عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

بقلم: نينوس صوما اسعد
سويد ستوكهولم


الموسيقا السريانية الكنسية (الجزء التاسع)

منشأ نظام الألحان الثمانية الكنسية

اوكتوإيكوس / إكاديس

و

منشأ الألحان السريانية واليونانية

منشأ نظام الألحان الثمانية الكنسية

أوكتوإيكوس / إكاديس

إن نظام الموسيقا الكنسية المعروف بنظام النغمات الثمان هو نظام يوناني/ سرياني لأنه من ابتكارهما، فقد ظهر لديهما معاً، وانتظمت طقوسهما بموجبه في الوقت ذاته. لقد كتبنا عن هذا الموضوع سابقاً وبيّنا شيئاً من أسباب ابتكار هذا النظام ودخوله للكنيسة. وبعد إطّلاعنا على آراء العلماء والمصادر التاريخية المتوفرة وخاصة تلك التي تنص بأن أساس نظام النغمات الثمان قد تم على يد القديس البطريرك سويريوس الانطاكي (538م) عندما كان أسقفاً على انطاكيا، ويعود الفضل إليه بأنه أول من وضع نظاماً موسيقياً مبنياً على ثمانية ألحان وتوزيعها إلى أربع ألحان أصلية وأربع ألحان مشتقة.

 ويأتي الحل دوماً بعد حصول المشكلة:

 يبدو أن الوضع اللحني الكنسي في القرون الأولى للمسيحية كانت فيه تعددية بالآراء حول نوعية وطبيعة وصفات الألحان الكنسية المناسبة لصلوات الكنيسة، وظهرت أيضاً آراء مختلفة حول الألحان التي ستقرر والتي سَيٌعَمل بها في الكنسية وذلك بسبب وفرة النصوص الدينية والألحان الكنسية التي كانت كثيرة ومتناثرة هنا وهناك في معظم الكنائس المسيحية، حيث كانت كل كنسية لها بعض الطقوس الدينية المحلية الخاصة بها وكذلك ألحانها الخاصة المختلفة عن الكنائس الأخرى، فكانت الحاجة الماسة الى تنظيم هذه الطقوس بشكل أفضل وإلى تنظيم ألحانها من الناحية الموسيقية.

إرتأى القديس البطريرك مار سويريوس الانطاكي الملقب بتاج السريان والمتأثر بأعمال بمار افرام السرياني الموسيقية وبغنى وإنتشار ألحانه الكثيرة على نطاق واسع، أن يحلّ هذه المعضلة التي عاشها وعايشها ليقطع دابر فوضة إشكاليات الألحان المنتشرة في جسم الكنيسة، فعمد إلى خلق نظام موسيقي رائع للكنيسة وهو نظام النغمات الثمان ليكون أساساً لتوحيد النصوص والألحان الكنسية والطقوس.

 ملاحظة: يصرح علماء كنيسة الروم الشرقية بأن القديس سويريوس الانطاكي هو سرياني آرامي الجنس والهوية بينما ينظر إليه غيرهم على أنه يوناني الأصل.

ومن خلال قرائتِنا في الموضوع استنتجنا بأن منشأ نظام النغمات الثمان كان في انطاكيا والمنطقة الثقافية والكنسية المرتبطة بها، حيث تقررت هناك نوعية النغمات المستعملة وعددها لتكوين هذا النظام، ثم تم العمل على تطويرها خلال التاريخ، لهذا يقال بأن الفضل يعود لانطاكيا في ابتكار نظام النغمات الكنسية الثمان وليس لمكان أخر.

 لكن مراكز الثقافة السريانية، وخاصة الرها، لم تكن بمنأى عن الموضوع، فالرها وانطاكيا قطبان مترابطان ومتداخلان في بعضهما البعض في معظم الأمور الكنسية واللغوية والثقافية، فمن انطاكيا انطلقت الكنيسة الناطقة اليونانية ومن الرها انطلقت الكنيسة الناطقة الآرامية.

وكان آباء الكنيسة في مدينة انطاكيا يؤلفون النصوص الكنسية باليونانية ومنها بالسريانية، وفي مدينة الرها كان الآباء الكنسيون السريان يؤلفون بالسريانية وقليلاً باليونانية، وكانوا يقومون بترجمة النصوص اليونانية الى السريانية التي ألِفَت في انطاكيا ودمشق وحمص وغيرها وفي المدن اليونانية، وترجمة النصوص السريانية الى اليونانية مثل أشعار قديسنا مار افرام.

 لكن يبدو لنا بأنه كان هناك نظامان متشابهان لنغمات الألحان الكنسية، وليس نظاماً واحداً كما هو مسلّم به، وهما موضوع مقالنا، فالأول أبتُكِر لألحان الكنيسة اليونانية، والآخر لألحان الكنيسة السريانية. والنظامان مختلفان عن نظام النغمات الفارسي الإثني عشري الذي شرحنا عنه في مقالنا سابقاً:

فالأول هو النظام النغمي اليوناني المسمى باليونانية "اوكتوإيكوس أو الاكتويخوس Ectoechos"، أي نظام الألحان الثمانية، لخدمة طقوس الكنيسة اليونانية / البيزنطية، ونتكلم هنا فقط عن النظام الموسيقي لكنيسة الروم الشرقية.

أما الثاني فهو النظام النغمي السرياني المسمى باليونانية إكاديس Ekadis، أي الألحان الثمانية، لخدمة طقوس الكنيسة السريانية.

هناك نظام آخر ثالث معتمد في اوروبا المعروف بالترنيم الأمبروسي أو الغريغوري، ويسمى ايضاً "نظام النغمات الثمان اللاتيني" وهو متطور مباشرة عن النظام البيزنطي الموسيقي للنغمات الكنسية اوكتوإيكوس.

فكما كان نظام الثماني النغمات أساساً للموسيقا الكنسية السريانية و البيزنطية، كذلك هو أساس للموسيقا الكنسية الغربية الاوروبية أيضاً، إذ أن البابا غريغوريوس الأول "540-605 م" هو من وضع نظام ترنيم الكنيسة اللاتينية المعروف بالترنيم الأمبروسي أو الغريغوري، إذ أخذ هذا النظام عن الشرق مستعملاً أسس الموسيقا الكنسية الشرقية المبنية على ألحان ثمانية، وقد عرف البابا غريغوريوس هذا النظام بحكم أنه كان مندوباً عن البابا بيلاجيوس الثاني (590م) في البلاط القسطنطيني قبل أن يصبح أسقفاً ثم بابا روما.

والموسيقا الغريغورية هي الموسيقا الدينية اللاتينية الأبرز في تاريخ المسيحية الغربية وهي ذي ألحان جميلة وكلمات مأخوذة من الكتاب المقدس. وتتميّز ألحان نظام النغمات الثمان اللاتينية بأنها غنائية جادة وأحادية الصوت غير  مرافقة بآلات موسيقية. لن أتطرق لشروحات عن النظام الموسيقي الأمبروسي أو الغريغوري، لأنه ليس من صلب موضوع مقالنا، ولكننا نؤكد من خلاله بوجود نظام النغمات الثمان في الموسيقا الكنسية الأوروبية.

كان قد أدعى البعض بأن منشأ نظام الألحان الثمانية (الشرقي) كان في سومر وآكاد ثم انتقل الى اليونانيين فالسريان، ولكن هذه إدعاءات باطلة وغير صحيحة لعدم وجود إثباتات تؤكد صحتها.

أما الحقائق التي بين أيدينا فتؤكد، كما أوردت في مقالي سابقاً، بأن اليونان والسريان هم الذين اخترعوا نظام الثمانية ألحان في غرب وشمال غرب سوريا التي تقع فيها مدينة انطاكيا وبعض المدن السريانية مثل الرها، والمؤرخ السرياني ابن العبري (1226-1286) يلمح في كتابه الإيثيقون لهذا الأمر، ويؤكده البطريرك العلامة افرام برصوم (1887-1957)  من خلال سرده لسيّر ومؤلفات الآباء الكنسيون في كتابه الشهير "اللؤلؤ المنثور".

 منشأ الألحان الكنسية اليونانية والسريانية

إن منطلق ومنشأ الألحان الكنسية اليونانية، أي تأليف النصوص الدينية ووضع ألحان لها ومن ثم إبتكار النظام النغمي اوكتوإيكوس، كان في مدينة انطاكيا ذات الثقافتين اليونانية والسريانية، وهذا متفق عليه نظرياً لأن الفكرة انطلقت من انطاكيا، لكن مختلف عليه واقعياً، لأن بعض المدن السريانية الأخرى ذات الطابع الثقافي اليوناني وأخرى يونانية، كان لها دورها في نظام الألحان الثمانية وخاصة في وضع أنواع الأناشيد الكنسية اليونانية، وتلحين الكثير من النصوص الدينية.
وتعتبر مدينة الرها السريانية، ذات الثقافة السريانية الممزوجة باليونانية، المركز الأساسي في بناء ومنشأ ومنطلق ألحان الكنيسة السريانية، وثم إبتكار نظام النغمات إكاديس الخاص بالسريان وتطويره وتنظيم ألحانه بالرغم من انطاكيّة فكرته، وهذا أيضاً متّفق عليه نظرياً وعملياً، رغم بروز شخصيات كبيرة في مدن ذات ثقافة سريانية خالصة أو سريانية ويونانية ساهمت في وضع الألحان السريانية وفي خلق قوالب جديدة للألحان الكنسية وفي العمل على تحقيق النظام اللحني السرياني.

إن معظم عباقرة التأليف والتلحين من الآباء الذين كانوا الركيزة الأساسية في وضع ألحان للنصوص السريانية الدينية وفي بناء نظام الألحان الثمان وتنظيم ألحانه ووضع قوالب وأنواع للألحان السريانية الكنسية، إما ولدوا في مدينة الرها أو نشأوا فيها ثقافياً أي درسوا في مدارسها ومعاهدها، أو عاشوا فيها فترات طويلة أو قصيرة من حياتهم.

مثل الفيلسوف الرهاوي المعروف برديصان (222م) صاحب الألحان الأولى على طريقة مزامير داؤد، ومار افرام السرياني النصيبيني (373م) الذي أبدع في ميامره ومداريشه ومؤلفاته الأخرى الكثيرة، ومار اسحق الرهاوي المعروف بمار اسحق الأنطاكي (491م)، ومار رابولا الرهاوي (435م)  صاحب التخشفتات القنشريني المولد الذي كان مطراناً على الرها أكثر من عشرين سنة، ومار يعقوب السروجي (521م)  شاعر الكنيسة وقيثارتها الذي درس في مدارسها ثم أصبح معلماً في معاهدها وأغنى الكنسية والأدب الكنسي بميامره وأدعيته التي تسمى بالطلبات، والعلامة الكبير منظم الطقوس الكنسية مار يعقوب الرهاوي (708م) ومؤلف قسم منها، ففيها تنسك وتعلم وعلم وخدمها كمطران وأبدع في مؤلفاته.

وغيرهم كثيراً من الملافنة الذين عاشوا فيها أو مشوا في دروب عباقرتها من الذين ساهموا بألحانهم ومؤلفاتهم في إغناء التراث الكنسي السرياني.

لماذا كانت أنطاكيا منطلقاً للألحان اليونانية


1- ﻷن انطاكيا كانت عاصمة المسيحية الأولى ومركز الكرسي الرسولي البطرسي.

2.لأنها كانت العاصمة السياسية لسوريا حينها.

3- ﻷنها كانت عاصمة ومركز الثقافة اليونانية والإنتاج الفكري اليوناني.

4- كانت مركز ثقافي يستقطب كبار المفكرين واللاهوتيين المسيحيين من آراميين ويونانيين وغيرهم ممن كانوا يتقنوا اليونانية.
5- فيها تطور الفكر المسيحي وتم صقله على أيدي فلاسفة المسيحية.

إن الأسباب السابقة لا تلغي قط دور المدن السريانية الأخرى ذات الثقافة اليونانية في إنتاجاتها الفكرية ولا دور علمائها من السريان المبدعين في صياغة ألحان ونصوص الكنيسة البيزنطية، خاصة مدينة دمشق التي أنجبت صفرونيوس (639م) صاحب التراتيل اليونانية التي تسمى "طروبارية" والذي أصبح لاحقاً البطريرك صفرونيوس على اورشليم، واندراوس الكريتي (الدمشقي الذي أصبح أسقفا على كريتا فسمي بأندرواس الكريتي 720م) وهو الأب الشرعي للتراتيل التي تسمى "القوانين"، والعبقري الموهوب القديس يوحنا الدمشقي (749م) منظم الموسيقا والألحان اليونانية، الذي ثبّت تقسيم ألحان الكنيسة البيزنطية بتأليفه كتاب "الاكتويخس" للألحان البيزنطية  أي "الألحان الثمانية"، وهو يحوي تراتيل مقسمة حسب الألحان ولكل لحن تراتيله الخاصة. ويُعزى إليه إرساء أسس كتاب "المعزّي" للصلوات اليومية وتأليف وتلحين العديد من تراتيله ولحن " 116 قانوناً" و "454 طروبارية"  و"1531 رمساً"، كما ألف العديد من التراتيل التي تسمى: "ستيشيرات" و "إذيوميلات" و "كاتسماتات" و "قناديق" وغيرها، ووضع لها الحاناً كنسية رائعة ومعبرة بمشاركة مجموعة من الرهبان الدمشقيين القديسين: " قزما الدمشقي" و "اندراوس الكريتي" و "ثيوفانس اسقف ازمير". 

 وكذلك مدينة حمص المتميزة بالعلوم والثقافة التي أنجبت في القرن الرابع العلامة الكنسي "اوسابيوس الحمصي" وفي القرن السادس الميلادي المرنم "رومانوس الحمصي" الذي أشتهر بنوع من التراتيل التي تسمى "القنداق"، كما أنجبت هذه المدينة أيضاُ شخصيات كبيرة منهم أباطرة حكموا الإمبراطورية الرومانية.

 وكانت هناك أيضاً مساهمات أخرى جادة في تأليف النصوص والألحان اليونانية من مدن سريانية ثانية ذات الثقافة اليونانية خاصة المدن التي كانت واقعة على البحر المتوسط من مدينة اللاذقية وحتى غزة. وكذلك من مدن يونانية أو لاتينية ذات ثفافة يونانية واقعة اليوم في العمق التركي واليوناني، حيث كانت لها مساهمات ثقافية ودينية كبيرة مثل القسطنطينية وغيرها، ساهمت في إرساء قواعد وقوانين المسيحية الأولى.

لماذا كانت الرها منطلقا للألحان السريانية

1- لأهمية مدينة الرها السريانية الآرامية في الثقافة السريانية والكنيسة السريانية، حيث كانت المملكة الأولى التي أعلنت مسيحيتها كدولة، في زمن الملك "ابجر الخامس" الذي حكم (4 - 50 م) حسب التقليد المتداول.
2- لأن الرها كانت عاصمة الثقافة السريانية آنذاك

3- ﻷن الرها كانت تملك مدارس عظيمة ترعرع فيها الفكر المسيحي، بل يعود الفضل لها في صقل الفكر المسيحي في بداياته.
4- ﻷن الرها أنجبت العلماء الاوائل من فلاسفة وشعراء ومفكرين سريان وآباء مدافعين عن الدين في العصور المسيحية الأولى، أو صقلت موهبتهم الفذة من خلال دراستهم في مدارسها، فأغنوا المكتبة المسيحية بإنتاجاتهم الفكرية.

وهذا لا يعني تغييب المدن السريانية العريقة الأخرى في الإنتاجات الفكرية الكنسية من فلسفة وأشعار وقصائد وألحان، أو دور علمائها وآبائها الآخرون من الذين أغنوا المكتبات السريانية والعالمية بمؤلفاتهم المتعددة في جميع نواحي الحياة، التي ساهمت في تكوين أو بلورة الفكر الإنساني من ديني ومدني معاً، مثل "قنشرين" و "نصيبين" و "حران" وغيرها.
ألحان كنيسة المشرق السريانية

إن الكنيسة السريانية الشرقية التي مركزها العراق "بفرعيها  اليوم الكلداني والآشوري" تحوي ألحاناً قديمة جداً ورائعة أدخلها الآباء الأولون لطقوس الكنيسة، وهي من تلك التي تم تأليفها وتلحينها في "مملكة الرها" وفي المدن السريانية الأخرى التي كانت تسبح في فلكها، عندما كانت الكنيسة السريانية المسيحية واحدة قبل أن تحصل الإنشقاقات فيها لأسباب سياسية تاريخية ولأفكار تفسيرية لاهوتية.

اذ أن ألحان الكنيسة السريانية الشرقية القديمة هي فرع من الطقس القديم لمدينة الرها السريانية الذي هو انطاكي ورهاوي المنشأ، لكن تم تأليف وتلحين وتطوير للطقوس والألحان بعد ذلك في العراق ومناطق أخرى على أيدي علماء وآباء كنسيين كبار وأجلاء، ذكروا في كتب التاريخ الكنسي.

وقد أطلعت شخصياً على قسم صغير من ألحان الكنيسة السريانية الشرقية من خلال إستماعي لها، ومن خلال حضوري قداديس في الكنيستين الكلدانية والآشورية بفرعيها.

وكما ذكرت سابقاً بأننا ننتظر من أبناء الكنيسة السريانية الشرقية بفرعيها الكلداني والآشوري، أن يكتبوا عن ألحان كنيستهم ليطّلعوا القرّاء الكرام والمهتمين على الكنوز الموسيقية الأصيلة التي تحويها، وتعرّفهم على تفاصيل ألحانها وعلى ملحنيها العباقرة، وليُستَفَاد من القوالب والأنواع الموسيقية التي تحويها.

لأن جميع موسيقيي شعبنا يغردون خارج السرب السرياني في عصرنا هذا، ولا أستثني نفسي من ذلك بالطبع، ويسبحون في أفلاك موسيقات الأمم الأخرى مثل الفرس والترك والكرد والعرب والهنود، وخاصة الموسيقا الأوروبية.

وتحياتنا لكم

  الجزء  العاشر

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها