الكيان
المسيحي الحر -1-
I-
مقدمة: المسيحية المشرقية والفتح العربي-الإسلامي
إن المفصل التاريخي لبلانا في القرن السابع، له تحليلاتٌ حضارية
وتاريخية. إن العناصر التي شكّلت ركائز الهوية الحضارية عند أهل الشرق
السرياني، هي نفسها التي شكّلت التناقض مع أهل الجزيرة العربية:
فإن الجزيرة العربية لم تعطِ للعالم القديم قبل الإسلام أيّة حضارةٍ أو تيارٍ
حضاري هام.
"فالطبيعة
الصحراوية في الجزيرة وطبيعة المنطقة الخضراء المحيطة في الشمال، ولّدت عنصر
التناقض الطبيعي. كما أن الركود الحضاري في الجزيرة والكثافة الحضارية في
المناطق الآرامية-السريانية ولّد التناقض الحضاري. أما الواقع الديني المتقدم
في المناطق الشمالية، الذي يقابله فراغٌ ديني في الجزيرة، فقد ولّدا التناقض
الديني الذي منه انطلق الإسلام في الجزيرة أولاً ومنها إلى الخارج ثانياً".
إنّ ظهور الإسلام في القرن السابع، سوف يشكّل منعطفاً أساسياً جديداً
للمنطقة المشرقية، بحيث أدّى الغزو العربي-الإسلامي إلى تأسيس واقعٍ جديد وهو
فرض هويةً جديدةً على المنطقة أرضاً وشعباً، ممّا وضع أسس القضية المشرقية
وهي قضية التعدّدية التي ستنسحب على لبنان أيضاً.
ممّا لا شك فيه، أن الفتح العربي-الإسلامي طرح مشكلة التعددية بكل
جوانبها في الشرق عامةً وفي لبنان خاصةً، وهو ما شكّل أساس القضية
المشرقية...
فإذا كان تاريخ لبنان يبدأ منذ ستة آلاف سنة، كما يدعو إليه التيار القومي
اللبناني من منطلق المساحة الجغرافية، فالحقيقة أن تاريخ لبنان كمساحة
إنسانية أي كشعبٍ "وعى نفسه" وأصبح لديه الوعي لإرادة الحرية والسيادة في
الجبل، فإن هذا التاريخ يبدأ بالتزامن مع الفتح العربي-الإسلامي.... (بينما
تاريخ لبنان كمساحةٍ دستورية، لا يبدأ إلاّ مع القرن التاسع عشر....)
إذاً، لم يكن للوعي القومي والوعي الوطني وجودٌ قبل القرن السابع في
منطقةٍ جغرافيةٍ محدّدةٍ إسمها لبنان، لأن لبنان المسيحي قبل الفتح
العربي-الإسلامي كان مرتبطاً بسوريا المسيحية وفلسطين المسيحية وبيزنطيا
المسيحية وسائر الشرق والغرب داخل دائرة الحضارة الواحدة المسيحية. أما تغيير
ملامح المنطقة المحيطة بلبنان وفرض الإسلام والعروبة عليها، فقد أدّى إلى فكّ
الارتباط العضوي بين سكان لبنان السريان المسيحيين وسائر المنطقة المعرّبة
والمؤسلمة، بحيث أصبح للمنطقة هويّة حضارية معيّنة وللبنان هويّة حضارية
معيّنة.
"فالقومية اللبنانية لم تبرز إلاّ مع ظهور عنصرين تاريخيين:
العنصر الأول: هو الفرق الحضاري بين المسيحيين المتحصّنين في جبل لبنان، وبين
العرب المسلمين الذين سيطروا على السهول والسواحل. هذا العنصر شكّل التحضير
البيئوي، أي الأرضية التناقضية التي ينطلق منها التمايز بين المجموعتين.
العنصر
الثاني: هو الشعور التضامني لدى المسيحيين المدافعين الذي انطلق من حالة
الدفاع المستمرة ضد الهجمات المتواصلة على الجبل-الأمة".
"فالمنطقة شهدت ابتداءاً من القرن السابع تناقضاً، لا بل مواجهةً بين
قوميتين: عربية إسلامية ومسيحية شرقية".
لننظر الآن إلى الأسباب المباشرة التي سمحت للجيوش العربية-الإسلامية
بالانتصار على الأمبراطوريتين البيزنطية والفارسية. في الحقيقة هناك سببين
أساسيين:
-
السبب الأول عسكري استراتيجي يتلخّص بكون هاتين الأمبراطوريتين كانتا خارجتين
من حربٍ مدمّرة دامت أكثر من عشر سنين وذلك نتيجة احتلال الفرس لأورشليم
واستيلائهم على عود الصليب المقدس، فقام الأمبراطور "هرقل" بهذه الحرب التي
دامت من عام 614 إلى 628 وانتهت بانتصار البيزنطيين على الفرس الساسانيين.
لكن هذه الحرب انهكت الأمبراطوريتين عسكرياً واقتصادياً ممّا جعل الساحة
مفتوحةً أمام الغزو العربي-الإسلامي ليتحول إلى انتصارٍ ساحق...
-
أمّا السبب الثاني فهو الاضطرابات القومية داخل الأمبراطورية البيزنطية: هذه
الاضطرابات التي اتخذت الخلافات العقائدية والدينية قناعاً لها، خاصةً
ابتداءاً من المجمع المسكوني الرابع أو الخلقيدوني سنة 451 الذي كان نتيجته
كنيسة قومية عند الأرمن وكنيسة قومية عند الأقباط وكنيسة قومية عند
السريان... أما ردّة الفعل الرسمية عند السلطة البيزنطية، فقد كانت الاضطهاد
والتنكيل لهذه الكنائس المنشقة عن الدين الرسمي...
تجدر الإشارة هنا، إلى أن الموارنة كانوا من أتباع المجمع الخلقيدوني وكانوا
يعتبرون من الجماعة "السريانية الملكية" نسبةً إلى أنهم يتبعون الملك... هذه
الجماعات القومية أو الكنائس المنشقة عن بيزنطيا، ساهمت في انهزام الجيوش
البيزنطية إن في انسحابها عسكرياً أو في تسليم المدن الكبرى للمحتل
العربي-الإسلامي.
فإذا كان الفتح العربي هو المحرّك الذي غيّر ملامح المنطقة وهويتها،
فالحكم العربي فيما بعد، وعلاقته بالأمة اللبنانية، كرّس هذه الملامح وهذه
الهوية.
إن خلافة أبو بكر (الذي زوّج ابنته عائشة إلى النبي محمد) دامت سنتين
بعد موت النبي سنة 632 وذلك حتى سنة 634 حيث توحّدت القبائل العربية في كامل
الجزيرة تحت راية الإسلام وتمّ القضاء على القبائل المرتدّة التي تمرّدت على
المعاهدات التي ارتضتها على حياة محمد...
أمّا مع خلافة عمر بن الخطاب (الذي زوّج ابنته حفصة للنبي محمد) من
سنة 634 إلى سنة 644، فقد تمّ إخضاع بلاد السريان في معركة اليرموك في 15 آب
سنة 636، وهي المعركة المفصلية التي غيّرت وجه المشرق السرياني حيث انكسرت
الجيوش البيزنطية وفُتِحَت المناطق المشرقية كافةً أمام الجحافل العربية
الإسلامية وصولاً إلى جبال طوروس في الشمال.
سنة 637 ستشهد انكسار الأمبراطورية الفارسية الساسانية أمام الجيوش
العربية الإسلامية في معركة "القادسية" وتدفق موجة المدّ العربية-الإسلامية
نحو الشرق الأقصى، بعد معركة "نهاوند" سنة 642 م.
من مآثر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (المشهور بتسامحه!!!)، أنّه
اشترط على بني تغلب (وهي قبيلة عربية مسيحية) مقابل عدم دخولهم بالإسلام أن
يمتنعوا عن عمادة أولادهم... ممّا أوصلهم إلى نفس النتيجة... كما وصلت جيوش
عمر بن الخطاب إلى أورشليم سنة 638 م.
كلمة مختصرة عن المسيحيين العرب:
نجد
"المناذرة" وهم من الحضر الذين سكنوا بيوتاً من حجر وكانوا نصارى على المذهب
"النسطوري" الذي شجّعه الفرس نكايةً بالروم، أمّا الروم فكانوا يشجعون
"الغساسنة" وهم على المذهب اليعقوبي... وهكذا اختلف النصارى كرمى لعيون
حلفائهم حيث تمّ استعمالهم كعساكر في المناطق الحدودية "Zone
Tampon".
أمّا سنة 633، فقد تمكّن خالد بن الوليد من احتلال وتدمير "الحيرة" – جنوب
البصرة – وهي عاصمة المناذرة. ومع نقل حجارة هذه المدينة العامرة من أجل بناء
الكوفة كانت نهاية المناذرة...
II-
جبل لبنان وقيام دولة المردة الجراجمة الأولى
إنّ المدّ العسكري العربي الإسلامي الذي انطلق من شبه الجزيرة
العربية، اتخذ ثلاثة محاور:
-
المحور الأول شمالاً، نحو بلاد السريان وصولاً إلى جبال طوروس التي شكّلت
الحدود الجديدة مع الأمبراطورية البيزنطية.
-
المحور الثاني شرقاً نحو بلاد فارس وفي ما بعد نحو الشرق الأقصى.
-
المحور الثالث غرباً نحو بلاد الأقباط والشاطئ الإفريقي وفي ما بعد نحو
أوروبا عبر "جبل طارق".
لا بدّ من تحليل طبيعة المدّ العربي الإسلامي نحو الساحل الإفريقي
وأوروبا حيث وصلت الجيوش إلى وسط فرنسا سنة 732 وتوقفت في معركة "بواتييه"،
أي مئة سنة بعد الهجرة، فالخزّان البشري في الجزيرة لا يسمح بمثل هذا التوسع
الجغرافي...
والحقيقة التاريخية أن الجيوش العربية الإسلامية كانت تقوم بأسلمة
الشعوب على الساحل الإفريقي ثم تستعمل هذه الشعوب لدعم أعداد جيشها والتقدّم
إلى الأمام في المدّ والاحتلال الذي أوصل الخلافة الأموية في أوج أيامها من
إسبانيا غرباً إلى بلاد الهند والسند شرقاً...
هذه المساحة الهائلة ذات اللون الواحد كانت تشكو من شوكة في خاصرتها
والمتمثلة بجبل لبنان الذي لم تدخله الجيوش العربية الإسلامية وشكّل وطناً
حرّاً أصبح على مدى سبعة قرون ملجأ وملاذاً لجميع مسيحيي الشرق الأحرار...
فالأمة المسيحية هذه ركّزت دعائمها حول الجبال اللبنانية وشكّل
الموارنة فيها الجسم الأساسي كما كوّن المردة جهازها الدفاعي العسكري (ثم
شكلت البطريركية المارونية بعد إنشائها سنة 685 الهيكلية الروحية والدينية
للأمة اللبنانية المسيحية في دولة المردة الجراجمة).
من المرجح أن الأمبراطورية البيزنطية أرسلت في أوقات متفاوتة أعداداً
من المقاتلين إلى جبل لبنان عرفوا "بخيل الروم" منذ مطلع القرن السادس على
عهد الأمبراطور "يوستنيانس الكبير" ثم تلتها مجموعات أخرى، كما يورد المؤرخ
تيوفانوس: إرسال المردة من قِبَل الأمبراطور قسطنطين الرابع حوالي سنة 669 م.
للتضييق على دمشق، حيث "كانول يزرعون الرعب في المنطقة الممتدة من القدس إلى
أنطاكيا في شمال سوريا". وقد تلاه سريعاً تاريخ انتقال الكرسي البطريركي
الماروني من ضفاف نهر العاصي إلى بلدة كفرحي في البترون سنة 685 بقيادة
البطريرك الأول مار يوحنا مارون.
أما معاوية الذي حكم من سنة 660 م. إلى 678 م.، فعندما أراد بناء أسطول بحري
لمهاجمة القسطنطينية، اضطر إلى استعمال مرفأ "عكا" لاستحالة استعمال المرافئ
اللبنانية نتيجة غارات الموارنة عليها (حصار القسطنطينية 672-678). مع ازدياد
حملات المردة على المسلمين، اضطر الخليفة معاوية بن أبي سفيان إلى إرسال وفدٍ
إلى بيزنطية يطلب الصلح واعداً بدفع جزية سنوية (كما يقول المؤرخ البلاذري)
حوالي سنة 677، وقد قبلت بيزنطية عرض الصلح وتمّت كتابة عهدة موثقة على أن
يدفع العرب كل سنة إلى البيزنطيين وأمراء الموارنة المردة ثلاثة آلاف ذهبية
وثمانية آلاف أسير وخمسين جواداً عربياً وقد أبرم هذا الصلح لثلاثين سنة...
ويعتبر المطران يوسف الدبس: "إننا نحن الموارنة نعلم أن المردة إسم
للموارنة لقبه بهم أعداؤهم في القرن السابع وأن المردة والموارنة أمّة
واحدة".
أمّا المؤرخون المعاصرون، أمثال الدكتور فيليب حتى والأباتي فهد والأب
بطرس ضو، فيعتبرون أن المردة والجراجمة إسمان لمسمّى واحد، فصيلة خارجية أتت
من بلاد الروم بأمر ملوك بيزنطيين وفصيلة داخلية كانت تقطن بلاد السريان منذ
أجيال.
وقد اندمج في الغزوات ضد العرب المردة الخارجون "الروم" والمردة
الداخلون "الموارنة" في معسكرٍ واحد بسط سيطرته من جرجومة واللكام شمالاً حتى
أورشليم جنوباً وجعلوا من قمم جبل لبنان معقلاً أساسياً لهم (وكانت العاصمة
الأولى "بسكنتا").
"العهد الأموي إذاً، شهد استقلالاً تاماً وسيادة تامة للأمة اللبنانية التي
اتسعت رقعة تواجدها أكبر اتساع. ولكن نهاية هذا العهد شهدت انكماشاً للوطن
المسيحي إلى بلاد الشوف جنوباً وعكار شمالاً. ولكن انكماش حدود الوطن المسيحي
اللبناني لم يعنِ انحصار المسيحيين فيه. فالحدود اللبنانية لم تكن حدود تواجد
المسيحيين اللبنانيين والسوريين، بل حدود الاستقلال السياسي والسيادة للأمة
اللبنانية".
الدكتور أندريه كحاله
منشورات هيئة الثقافة السريانية
يتبع
|