عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

كتابات الدكتور شارل مالك بعنوان "الكثير المطلوب"

((شارل حبيب مالك (1906م - 1987م) سياسي ودبلوماسي ومفكر لبناني أرثودكسي. شارك في صياغة وإعداد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ديسمبر 1948 بصفته رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة انذاك. شغل منصب وزير خارجية لبنان بين نوفمبر 1956 وسبتمبر 1958، ومنصب وزير التربية و الفنون الجميلة من نوفمبر 1956 حتى أغسطس 1957 في حكومة سامي الصلح في عهد الرئيس كميل شمعون. ترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة بين عامي 1958 و 1959. ساهم في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية في تأسيس الجبهة اللبنانية وكان من أبرز منظريها مع الدكتور فؤاد أفرام البستاني. و قد كان الوحيد بين أقطابها الذي لا ينتمي إلى الطائفة المارونية. توفي في بيروت في 28 ديسمبر 1987م بعد صراع مع مرض السرطان.))

- الجزء الرابع

أُعطيَ الموارنة بكركي. بكركي مركز روحي فريد في الشرق الأوسط.

أُعطيَ الموارنة بكركي. بكركي مركز روحي فريد في الشرق الأوسط. الكل يتطلعون الى قيادته وتوجيهه. باستطاعة هذا المركز الكبير جمع شمل الموارنة وأكثر من الموارنة. أثره يُلمس إذا تحرك، وقد يُلمس أكثر إذا لم يتحرك، أو إذا تحرك بما لا يتكافأ مع قدر التحدي. أما نجاعة التحرك فتتوقف على العيش على مستوى لحظة التاريخ الحاسمة. لا يكفي مجرد الحفاظ على الرعية والأعراف والتراث، لا يكفي مجرد البقاء والاستمرار. الحاسم اليوم وعيُ الحركات المصيرية الصاخبة في العالم وعيًا مسؤولاً تامًا، وتوظيفُها، أو توظيف ما أمكن منها، في سبيل التراث والبقاء.

أما الحركات المصيرية الصاخبة فتشمل بالطبع ما يوجبه تطور الكنيسة الكاثوليكية منذ المجمع الفاتيكاني الثاني، وأقوال البابا وتوجيهاته ، لكنه يتعدى ذلك الى ما هو أوسع منه بكثير. يتعداه الى التطور الواقع والمتطور في الحركة المسكونية المسيحية، وفي الحركة المسكونية بين المسيحية وغيرها من الأديان. يتعداه الى نزعات العصر الفكرية والكيانية، الى الأيديولوجيات الثورية المجتاحة العالم، الى استيعاب مغزى التطور "المتطور" الهائل في الإقتصاد والمجتمع والسياسة والعلوم والتكنولوجيا الذي قلب كل قياس وكل حسبان سابقين رأساً على عقب، والى دقائق ما هو جار وسيجري في سياسات الشرق الأوسط وسياسات العالم، مما قد يحتم إعادة النظر في كل شيء ألفناه وظننّا انه أبدي. باستطاعة بكركي، مادياً ومعنوياً، أن ترعى باسمها قيام مؤسسة تنظر، بشكل محترم عالمياً، في جميع هذه الشؤون، مؤسسة تصبح مع الزمن ثقة يحج إليها أرفع السياسيين والمفكرين في لبنان وفي غير لبنان. وإذا أقدمت بكركي على هذا الأمر، فستجد تشجيعاً وعوناً من قبل هيئات كثيرة في العالم.

بكركي من الأهمية بحيث إذا خرِبَ لبنان وبقيت هي سليمة معافاة قوية، ماسكة بيد من حديد بزمام دعوتها التي أُنيطت بها أزليًا، فباستطاعتها وحدها أن تعيد تعمير لبنان. أما، لا سمح الله، إذا خربت بكركي أو وَهَنت أو حلّ بها سقم ما، فلبنان وحده لا يستطيع إغاثتها كي تستعيد عافيتها وتبني ذاتها من جديد. وإذا كان لبنان خرِبًا فقد لا يستطيع أن يُعمِّر نفسه بنفسه إذا كانت بكركي أيضًا خرِبة. أي مؤسسة أخرى في لبنان يصح فيها هذا القول؟ وإذا قدرنا ماذا يعنيه لبنان تاريخيًا وعالميًا، تجلّى لنا مركز بكركي الفريد، وتِبعَتُها العظمى، في لبنان وفي العالم.

أما أسباب تفرُّد بكركي بهذا المركز العظيم فتعود الى طبيعة المارونية والموارنة، والى تاريخهم وتمركزهم في هذا الجبل، والى مجتمعهم المتلاحم المتراص، والى تنظيمهم المدني والكنسي. كل من هذه العوامل يستدعي بحثاً خاصًا مستفيضًا. بكركي مؤسسة حتم إفرازها تاريخ الموارنة، وطبيعتهم، وخبرتهم الكيانية، ومعاناتهم ومعاناة مسيحيي هذا المشرق الصاخبة المأساوية عبر الأجيال، المعاناة التي لم تستقرّ يومًا، وقد يكون قدرها أن لا تستقر أبدًا.

إذا شاءت العناية أن تمثِّل بكركي دورها المرسوم، وإذا استجابت بكركي لهذه المشيئة، فباستطاعتها أن تكون العامل الحاسم في مصير لبنان وفي مصير أكثر من لبنان. هذا الدور الحاسم يستدعي منتهى الحكمة والحزم والإقدام والتضحية والتواضع. وعلى أية حال، فإن الموارنة أعطوا بكركي، وهي شيء كثير، ولذلك يُطلب منهم ومن بكركي الكثير.

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها