لموسيقا السريانية الكنسية
(الجزء الأول)
مقدمة عامة:
رغم العنوان الشامل لمقالنا هذا "الموسيقا االسريانية الكنسية"، إلا أننا
نعالج فيه فقط موسيقا الكنيسة السريانية الارثوذكسية
الانطاكية دون التحدث عن موسيقا الكنائس السريانية الأخرى، على أمل ان يقوم
البعض من أبناء التراث الموسيقي السرياني الخاص بالكنائس السريانية الأخرى
بالكتابة عن موسيقا كنائسهم السريانية هنا ليكتمل الموضوع.
ويعالج مقالنا موضوع موسيقا "الكنيسة السريانية الارثوذكسية" في نشأتها
وتطورها وسلمها الموسيقي ونظامها اللحني، ونصحح فيه بعض المفاهيم الخاطئة
والمتداولة بين السريان من مثقفين وغيرهم، والتي تراكمت مؤخراً بينهم
وقبلوها كمسلمات دون أن يجهدوا أنفسهم للتأكد من صحتها والبحث عن حقيقتها،
وخاصة فيما يتعلق بنظام الكنيسة
اللحني وسلمها السباعي وآداء الالحان.
لكن
قبل ان ندخل أروقة الموضوع لا بد من وقفة عامة عند بعض النقاط والتعابير
الموسيقية العامة لنشرحها ونقدمها للقارىء الكريم وثم ندخل في صلب موضوعنا
أي الموسيقا الكنسية السريانية.
وكل ما ساقدمه هنا من
جديد
حول الموسيقا الكنسية السريانية مبني على ملاحظاتي، وكل المعلومات المطروحة
هي على الأغلب من إستنتاجاتي الشخصية التي توصلت اليها من خلال خبرتي
العملية في المجال الموسيقي الكنسي، بالإضافة
الى ما اطلعت
عليه من أبحاث العلماء في الموسيقا الشرقية، ومنها ما قدمه لنا العلامة
السرياني غريغوريوس
ابن
العبري (1226-1286) من دراسة حول الألحان الكنسية،
وما كتبه البطريرك اغناطيوس افرام الأول برصوم
(1957-1887)
في كتابه الشهير "اللؤلؤ المنثور" عن هذا الموضوع.
فمنذ عشرين سنة وأنا مهتم بالموسيقا
الكنسية وأتعاطى معها بشكل عملي في الكنيسة السريانية الارثوذكسية في
ستوكهولم كمعلم لجوقتها ومرافق لإنشادها في العزف. لذلك أتقبل كل نقد أو
إضافة من الضليعين بالموضوع برحابة صدر.
ومن خلال درسي وعزفي للأناشيد الكنسية، قمت بإعادة طريقة غناء الكثير من
هذه الأناشيد السريانية إلى طبيعتها اللحنية الأساسية مرتكزاً على الصفات
الإنسانية لألحانها، وأسسها الكنسية الدينية الصحيحة، كمحاولة لإعادة جوهر
الألحان الى أصولها وغاياتها الدينية.
خاصة تلك التي وصلت لنا وفيها بعض التناقض بين طريقة آداء اللحن والمضمون
الديني للنص الغنائي. وكذلك قمت بإعادة آداء الألحان الكنسية إلى شرقيته
وسريانيته الصحيحة في الإنشاد الجماعي (من قبل الجوقة) وفي الإنشاد الفردي
(من قبل المنشد والمؤدي)، للخروج من عباءة الآداء الغربي الذي يفرض نفسه
وبقوة على غناء معظم الجوقات السريانية في الشرق والغرب.
وقمت أيضا بمحاولات لإستنباط السلالم الموسيقيه الصحيحة لقسم من الألحان
بطريقة توزيع الكومات على سلمها السباعي. وبتجارب صغيرة في ضبط أوزان
إيقاعات بعض الأناشيد، بطريقة متابعة مجموعة الضغوط المتواجدة في اللحن، مع
الإحتفاظ بهيكل اللحن وجوهره وعدم المس بمجرياته وأهدافه.
ولإستعمال تعابير صحيحية ودقيقة في
مقالنا، أفضل إستعمال الكلمات: ألحان وأناشيد وتراتيل، عوضاً عن كلمة
موسيقا التي تعني اليوم العنصر النغمي المجرد من الغناء، وهذا الأمر سيبرز
بكثرة في الأجزاء الأخرى القادمة من المقال.
أما مقالنا هذا فيضم ثلاثة مواضيع
أساسية: فالأول هو مقدمة عامة للموضوع عن ماهية الموسيقا، والثاني هو عن
الموسيقا السريانية ونظام الألحان الكنسية وأصله، والثالث عن منشأ الألحان
الكنسية والفرق بين النظامين السرياني واليوناني. وكل موضوع يقسم الى عدة
أجزاء صغيرة سنناقشها بموضوعية، وسننشرها تباعاً في سلسلة من المقالات.
مدخل
إلى الموسيقا
والموسيقا كلمة يونانية مشتقة من اسم ربة الغناء اليونانية "موسا" ، وهي
"لغة" يُعبر بواسطتها عن أحاسيس ومشاعر الإنسان وفكره، ويستخدمها في معظم
مجالات حياته. وتتولد من الأصوات الصادرة من الطبيعة والإنسان والحيوانات
والطيور والآلات الموسيقية وغيرها، لكن الموسيقا
بمفهومها الفني السامي هي إنتاج فكري إبداعي راق
يتطرق لمواضيع عقلانية بحتة كالقدر أو
صراع الخير والشر، أو الهزيمة والإنتصار، أو يترجم ما يختلج في نفس الإنسان
من شعور وما في قلبه من أحاسيس إلى موسيقا، كالحب والكراهية أو الفرح
والألم وغيرها.
ويمكن أن يؤثر هذا الإنتاج الفكري على السامع ويولد في أعماقه الكثير من
المشاعر المختلفة مثل السعادة والحزن.
وتتكون الموسيقا من عنصرين جوهريين هما الصوت والزمن:
أما الصوت
فينشأ من إهتزاز ذرات الأجسام الرنانة، ويُسمع صداه بواسطة الأثير. وينتج
من تركيب طبقات الصوت المتآلفة لحن ما، قد يُغنى أو يُعزف بواسطة الآلات
الموسيقية.
أما الزمن فهو مدة مكوث الصوت وإستمراريته، وله قياسات دقيقة جداً تستعمل
في النوطة الموسيقية. ويتم تدوين الصوت والزمن على السلم الموسيقي بإستخدام
علامات موسيقية معينة، مع مفاتيح خاصة وأوزان مناسبة لعزفها أو لغنائها
لاحقا.
والموسيقا من العلوم الموزونة التي تعتمد على النظام ووحدة الحركة والسكون.
وهذا العلم الموزون مبني على قواعد الصوت وضوابط الزمن، ويستند إلى قياسات
وموازين كثيرة ودقيقة للغاية مختلفة ومتنوعة، ويبحث في ترتيب وتعاقب
الأصوات المختلفة في الدرجة وفي تآلف الأصوات وتناسبها، بحيث تكون متفقة
ومنسجمة غير متنافرة، كي تتركب منها نغمات تستسيغها الأذن أثناء العزف
والغناء والتلحين.
كما أن هذا العلم يبحث في تنظيم وتركيب النغمات والعلاقات فيما بينها، وفي
تركيب أوزان الأنغام والإيقاعات والأشعار.
وهناك علم في الموسيقا يُعرف بعلم تكوين (بناء) السلالم الموسيقية وإستخراج
النغمات من قاعدة الدوران الموسيقية العجيبة (دائرة الرابعات والخامسات
لإستخراج علامات التحويل المسماة دييز: الرافعة نصف درجة موسيقية، وبيمول:
الهابطة نصف درجة موسيقية)، وبناء السلالم عن طريق جمع الأجناس الموسيقية.
وأخيراً يتم تحويل المعرفة والموهبة الموسيقية في هذا المجال إلى صناعة
حقيقية تسمى بصناعة الموسيقا لتنفيذ
الأعمال الموسيقية من قبل موسيقيين محترفين في الاستوديوهات، أو في عرضها
أمام الجمهور بواسطة اوركسترات موسيقية في صالات فخمة، وقد ترافقها كورالات
محترفة ومغنيين أوبراليين في حالة الموسيقا الغربية. وأما في الموسيقا
الشرقية فتكون مغناة في معظمها، ليستمتع بها الإنسان أو لتحاكي مشاعره
وهمومه النفسية.
وقد قيل في الموسيقا مقولات جميلة للغاية من بعض مشاهير التاريخ ومنهم:
كونفوشيوس (479-551 ق.م): حيث قال: "إذا أردت أن تتعرف على رقي بلد ما، وما
يحفظه من مدنية، فأنظر الى موسيقاه".
ومنهم أيضاً الفيلسوف اليوناني افلاطون (428-348 ق.م) بقوله: "الموسيقا جزء
هام من ثقافة المجتمع"، وكذلك: "علمنا الإختبار أن نؤسس تهذيب الناشئة على
تعليمهم الموسيقا لأنها تربي العقل، وعلينا أن نعالج العقل بالموسيقا أولاً
ثم نفوض إليه المعالجة المختصة بالجسد".
وقال الفيلسوف السرياني غريغوريوس ابن العبري (1226-1286م): "الموسيقا غذاء
للروح".
وأجمل ما قاله الأديب السرياني اللبناني جبران خليل جبران (1883-1931 م):
"الموسيقا كالمصباح تطرد ظلمة النفوس وتنير القلب وتطهر أعماقه".
لكم كل المحبة
الجزء الثاني |