عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
   د. أندريه كحّالة

د. أندريه كحّالة

بيروت – لبنان


الأصول التّاريخيّة للعلاقات الكنسيّة بين الشّرق والغرب

       إنّ النّظرة الأولى قد تبحث عن علاقاتٍ كنسيّةٍ بحتةٍ، في تباين الممارسات والطّقوس وفي اختلاف التّنظيمات الكنسيّة بين روما، عاصمة الكثلكة، والقسطنطينيّة، عاصمة الأورثوذكسيّة.

       إنّ العلاقة بين الكنيسة الشّرقيّة والغربيّة هي في حقيقتها علاقةٌ بين حضارةٍ شرقيّةٍ بيزنطيّة وحضارةٍ غربيّةٍ لاتينيّة، كعالَمَيْنِ لكلٍّ منهما قِيَمُهُ وتراثه وبيئته.

       إنّ الإطار التّاريخيّ هو الإطار العلميّ الّذي يجب أن توضَع فيه مسألة العلاقة بين الكنيسة الشّرقيّة والغربيّة، بما لها من نتائج سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ، إلى جانب المسائل الّلاهوتيّة.

        منذ القرون الأولى للميلاد، لعبت الظّروف السّياسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة في تحديد الإطار العام لمفهوم الإيمان لدى شعوب العالم الرّوماني في الشّرق والغرب: إنّ المسألة الأولى الّتي شكّلت إنشقاقاً في صفوف الكنيسة الأولى، كانت قضيّة التّبشير خارج الشّعب اليهوديّ ووجوب مرور الشّعوب الوثنية بالفرائض اليهوديّة كشرط لدخولها في المسيحيّة (مثل الختان وفريضة السّبت وفرائض الطّهارة في الأكل)، فجاء مجمع الرّسل سنة 51م. ليحسم الوضع إلى جانب القدّيس بولس، الّذي عُرِفَ برسول الأمم، لجهة عدم فرض الطّقوس اليهودية على الشّعوب الوثنية...

       إنّ انتشار الدّين المسيحيّ على يد الرّسل، خلال القرن الأول، قد تمّ داخل وحدةٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ متكاملةٍ، في ظلّ الأمبراطوريّة الرّومانيّة وعاصمتها روما، وفي ظلّ ثقافةٍ واحدةٍ هي الثّقافة اليونانيّة الرومانيّة الّتي تُعرَف بالغريكو-لاتينيّة، وصولاً إلى القرن الرّابع،الّذي كان حاسماً في تاريخ المسيحيّة: فمن ناحيةٍ، تحقّق انتصارها على الوثنيّة، ومن ناحيةٍ ثانية، بدأت بذور النّزاع بين الكنيسة الشّرقيّة والغربيّة.

       مع وصول الأمبراطور قسطنطين الكبير وتوحيده للحكم، أقرّ سنة 313م. مرسوم ميلانو، الّذي أعلن فيه نهاية الاضطهاد وحريّة العبادة للمسيحيّة واعترف فيه للمسيحيّة كديانةٍ."مرخّصةٍ ومساويةٍ للأديان الوثنيّة القديمة". لكنّ النّزاعات العقائديّة التي نشبت بين آريوس وأثناسيوس من قساوسة الإسكندريّة حول علاقة المسيح الإبن بالله الآب، أوجب ضرورة الدّعوة إلى عقد المجمع المسكوني الأوّل الّذي عُقِدَ في نيقيا بآسيا الصّغرى سنة 636 للإسكندر (سنة 325م.)، السنة العشرون لحكم قسطنطين والذي ترأس المجمع.

       + سنة 325، المجمع المسكوني الأوّل في نيقيا:

       حضره حوالي 318 أسقفاً: وقد لعن المجمع آريوس وأتباعه وحرم آراءه القائلة بأنّ المسيح أدنى مرتبةً من الله الآب، وهو مخلوقٌ. رغم أنّ مجمع نيقيا فشل في استئصال البدعة الآريوسيّة، إلاّ أنّ النّزاع ذاته ساهم في تقسيم الأمبراطوريّة من الوجهة الدّينيّة، إذ أخذت الآريوسيّة بالانتشار في القسم الشّرقي بشكلٍ مذهلْ. وقام المجمع بتحديد القسم الأوّل من قانون الإيمان النيقاويّ الّذي نعرفه. كما حدّد الثّالوث، ومعموديّة الأطفال وموعد الفصح المسيحيّ للابتعاد عن الفصح اليهوديّ.

كما تمّ الاعتراف رسميّاً بوجود ثلاث كراسي بطريركية حسب التّرتيب الآتي: روما، الإسكندريّة وأنطاكية.

       سنة 330، قام قسطنطين بتدشين مدينة القسطنطينيّة (بيزنطيا) لتكون العاصمة الجديدة للأمبراطوريّة، أي روما الجديدة.

       سنة 361-363، يوليانوس الجاحد يحاول العودة إلى الوثنية، وإعادة بناء هيكل سليمان.

       + سنة 381 المجمع المسكوني الثّاني في القسطنطينيّة:

       عُقِدَ في القسطنطينيّة في السّنة الثّانية لحكم تيودوس (379-395)، وحضره حوالي 150 أسقفاً: وكانت مهمّته المباشرة محاربة آراء مقدونيوس الذي علّم أنّ الرّوح القدس أقلّ من الآب والابن في الجوهر، بحيث عُرِفَ هو وأتباعه بأعداء الرّوح. كان المجمع الثّاني في القسطنطينيّة إنتصاراً للنّيقاويّين على الآريوسيّين. بعد ارتداد الأمبراطور كونستانس سنة 359 وفالنس من بعده.

       على صعيد التّنظيم الكنسي، فقد قرّر المجمع المسكونيّ الثّاني في القسطنطينيّة، تقدّم أسقف القسطنطينيّة بعد أسقف روما مباشرةً لأنّها روما الجديدة. وللحال إعترض بابا روما داماسيوس الأول بعقده مجمعاً محلّياً في روما في العام التالي، محتجّاً على ترقية أسقف القسطنطينيّة ومؤكّداً التّرتيب الّذي جاء في مجمع نيقيا، ممّا فتح أولى صفحات النّزاع مع القسطنطينيّةن فقد توضّحت عندئذٍ النّظريّة البطرسيّة وأصبح تعبير البابويّة مرادفاً تماماً لتعبير سيادة كرسيّ روما، أي كرسي القدّيس بطرس.

       كما أصدر تيودوسيوس قانوناً بتحريم الوثنيّة واعتماد المسيحيّة ديناً للدّولة.

       سنة 395، صدر مرسومٌ بمنع الذّبائح الوثنيّة. في هذه السّنة أيضاً، توفّي الأمبراطور تيودوس، بحيث انقسمت الأمبراطورية الرومانيّة بين ولديه إلى قسمين نهائياً. هذا الانقسام جاء تعبيراً عن الفروقات بين شطرَي الأمبراطوريّة في حضارتين مختلفتين وعقليّتين مختلفتين ونظرتين مختلفتين إلى الحياة والعالم: فمن ناحيةٍ، هناك الإغريق بحضارتهم اليونانيّة ذات الفكر الفلسفي الجدليّ ولغتهم اليونانيّة الغنيّة، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، هناك اللاتين بتنظيمهم القانوني وبلغتهم اللاتينية التي تميّزت بالصّعوبة وفقر المفردات، بحيث أدّى عدم وجود لغةٍ مشتركةٍ غلى تفسيراتٍ مختلفةٍ للمسائل المتعلّّقة بالعقائد المسيحيّة (مثل كلمة الانبثاق التي لها أربعة مفردات في اليونانية، مقابل واحدة في الللاتينية).

        خلال القرون الثلاثة الأولى، لم يكن أسقف روما بحاجةٍ للتأكيد على النّظريّة البطرسيّة وامتيازاتها. وذلك لأنّ روما كانت عاصمة الأمبراطورية والمركز الوحيد للعالم المتحضِّر. لكنّ نقل هذه العاصمة إلى الشّرق، وتأسيس القسطنطينية لتكون روما الجديدة، خلق تهديداً لمركز روما عامّةً وبالتالي لأساقفتها. رغم هذا التّهديد، فإنّ هذه المرحلة الجديدة، كانت في الوقت ذاته البداية الحقيقيّة لبروز أسقف روما وبالتالي للبابوية كقوّةٍ سياسيّةٍ ودينيّةٍ في العصور الوسطى كلّها في أوروبا والغرب. فبعد أن أصبحت سلطة الأمبراطوريّة إسميّةً فقط في القسم الغربي، وَرِثَ أسقف روما (البابا) المركز كحاكمٍ مطلقٍ ومصدر التّشريع، خاصّةً وأنّ نائب الأمبراطور في القسم الغربي لم يسكن مدينة روما.

فبقاء البابا وحيداً في روما، أعتقه من التّبعيّة للأمبراطور وأعطاه السّلطة المعنويّة والأدبيّة الّلازمة لإقامة الإستقلال الدّيني على أساسٍ متينٍ بعكس أسقف القسطنطينيّة، الّذي كان يخضع للسّلطة وللهيمنة الأمبراطوريّة في العاصمة (Cesaro-Papisme).

        من المدافعين عن الإيمان الصّحيح، نذكر القدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم، الّذي مات في المنفى بعد أن كان بطريركاً للقسطنطينيّة (344-407)، والقدّيس أغوسطينوس أسقف الجزائر (354-430)، الّذي طبع الفكر المسيحي بأفكاره، ولا مجال للتّوسّع فيها هنا. القدّيس جيروم أو إيرونيموس (347-420)، الّذي ترجم الإنجيل إلى الّلاتينيّة وهي التّرجمة التي تعتمدها الكنيسة. (Vulgata)

أمّا الكنيسة النسطوريّة، فقد أعلنت نفسها على أيّام شهبور الثّاني السّاسانيّ (310-379)

        + سنة 431 المجمع المسكوني الثالث في أفسس:

       حضره 154 أسقفاً، بهدف محاربة بدعة نسطوريوس، بطريرك القسطنطينيّة الّذي علّم أنّ المسيح ليس من مريم البتول، فهي أمّ يسوع فقط، فحرمه المجمع ونفاه وأقرّ أنّ المسيح إبن الله الوحيد، تجسّد من الرّوح القدس ومن مريم العذراء. لكنّ هذا المجمع الثالث، لن يمنع النسطوريّة بحيث استقلّت الكنيسة الفارسية على البدعة النسطوريّة. كما امتدّت هذه البدعة خلال القرن السادس إلى آسيا الوسطى والهند.

       سنة 449: مجمع "الّلصوص" في أفسس حيث تمّت تبرئة أوطيخا.

       الأمبراطور مرقيانوس (450-457) يؤيّد قرارات مجمع خلقدونية (ويأمر ببناء دير مار مارون الكبير على العاصي) وخليفته لاوون (457-474)، كما ناصره قسمٌ من سكّان بلاد السّريان ومصر فلُقِّبوا "بالملكيّين" ودُعِيَ خصومهم "بالمونوفيزيت" أي بموحِّدي الطبيعة في المسيح.

       + سنة 451 المجمع المسكوني الرابع في خلقدونية:

       عُُقِدَ في عهد الأمبراطور ماركيان الّذي حكم بين (450-457) بحضور حوالي 630 أسقفاً. كان هدف المجمع محاربة آراء أوطيخا، وهو أحد رهبان القسطنطينيّة الّذي قال أنّ الطّبيعة الإنسانية في المسيح قد امتزجت بالطّبيعة الإلهية حتّى تلاشت فيها. كما أنّ ديوسكوروس بطريرك الإسكندرية، قال ببدعةٍ انتشرت عند الأقباط، وهي تدعو إلى الطّبيعة الإلهية فقط بما عُرِفَ بالمونوفيزيّة. كان ردّ هذا المجمع بلعن آراء أوطيخا وتحريمه وتحريم المونوفيزيّة،والأخذ بنظريّة البابا ليّون الكبير الّذي أصبح التّعريف النّهائيّ للإيمان القويم شرقاً وغرباً:

"المسيح هو شخصٌ واحدٌ، كلمة الله، وفيه طبيعتان، الإلهية والإنسانية متّحدتين نهائيّاً بدون اختلاط ولا امتزاج".

       على الصّعيد المشرقيّ، فقد أدّى المجمع الرابع إلى انقساماتٍ خطيرةٍ عندما اتُّهِم أنّه يساند النسطوريّة، كما انقلبت مواقف الأباطرة المتعاقبة منه. هذا المجمع سيتسبّب بالقطيعة مع السّريان اليعاقبة، والأقباط المونوفيزية والأرمن.

       على صعيد التّنظيم الكنسيّ، فإنّ تأزّم العلاقات بين روما والقسطنطينيّة قد جاء بعد قرار أغلبيّة الآباء المجتمعين، منح أسقف القسطنطينيّة نفس الامتيازات التي يتمتّع بها أسقف روما، رغم معارضة مندوبي البابا. كما منح الآباء المجتمعون لقب بطريرك إلى أساقفة الكنائس الخمس وفقاً للتّرتيب التّالي: روما، القسطنطينيّة، الإسكندريّة، أنطاكية وبيت المقدس. وكانت كنيسة أنطاكية على خلافٍ دائمٍ مع كنيسة الإسكندريّة، فحاولت كلٌّ منهما كسب روما إلى جانبها، وهذا بدوره ساعد في خلق الزّعامة التدريجيّة لأسقفيّة روما على العالم المسيحي، ولاسيّما في الغرب الأوروبي.

       وفي الرّبع الأخير من القرن الخامس، جاءت أحداثٌ خطيرةٌ وعصفت بروما: فقد سقطت الأمبراطوريّة الرّومانيّة الغربيّة بيد الجرمان البرابرة سنة [1]476، حيث أصبح زينون الأمبراطور الوحيد على القسم الشرقي. لكنّ هذا الحدث على خطورته، قد أسهم في بروز البابوية للمرّة الثّانية بعد انتقال العاصمة في المرّة الأولى في أوائل القرن الرّابع[2]. فقد أدّى سقوط الأمبراطوريّة الغربيّة إلى تداعي المجتمع الرّوماني تحت ضغط الغزو البربري، لكنّ الكنيسة الرّومانيّة ظلّت القوّة المعنويّة الوحيدة المتماسكة، ممّا سمح لها بلعب دورٍ قياديٍّ في الغرب الأوروبي، خلال تلك العصور المظلمة، بحيث قامت بالتّفاوض مع الغزاة المنتصرين، كما حافظت على الإرث الثّقافي والكنسي...

       إنّ التّدمير الشّامل لمظاهر الحضارة في الغرب الأوروبي، دفع النّزاع بين روما والقسطنطينيّة إلى مرحلةٍ أكثر عمقاً وشمولاً في آنٍ واحدٍ. فقد انعكس المفهوم الحضاريّ على المفهوم الدّيني والإيماني لدى شعوب الغرب والشّرق: فالتّصوّر العقائدي، وبالتّالي الممارسات، كانت مختلفةً إلى حدٍّ بعيدٍ رغم التّوافق على الأساس الّلاهوتي.

       بالنّسبة إلى سلطة المجامع المسكونية مثلاً، فهي بالنّسبة إلى القسطنطينيّة سلطةٌ ملهِمةٌ موثِّرةٌ في مسائل العبادة والعقيدة والتّنظيم الكنسيّ، بينما بالنسبة إلى روما، فكرسي بطرس معصومةٌ وهي صاحبة السّلطة المطلقة...

       بالنّسبة إلى الشّؤون الدّينية، فقد لعب الفكر الفلسفي العلماني دوراً كبيراً في الشّرق. أمّا في الغرب، فإنّ الفكر العلماني كان مفقوداً ومفهوم العقيدة كان بسيطاً وصارماً في نفس الوقت (من هنا نجد أنّ الهرطقات والبِدَع ظهرت كلّها في الشّرق، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، كانت كرسي روما الملجأ الثابت أمام التّقلّبات العقائدية عند كرسي القسطنطينية بالنسبة إلى الموارنة مثلاً....)

       بالنّسبة إلى الّسلطة السّياسيّة، فقد كان تدخّل الأمبراطور بشكلٍ كبيرٍ في الشّؤون الّلاهوتيّّة والدّينيّة في القسطنطينيّة. أمّا في روما، فقد رفضت الكنيسة تدخّل الدّولة ومارست روما دوراً قيادياً في أوروبا بطريقةٍ مستقلّةٍ. ولم يأتِ غزو الأمبراطور جوستنيان في القرن السادس لإيطاليا بالخضوع المرجو على المدى البعيد، لأنّ البابوية أصبحت قوّةً معنويّةً ذات تأثيرٍ أدبيٍّ في الغرب الأوروبي كلّه.

       لا بدّ من الإشارة هنا، أنّ الطّوائف البروتستانتيّة والأنغليكانيّة لا تعترف إلاّ بالمجامع المسكونيّة الأربعة الأولى.

       سنة 484: أوّل قطيعةٍ (أو انشقاق) بين الكنيستين الشرقيّة والغربيّة:

       البابا فيليكس الثالث يرشق البطريرك أكاسيوس بالحرم بسبب قبول الأخير بتسوية الأمبراطور زينون 482م. Henoticon الذي يخالف مجمع خلقدونية.

       سنة 519: الأمبراطور يوستنيانوس الأول ينهي القطيعة بقبوله مواقف البابا هورمزدا.

       + سنة 553 المجمع المسكوني الخامس في القسطنطينيّة:

            سنة 565، يمنح يوستنيانوس الكبير حق المواطنية للمعمَّدين فقط، ويمنع الوثنيين عن الوظائف الرّسميّة.

       المجامع المسكونيّة بحثت بالهرطقات التي طاولت الأسرار الأساسية في المسيحيّة:

       الثّالوث، التّجسُّد والفداء بما شكّل حلبةً للصّراع بين مدرستَي أنطاكية والإسكندرية الّلاهوتيّتين.

        أمّا نشأة الكنيسة المونوفيزية رسميّاًَ، فهي تعود إلى عهد الملك يوستنيانوس الأول (527-565)، بتشجيعٍ من زوجته الأمبراطورة تيودورا التي استدعت يعقوب البرادعي أسقف أورفا (الرّها)، مع علمها بتطرّف تعاليمه، للدّعوة إلى البدعة المونوفيزية وتنظيم شؤون كنيستها...

       أنصار الطّبيعة الواحدة هم اليوم الأقباط الأرثوذكس والسّريان الأرثوذكس (أو اليعاقية) والأرمن الأرثوذكس (أو الغريغوريّون). وهم مع قولهم بالطّبيعة الواحدة مثل القديس كيرلّس الإسكندري، يشجبون آراء أوطيخا ويعترفون بأنّ المسيح إلهٌ كاملٌ وإنسانٌ كاملٌ...

فالخلاف محصورٌ إذاً في الألفاظ لا في المعاني الدّينية. والخلاف له أبعادٌ سياسيّةٌ وقوميةٌ أصلاً...

لأنّ الإنشقاق الدّاخليّ الذي حدث في الشّرق إبان القرن السادس، بين مناصري المجمع الخلقدوني ومناوئيه، كان سببه الإختلاف في التعابير الّلاهوتيّة عن طبيعة السيد المسيح...

       ولم تتأصّل هذه الاختلافات الّلاهوتيّة الدّقيقة في عقول العامّة إلاّ بفضل ما أثير حولها من نعراتٍ قوميةٍ وطنيةٍ تحمّس لها الأقباط والسّريان والأرمن وهدفها مقاومة دولة الرّوم المستعمِرة[3].

        إنّ اليعقوبية كانت قد انشقّت عن الكنيسة الشّرقية منذ سنة 512، وأقامت بطاركةً لها على مذهب الطّبيعة الواحدة، في دير الزّعفران ثم في ماردين...

       إذا كان سقوط القسم الغربي من الأمبراطوريّة الرّومانيّة في القرن الخامس قد أعطى دفعاً لمصلحة البابويّة، فإنّ الفتح الإسلامي لبلاد الشام ومصر في القرن السابع قد أعطى دفعاً لمركز القسطنطينيّة، بحيث سقطت البطريركيات الشرقية الثلاث الأخرى تحت الاحتلال حوالي سنة 638 ولم تعد تشكِّل منافسةً على زعامة الكنيسة الشّرقية، وبالتّالي أصبح النّزاع بين الشّرق والغرب في حقيقته، نزاعاً بين القسطنطينيّة وروما.

        631-638: الملك هرقل يحاول التوفيق بين أصحاب الطبيعة الواحدة وأتباع الخلقدونية بإعلان فكرة "المشيئة الواحدة"، لكنّ هذه الفكرة لم تنجح لدى أيٍّ من الفريقين المتنازعين، بل زادت في تعميق الأزمة

        + سنة 680 المجمع المسكوني السادس في القسطنطينيّة:

       عُقِدَ أيّام قسطنطين الرّابع، حيث تمّت تنحية مكاريوس بطريرك أنطاكية، لاعتقاده بالمشيئة الواحدة، وإقامة تيوفان على كرسيّ أنطاكية. تمّ إذاً حسم الجدل حول المونوتيليّة وتحريمها.

       بعد خمس سنواتٍ، توفّي تيوفان، ولم يعد بالإمكان ملء كرسي أنطاكية لأنها كانت تحت الإحتلال الإسلامي. هنا قام الموارنة بخطوتهم الإستقلالية تجاه القسطنطينيّة، وذلك بانتخاب بطريرك لأنطاكية للموارنة، وهو مار يوحنا مارون سنة 695م...

       أمّا البيزنطيّون، فلم يقيموا بطريركاً لأنطاكية إلاّ بعد سنة 740 في دمشق، تبعاً لأوامر قسطنطين السّادس...

       في القرن الثّامن، جاءت سياسة محاربة الأيقونات التي بدأ بها الأمبراطور ليو الثالث الأيزوري سنة 726، لتدفع العلاقات بين الشّّرق والغرب إلى منحىً خطيرٍ،بحيث تمّ تبادل الحرم بين روما والقسطنطينيّة (للمرّة الأولى وليس الأخيرة)

       سنة 755: الملك الفرنكي "Pépin le bref" (والد الملك شارلمان)، يدافع عن الفاتيكان وروما ويهب الأراضي الإيطالية المحرَّرة من اللومبرديين إلى البابا في ما سُمِّيَ بالممتلكات البابوية Patrimonium Petri التي دامت حتى سنة 1870.

        + سنة 787 المجمع المسكوني السّابع في نيقيا:

       عُقِدَ على أيّام الأمبراطورة إيرين، حيث أعيد الاعتبار للأيقونات. وهو آخر مجمعٍ تعترف به الكنيسة الأورثوذكسيّة.

       مرحلةٌ جديدةٌ من محاربة الأيقونات راوحت بين سنة 815 وحتى سنة 843، حيث انتهت بإعادة الاعتبار مع الأمبراطورة تيودورا. في القرن التّاسع، تحالفت البابوية مع الفرنجة بشخص شارلمان، وجاء تتويجه في روما سنة 800 طعنةً تجاه بيزنطيا ووحدة الأمبراطورية الرّومانيّة. فرفضت بيزنطيا الإعتراف بالأمبراطور شارلمان الفرنجي.

        ثمّ جاءت قضيّة فوتيوس بطريرك القسطنطينيّة ومسألة الكنيسة البلغارية والتّنافس عليها، بحيث اختلطت القضايا الكنسيّة الإداريّة بالقضايا السّياسيّة، بين سنة 857 و 877.

       وفي أوروبا، كانت البعثات الكاثوليكيّة تصرّ على إضافة كلمة "والابن" إلى العقيدة النيقوية، ممّا كان لها أخطر النّتائج، بحيث اعتُبِرَت العقبة الأساسية في وجه وحدة الكنيسة. 

       في أصل قضية "الفيليوك" (وهي كلمةٌ لاتينيةٌ معناها "والابن")، أنّه أثناء الصّراع بين الإسبان الكاثوليك والقوط الغربيين (ostrogoths) الآريوسيون، أخذ الإسبان يصرّون على المساواة بين الآب والابن تجاه الآريوسيّين الّذين قالوا بعدم المساواة. لهذا، أضاف الكاثوليك أنّ الرّوح القدس لا ينبثق من الآب فقط، وإنّما من الإبن أيضاً. وفي مجمع توليدو الكاثوليكي سنة 589 في إسبانيا[4]،أدخلت الزيادة إلى العقيدة النيقاوية مخالفةً إياها. كما انتقلت هذه الزيادة إلى فرنسا في عهد شارلمان، ومن ثمّ إلى ألمانيا، وأخذت تتسرّب إلى إيطاليا في القرن العاشر، إلاّ أنّ البابوية لم تتبنَّ رسمياً هذه الزيادة في العقيدة إلاّ في أوائل القرن الحادي عشر.

       + سنة 869 مجمعٌ في القسطنطينيّة:

       عُرِفَ بالمجمع المعادي لفوتيوس، حيث أعيد اغناطيوس وبدا إنتصار روما.

       + سنة 879 مجمعٌ في القسطنطينيّة:

       عُقِدَ ضد المجمع الذي عٌقِدَ ضد فوتيوس، لأنّه بعد موت اغناطيوس، أعيد فوتيوس واضطرت روما إلى الإعتراف بالمجمع وبفوتيوس.

       رغم أنّ العلاقات بين روما والقسطنطينيّة ظلّت قائمةً في حياة فوتيوس، إلاّ أنّها أخذت في الفتور التّدريجي بعد موته سنة 897، خاصةً أنّ الخلاف العنيف في القضايا الّلاهوتية قد أثار الدوائر الّلاهوتية في الشرق والغرب كما سنرى.

       سنة 969: إستعاد البيزنطيون أنطاكية وما جاورها ونصّبوا عليها عدّة بطاركة من الإكليروس القسطنطيني بحيث ازداد تأثير الطقس البيزنطي على الطقس الأنطاكي وقضى عليه قضاءً تامّاً لدى الملكيين، فانتحلوا الطقس البيزنطي[5].

       في القرن الثامن الميلادي، برزت البابوية كقوّةٍ سياسيّةٍ رئيسيّةٍ في الغرب الأوروبي: في انتشار المسيحية على أيدي الرّهبان البندكتيّون وفي دعم الأسرة الكارولنجية لها ضد اللومبارديون وأباطرة بيزنطيا الذين حاربوا الأيقونات.

       إنّ العلاقات بين القسطنطينيّة وروما في القرن العاشر قد جمّدت دون أن تحلّ المشاكل العقائدية نتيجة انشغال بيزنطيا بفتوحاتها في عهد الأسرة المقدونية وانحطاط البابوية بسبب تسلّط العلمانيين في روما منذ أواخر القرن التاسع، حيث شهد مركزها تراجعاً كبيراً على الصعيد الداخلي في النظام الإكليريكي والأخلاقي، وعلى الصعيد السياسي في تبعيتهم لأرستقراطية النبلاء في روما نفسها. ممّا أدّى إلى انتشار الفوضى مثل السيمونية وزواج رجال الدين والتقليد العلماني حتى أواسط القرن الحادي عشر، حيث ظهرت لحسن الحظ، حركاتٌ إصلاحيةٌ دينيةٌ في الغرب الأوروبي وأشهرها الحركة الكلونية في فرنسا.

       أوّل الباباوات المصلِحين كان ليو التاسع (1042-1055)، وأبرز ما حدث في عهده، هو هزيمته أمام النورمان في جنوب إيطاليا سنة 1053، حيث اقتنعت البابوية بوجوب تحالفها مع النورمان، وقد وقع البابا ليو التاسع في الأسر.

       مع حلول سنة 1054، تأزّمت العلاقات بين الأمبراطور وبطريرك القسطنطينية[6] من جهةٍ وبابا روما من جهةٍ ثانية. وبعد تبادل الرّسائل الإتّهامية، ذهب وفدٌ بابوي إلى القسطنطينية برئاسة الكردينال هومبرت، حيث احتدمت النقاشات حول الطقوس، (مثل استعمال الخبز الفطير غير المختمر وصيام السبت وتحريم زواج الكهنة، وحلق اللحى وأكل اللحوم). وكانت قمّة الأزمة، عندما دخل الموفد البابوي كنيسة آيا صوفيا ووضع قراراً بالحرم على المذبح ضد البطريرك وأعوانه. فما كان من المجمع القسطنطيني إلاّ أن أصدر حرماً مضادّاً على المندوبين البابويين.

       إنّ قطيعة 1054، جاءت في العمق نتيجة الإختلاف الأساسي الحضاري والثقافي والسياسي والإقتصادي الذي كانت تبنى فوقه العلاقات الطيبة أحياناً. وما هذه القطيعة إلاّ حلقةٌ مثيرةٌ من الصّراع الدّائم ومقدّمةٌ للانشقاق النهائي الذي أدّت إليه الحملة الصليبية الرابعة سنة 1204. أمّا في بيزنطيا، فقد انقسمت الدّوائر الدينية إلى فئةٍ متطرّفةٍ تعارض بشكلٍ مطلقٍ كلّ ما هو لاتيني وروماني، وفئةٍ معتدلةٍ تبحث عن المصالحة والتّسوية للاختلافات الجوهرية.

       أمّا تأثير هذه القطيعة على التبادل الشعبي أو الاقتصادي بين الشرق والغرب، فكان ضئيلاً، فلم تتأثّر حركة الحجّاج في الإتّجاهين ولا على بناء الكنائس اللاتينية في بيزنطيا. كما ظلّت الأهداف والمناورات السياسية وراء المباحثات بين روما والقسطنطينية من أجل توحيد الكنيستين.

سنة 1060: في إطار الإصلاح الذي قامت به الفاتيكان،عقد البابا نقولا الثاني مجمعاً كبيراً أقرّ به أنّ حقّ انتخاب البابا محصورٌ بالكرادلة فقط...

       أمّا البابا غريغوري السابع، فقد قام سنة 1073 بما عُرِفَ بالإصلاح الغريغوري، حيث حرم السيمونية وزواج رجال الدين واتّخاذ خليلات والتقليد العلماني. وأهمّ ما أصدره، هو المرسوم الذي عُرِفَ بالأوامر البابوية، وفيها جرّد جميع السلطات الدينية والعلمانية من أيّة حقوقٍ ولم يبقِ إلاّ إسم البابا وحده وإرادته.

       إبتداءً من سنة 1071، حيث انتصر الأتراك السّلاجقة على بيزنطيا التي تراجعت عن آسيا الصغرى، إبتدأت سلسلةٌ من مراحل الانحطاط العسكري والسياسي والاقتصادي، ستؤدي بعد أربعة قرون إلى سقوط بيزنطيا سنة 1453م.

        في إيطاليا، شنّ النورمنديون حملةً عبر البحر الأدرياتيكي على شواطئ المقاطعات البيزنطية 1081-1085، وكان لتأييد روما لهذا الغزو نتائج على العلاقات مع القسطنطينية، حيث ردّ الأمبراطور ألكسيوس كومنين بإقفال الكنائس اللاتينية في القسطنطينية.

       في عام 1088، جاء البابا أوربان الثاني الذي قام بفتح حوارٍ ودّيٍّ جديدٍ، وظلّت القضية الأساسية هي الفيليوك، بينما القضايا الثانوية في الطقوس كالمعمودية والخبز، أم في التنظيم الكنسي كزواج الكهنة والصيام واللحية والخواتم الذهبية والألبسة وأكل اللحم. كما اقترن إسم البابا أوربان الثاني بالحركة الصليبية في أوروبا التي بشّر بها وخطّط لها سنة 1095. هذه الحروب الصليبية كانت نقطة تحوّلٍ خطيرةٍ ليس في تاريخ العلاقات بين بيزنطيا والبابوية فحسب، بل في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب بشكلٍ عامٍ على الصعيد المسيحي وعلى الصعيد المسيحي الإسلامي.

 الدكتور أندريه كحاله

منشورات هيئة الثقافة السريانية

يتبع

 

 *           *           *           *           *


 

[1] الملك البربري كان اسمه "اودواكر"، وآخر أمبراطور غربي كان اسمه رومولوس أوغوستول.

[2] من روما إلى رافينا.

[3] المطران ميشال يتيم: تاريخ الكنيسة الشرقية، منشورات المكتبة البولسية.

[4] حيث تمّ أيضاً إعلان الكاثوليكية دين الدولة الرسمي في إسبانيا أيام الملك الإسباني ريكاريد الأول.

[5] المطران ميشال يتيم، تاريخ الكنيسة الشرقية، منشورات المكتبة البولسية.

[6]  بطريرك القسطنطينية كان اسمه كيرولاريوس، والأمبراطور إسمه قسطنطين مونوماخوس

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها