عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

كتابات الدكتور شارل مالك بعنوان "الكثير المطلوب"

((شارل حبيب مالك (1906م - 1987م) سياسي ودبلوماسي ومفكر لبناني أرثودكسي. شارك في صياغة وإعداد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ديسمبر 1948 بصفته رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة انذاك. شغل منصب وزير خارجية لبنان بين نوفمبر 1956 وسبتمبر 1958، ومنصب وزير التربية و الفنون الجميلة من نوفمبر 1956 حتى أغسطس 1957 في حكومة سامي الصلح في عهد الرئيس كميل شمعون. ترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة بين عامي 1958 و 1959. ساهم في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية في تأسيس الجبهة اللبنانية وكان من أبرز منظريها مع الدكتور فؤاد أفرام البستاني. و قد كان الوحيد بين أقطابها الذي لا ينتمي إلى الطائفة المارونية. توفي في بيروت في 28 ديسمبر 1987م بعد صراع مع مرض السرطان.))

أعطي الموارنة تراثاً آرامياً سريانياً عريقاً.

 

أعطي الموارنة تراثاً آرامياً سريانياً عريقاً. يربطهم هذا التراث تاريخياً وثقافياً ودينياً بمتبقيّات الحضارة الآرامية العظيمة في هذا المشرق التي تشمل بين الأحياء: الآشوريين والسريان والكلدان والنساطرة واليعاقبة وغيرهم.

 إنها حضارة من أهم حضارات المشرق.

يكفي أن تكون الآرامية، لغة الطقس الماروني، هي اللغة المحكية في فلسطين في عهد المسيح، وأن تكون لغة المسيح بالذات؛ يكفي أنها كانت اللغة الدولية (lingua Franca) بين بلدان الشرق الأوسط منذ نهاية القرن الثامن قبل المسيح، قبل اليونانية وقبل اللاتينية وقبل العربية فيما بعد؛ يكفي أن يكون إنجيل متى، أول الأناجيل الأربعة، وُضع أصلاً بالآرامية وتُرجم من الآرامية الى اليونانية بشكله اليوناني المتداول اليوم؛ يكفي أن تكون الترجمات السريانية للكتاب المقدس (Posfilla) من أولى ترجماته وأن تكون المراجع الأساسية اليوم لفهم كثير من نصوصه وتفسيرها؛ يكفي أن تكون هذه الترجمات هي المعتمدة اليوم من جميع الكنائس السريانية، بما في ذلك الكنيسة النسطورية وكنيسة الطبيعة الواحدة (Monophysite)؛ يكفي أن نقول أفرام وإسحق السريانيين، وأن نتذكر أثر الأول الهائل على المسيحية العالمية وأثر الثاني، على الأقل، على الروحانية الروسية؛ يكفي أن يكون المدعي بانه ديونيسيوس الأريوباغي (Pseudo-Dionysius)؛ (راجع أعمال الرسل 17: 34)، الذي يُرجح انه عاش في شمال سوريا في أواخر القرن الخامس بعد المسيح، والذي بالرغم من الغموض التام الذي يكتنف هويته، وبالرغم من ان كتاباته كانت أصلاً كلها باليونانية، فأثر الأفلاطونية الجديدة وأثر ذوي الطبيعة الواحدة (Monophysite) واضحان في تآليفه، وقد تُرجمت تآليفه منذ البداية الى السريانية، واعتمدها السريان والأرثوذكس الشرقيون، وبعدهم الأرثوذكس الروس، في عبادتهم ولاهوتهم وصوفيتهم، وفي تصورهم لمراتب القوات غير المرئية، وأثره في التصوف واللاهوت الغربيين، وبالأخص توما الأكويني، وفي الصوفية الألمانية المتوسطة، التي نبعت منها الفلسفة الألمانية منذ أكهارت ولايبتز، اثر حاسم جداً؛ يكفي أن يكون أثر الآرامية واضحاً ومعترفاً به في بعض أسفار العهد القديم التي وُضعت قبل السبي، بينما في سفر أستير وسفر الجامعة، وفي بعض المزامير، نمط التعبير في الغالب آرامي؛ يكفي أن تكون أقسام من سفر دانيال وسفر عزرا غير متوفرة في أصولها إلا في اللغة الآرامية؛ يكفي أن يكون الآراميون هم الذين أنشأوا الكتابة في شمال الجزيرة العربية، وذلك قبل أن وضع عرب تلك المناطق نظام كتاباتهم بقرون عدة.

الحضارة السريانية الآرامية حضارة عظيمة عريقة. تعرفها وتنقب عنها وتحترمها وتدرسها وتدرِّسها جامعات روسية وألمانية وفرنسية وبريطانية وأميركية. وهي تشكل، فوق ذلك، تراثاً لا يزال حياً (والتراث التراث هو التراث الحي فقط، إذ ما ليس بحيّ هو، طبعاً وبكل بساطة، غير موجود) في مجتمعات حية قائمة في الشرق الأوسط ومنتشرة في العالم. مَنْ أولى من الموارنة بإحاطتها بالاحترام والتكريم والتقدير والدراسة والإحياء؟

إنها معطاة لهم، إنها حية قائمة في صُلبهم. إنهم مسؤولون عنها قبل سواهم، ليس فقط بقصد دراستها تاريخياً نظرياً فضولياً، كما يصنع الأوروبيون والغربيون على العموم، بل بقصد ربطهم، حياتياً وثقافياً وروحياً ـ وهم المجذَّرون فيها ـ بمتبقيّات هذه الحضارة في الشرق وفي الانتشار الحي لها في العالم.

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها