتين.

        الوضعية العسكرية الداخلية كانت بهذا الشكل ولكن المجتمع الذي كان موجوداً في جبل لبنان والذي كانت تدافع عنه قوات المردة الجراجمة، كان من وقتٍ لآخر يقوم بنوعٍ من تحالفات عسكرية استراتيجية مع الخارج، طبعاً في الوقت الذي كان فيه عرب لبنان من القبائل والعشائر العربية المستوطنة حديثاً في لبنان متحالفين مع الجيوش العباسية يعني جيوش كل الأمة العربية الإسلامية الممتدة على كامل أراضي الخلافة ما بين آسيا وأفريقيا، كانت كلها محاصِرةً للكيان الصغير في لبنان.

        في المقابل، تمكن المردة الجراجمة من إقامة نوعٍ من التحالف العسكري مع الدولة الأقرب التي كانت بيزنطيا، من هنا ساندت بيزنطيا من وقتٍ لآخر، الكيان الحر في جبل لبنان وذلك إما من خلال القيام ببعض الغارات على السواحل اللبنانية خاصة جنوبي بيروت أو شمالي طرابلس، أو من خلال الدعم اللوجستي المباشر والعلاقات التجارية التي كانت قائمةً بين كيان جبل لبنان المستقل ودولة بيزنطيا.

        هذه العلاقات التحالفية العسكرية بين جبل لبنان وبيزنطيا، كانت مرتكزة على نوعٍ من علاقات يمكن أن نسميها علاقات دبلوماسية-سياسية، ومن أهم الاتفاقيات التي عقدت بين الطرفين تلك هي التي وقعها الأمير "كسرى" الذي كان أميراً على "العاصية" ومن هنا سميت بكسروان، مع الأمبراطور البيزنطي، والتي على أساسها أصبح هناك تمثيل دبلوماسي وسياسي بين الكيان الحرّ في لبنان وبين أكبر وأعظم دولة في العالم القديم بيزنطيا، ومن خلالها الإمارات المسيحية الأخرى. هذا كان الوضع على الصعيد الخارجي السياسي-الدبلوماسي.

        هذا الكيان الحر (758-1305) في الواقع، رغم كل القوى الدفاعية والقدرات التي توفرت له، ورغم التحالفات الخارجية، فإن عشرات ومئات من سني المواجهات والضغوط أثرت وضغطت عليه، فأهم حادثة أثرت على العلافة الاستراتيجية ما بين الكيان المسيحي الحر في جبل لبنان وبيزنطيا، كانت معركة العام 825 والتي خسرت فيها بيزنطيا سيطرتها على شرقي حوض البحر الأبيض المتوسط، وكما نعرف أن بيزنطيا كان لها أساطيل في شرق البحر الأبيض المتوسط أي ما بين تركيا ومصر. وكانت من خلال هذه الأساطيل تؤمن حداً أجنى من الاتصالات مع جبل لبنان وتؤمن نوعاً من ردع للجيوش العربية الأموية ثم العباسية، وكانت تقوم باستنزافها لمنعها من اجتياح الخطوط الدفاعية البيزنطية الجنوبية في جبال طوروس.

        ولكن في معركة 825، تمكنت الأساطيل العربية من أن تنتصر على الأسطول البيزنطي، وبالتالي أصبحت العلاقات الاستراتيجية والممر المائي بين جبل لبنان وبيزنطية تحت التهديد العربي المباشر. من هنا بدأ الضغط يصبح جدياً فعلاً على دولة المردة الجراجمة في جبل لبنان. لكن هذا الضغط الذي دام نحو مائة سنة ما بين 825 و 927، أمكن التخلص منه نسبياً، والتحول فيما بعد من مرحلة الدفاع الانكماشي إلى مرحلة الهجوم التوسعي-التحريري للمجتمع المسيحي-الماروني الحر في جبل لبنان، وذلك في أعقاب بروز ما قد نسميه "البعث المسيحي العالمي" أوما سمي بالحملات الصليبية.

  الحملة الصليبية الشرقية أو "البعث المشرقي": الحقيقة التاريخية للحملات الصليبية:

       إنّها ظاهرةٌ مهمة ٌجداً وهي ليست مذكورة في كتب التاريخ الرسمية المدرسية والجامعية بشكل صحيح وحقيقي. كلنا يعرف أنه في مرحلة من مراحل التاريخ مرّت حملات صليبية، ولكن القليل منا الذي يعرف أنه قبل الحملات الصليبية التي أتت من أوروبا كانت هناك "حملة صليبية" انطلقت من المشرق قام بها أبناء هذه المنطقة بالذات يمكننا وصفها بالبعث المشرقي، ففي العام 965 قامت حملة مشرقية مسيحية قادتها بيزنطية وشاركت فيها جميع الشعوب المشرقية في المنطقة بما فيها الشعب المسيحي في لبنان، وكان هدف هذه الحملة تحرير كل المناطق المشرقية واسترجاع الحقوق للمجموعات المشرقية التي فقدتها منذ العام 636، هذه الظاهرة الهامة لم تُعطَ حقها  في كتب التاريخ وهي مهمة جداً بالنسبة لنا لنعرف أن المشرقيين حاولوا لمرات عديدة، ومن منطلق حقهم الطبيعي في استرجاع أرضهم التي سلبت منهم إن في بلاد ما بين النهرين عند السريان الشرقيين أو ببلاد مصر عند الأقباط أو بالبلاد السورية اللبنانية بالنسبة للسريان اليعاقبة والموارنة والروم...

       كل هذه الشعوب مارست حقها في إعادة تحرير أراضيها ولكن للأسف، التاريخ لم ينصفها، كذلك هي لم تنصف نفسها للأسباب القائمة دائماً وسابقاً وحاضراً ألا وهي الانقسامات الداخلية والصراع على السلطة للوصول إليها بأي ثمن.

       من هنا، نوضح ونقول أن "الحملة الصليبية الشرقية" كانت حملة ً مشرقية وانتفاضة الشعوب المحتلة. ففي العام 966، دخل الجيش البيزنطي وجيوش صغيرة من الأرمن والسريان وسائر المشرقيين إلى أنطاكيا عاصمة المسيحية المشرقية آنذاك، وتقدمت في الساحل الشمالي لسوريا وفي الداخل حتى منطقة "نصيبين" وظلت تلك الجيوش تتقدم حتى وصلت إلى معرّة النعمان وحماه وحمص في العام 968. أما أنطاكيا التي كانت كرسي الرسل والبطاركة ومدينة القديسين فقد تحررت بالكامل في العام 969.

        أمّا مدينة حلب التي كانت معقل الجيوش العربية وقتها، فقد استسلمت وأصبحت تحت الوصاية البيزنطية بقيادة الأمبراطور البيزنطي Nicephore Phocas منذ العام 969، وفي هذا العام أيضاً انضم إلى الجيش البيزنطي إثنا عشر ألفاً من المقاتلين المشرقيين في مناطق سوريا وما بين النهرين فقاموا بغارات وتحركات عسكرية متلاحقة ودخلوا كافة المناطق والقرى وسيطروا عليها. واستمرت الحملة المشرقية الصليبية حتى العام 974 في عهد الأمبراطور Jean Tzimiksès وانضم إلى هذه الحملة فيما بعد عشرة آلاف أرمني وكان ذلك دعماً من الشعب الأرمني للحملة المشرقية التي أعدّت لاسترجاع الأراضي حسب قول بعض المؤرخين. تقدمت هذه الجيوش المشرقية المسيحية ووصلت إلى سهل البقاع في لبنان، وفي سهل البقاع كان التقدم سهلاً وطبيعياً لوجود المردة الجراجمة المنتشرين على طول القمم والسفوح للجبال اللبنانية، فتقدم البيزنطيون واحتلوا بعلبك واستمروا في هذا التقدم حتى الجنوب فوصلوا إلى الجليل في فلسطين، وكان من الممكن أن يصلوا إلى القدس ويحرروها. أما على محور السواحل اللبنانية، طبعاً الجيوش الفاطمية قاومت بقوة وعنف إنّما سقطت في النهاية أمام الضغط البيزنطي. وفي الجبال، كانت قوات المردة الجراجمة أيضاً تتقدم وتوسّع الحدود الحرة.

        إستمرّ البيزنطيون وسائر الحلفاء المشرقيين في هذه المناطق حتى العام 999 وفي هذا العام انسحب الجيش البيزنطي بسبب الخلافات داخل الدولة البيزنطية والصراعات الداخلية المختلفة. وبانسحاب الجيش البيزنطي، ضعفت القوى المشرقية الحليفة ولم تتمكن من الاستمرار في هذه المناطق، فلقد شنّ العرب هجومات معاكسة أعادوا السيطرة على كل المناطق التي حررتها الجيوش البيزنطية وسائر القوى المشرقية.

        من هنا يمكننا القول أنه كانت هنالك مرحلة مهمة، كان يمكن للمسيحيين المشرقيين ومن دون التمييز بين المذاهب والطوائف، أن يحرّروا المشرق كله، ولكان تغيّر التاريخ ولكن الصراع على السلطة والانقسام الذاتي داخل الصفوف المسيحية واللذان أصبحا علّة مستمرة ودائمة في المجتمعات المسيحية المشرقية، هما اللذان قضيا على مشروع إعادة تحرير الشرق كله.

        من هنا، ومنذ العام 999، إسترجعت القوات العربية المبادرة وعادت واحتلت كل المناطق المشرقية وبالتالي انكمش الكيان اللبناني الحرّ على ذاته في الحدود التي وصفناها سابقاً لدولة المردة الجراجمة الثالثة. ولم يتم التحرك من جديد وبتوسيع المناطق المحررة إلاّ مع قدوم الصليبيين من أوروبا وذلك لفترة امتدت لحوالي مئتي سنة.

الدكتور أندريه كحاله

منشورات هيئة الثقافة السريانية

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها