هل خلاص المسيحيين المشارقة هو في ذوبانهم و إنكار هويتهم؟
موضوع
مهم بنظرنا و لا شك بنظر أكثرية ساحقة من المسيحيين الذين
تعود جذورهم الى شرقنا الحبيب .
سأحاول أن أشرح بدقة بعض الكلمات
المهمة قبل معالجة هذا الموضوع الحساس
.
أولا - جغرافية شرقنا الحبيب التاريخية
:
هنالك
عدة مفاهيم خاطئة حول تعبير " الشرق " الجغرافي التاريخي
!
و أغلبيتها إنتشرت في القرن التاسع عشر بعد إهتمام الدول الأروبية
في تاريخ شرقنا الحبيب و أطماعهم الخبيثة في خيراته
.
أ-
هنالك فكرة رائجة و هي أن الشرق هو الولاية الإدارية أسورستان
الفارسية و قد تبنى الحزب القومي السوري هذه الفكرة ونشر تعبير"
سوريا الكبرى "!
و طبعا هذه تسمية سياسية خاطئة و ليست تسمية
تاريخية لشرقنا الحبيب!
للأسف لا يزال كثير من المسيحيين المشارقة
يخلطون بين تسمية سياسية و تسمية تاريخية و عدد كبير لا يزال يتوهم
أن " سوريا الكبرى " هي تسمية تاريخية حقيقية!
ب -
لقد
تبنى العروبيون تسمية حديثة و هي " الهلال الخصيب " !
و بكل تأكيد هذه ليست تسمية تاريخية و لكنها تسمية خاطئة من القرن
التاسع عشر تدعي بوجود وحدة جغرافية و سياسية تجمع العرب سكان
شبه الجزيرة العربية مع شرقنا القديم .
يروج العروبيون هذا التعبير لأنه
يخدم إيديولوجيتهم التي تدعي أن شبه الجزيرة العربية و شرقنا القديم
كانتا موحدتين و أن العرب كانوا من سكان الشرق الأصيلين
!
ج - ما هو أقدم ذكر لتسمية الشرق و ما هي
جغرافيته ؟
*الأشوريون
و الكلدان من بعدهم لم يستخدموا تسمية واحدة للإشارة
الى الشرق القديم و طبعا لم يستخدموا لفظة " الشرق " في كتاباتهم
.
و نفس الملاحظة الى الفرس فإنهم لم يستخدموا تسمية جغرافية موحدة
لكل الشرق و هذا واضح من تسمياتهم الإدارية فهنالك مرزبانة أسورستان
و مرزبانة بابل و مرزبانة العربية (شبه الجزيرة العربية)!
*لقد
وجدنا في المصادر اليونانية القديمة إنها إستخدمت بكثرة تعبير
"
الشرق " كتسمية جغرافية و لكن من أجل الدقة يجب الإشارة الى أن
تعبير " الشرق " و إن كان جغرافيا فهو ظل مبهما لا يشير الى
منطقة جغرافية محددة
!
*الرومان
هم أول من إستخدم تعبير " الشرق " كتسمية جغرافية
محددة و قد أخذوه من قدامى اليونانيين و ليس من تسميات شرقية
قديمة كسوريا الكبرى أو سوريا الطبيعية الحديثتين
!
د - تسمية " الشرق " في الإمبراطورية
الرومانية و عند إنتشار المسيحية.
لقد
أطلق الرومان تسمية " الشرق " على جميع المناطق التي كانت خاضعة لهم في
شرقنا و هي العراق القديم و سوريا القديمة و بيت نهرين
(
الجزيرة السورية ) و كيليكيا و إيصوريا !
و طبعا بلاد مصر كانت
خاضعة للرومان و لكن تسمية " الشرق " لم تكن تشملها !
فقد كانت
تؤلف ولاية رومانية مستقلة ... و يبدو أن الرومان قد تركوا ولاية فلسطين
مستقلة عن ولايتي مصر و الشرق و إن كانت خاضعة عسكريا لحاكم
إنطاكيا عاصمة الشرق
!
لقد تقلص الحكم الروماني بعد الحكم الساساني الذي أبعدهم من مناطق
عديدة من العراق القديم !
و كان المسيحيون المشارقة المتحدرين من
السريان الآراميين خاضعين الى الإمبراطورية الرومانية في المناطق غربي
الفرات و في بيت نهرين / الجزيرة ( شرق الفرات ) بينما
كان المسيحيون في العراق القديم خاضعين للحكم الساساني
.
بعد مجمع خلقيدونيا سنة ٤٥١م تقرر ضم فلسطين الى ولاية
الشرق !
و
نحن نعلم من خلال الوثائق الجغرافية المتعلقة ببطريكية
إنطاكيا
ما هي المناطق التي كانت ضمن " الشرق " ( أنظر الى الخريطة التاريخية
المرفقة (.
بعض
الملاحظات المهمة
*إن
الرومان قد أزالوا التسمية الإسرائلية التاريخية القديمة و أطلقوا
تسمية فلسطين الإدارية الجغرافية على المنطقة .
علما أن التسمية
التاريخية فلسطو كانت تطلق على منطقة غزة الساحلية فقط
!
*لقد
أطلق الرومان تسمية " العربية السعيدة " على المناطق الواقعة
شرقي نهر الأردن و كانت هذه المنطقة آرامية بسكانها و لغتها لأنها
كانت مسكونة لمئات السنين بالأنباط الآراميين
!
*للأسف
الشديد بعض الباحثين مثل المؤرخ أسد رستم كانوا يؤكدون
أن بطريركية إنطاكيا كانت يونانية و عربية و سريانية بسكانها!
وللأسف
هذا الرأي هم مخالف للحقيقة التاريخية و قد توهم كثيرون
من المسيحيين المستعربين أن شبه الجزيرة العربية كانت ضمن بطريركية
إنطاكيا و ضمن شرقنا الحبيب
!
*للتذكير
فقط أن سكان العربية السعيدة كانوا من الأنباط الآراميين الذين إستعربوا مع
الزمن !
فبطريركية إنطاكيا لم تكن عربية بسكانها و العنصر اليوناني كان في بعض
المدن و في مناطق كيليكيا الأولى و الثانية و إيصوريا
!
*دمشق
كانت العاصمة لمنطقة فينيقيا الثانية : هذا لا يعني أن سكان دمشق كانوا من
الفينيقيين لأننا نعلم أن هذه المدينة كانت آرامية قبل الرومان و بعدهم
بمئات السنين !
التسميات الإدارية لا تغير هوية الشعوب
!
ثانيا
- من هم المسيحيون المشارقة و ما هي هويتهم التاريخية ؟
سؤال
مزعج جدا خاصة للمسيحيين الذين يتوهمون أن هوية المسيحي الذي يعيش في لبنان
هي مخالفة لهوية المسيحي الذي يعيش في العراق أو سوريا !
و بكل تأكيد هذا السؤال هو مزعج جدا لكل مسيحي شرقي لا يزال يتوهم أن له
جذورا عربية و أن من حقه الطبيعي أن يدعي بعروبيته !
و للأسف بعض رجال الدين لا يزالون يدعون بأن المسيحيين هم عرب بدون برهين
علمية !
أ
- إمتداد تسمية مسيحيين مشارقة لتشمل إخوتنا الأرمن و الأقباط
.
لقد
توسع معنى الشرق في المفاهيم الحديثة و صار يشمل – حسب المفاهيم الأوروبية
- مصر و إيران و شبه الجزيرة العربية و القوقاز...
أغلبية ساحقة من المسيحيين المشارقة تعتبر الشعب الأرمني و القبطي من
المسيحيين المشارقة و هذا أمر طبيعي لأن مفهومنا لتسمية الشرق قد تطور في
التاريخ الحديث !
و لكن من أجل الدقة فإن " الشرق " هو المنطقة التي كانت خاضعة لسلطة
بطريركية إنطاكيا .
ب - هذا الموضوع ليس موجه الى السريان الذين
يؤمنون بإيديولوجيات
سياسية
حديثة مزيفة لهوية أجدادهم مثل السريان الذين يرددون بدون تحقيق أن جذورهم
هي أشورية !
هذه الإدعاءات الكاذبة تسمح لبعض السريان المستعربين في المضي بترديد
طروحات عروبية غير علمية
!
ج - المسيحيون المشارقة ينتمون الى الكنائس
الإنطاكية التاريخية التي إستقلت و إنفصلت عن كنيسة إنطاكيا و بطركيتها و
هم ينتمون بأكثريتهم الساحقة الى السريان الآ راميين
.
د - لقد إنقسم السريان الى سريان شرقيين نسبة
الى نهر الفرات و الى سريان غربيين !
و بعد اعلان الإمبراطور ديوكلسيان البيزنطي أن الديانة المسيحية هي الدين
الرسمي في امبراطورته , عمد الفرس الى مضايقة السريان المشارقة مما أجبرهم
على الإستقلام عن بطريركية إنطاكيا
.
من المؤسف أن أتباع الكنيسة السريانية الشرقية قد إنفصلوا و أسسوا عدة
كنائس مع تسميات كلدانية و أشورية حديثة و صار أتباع تلك الكنائس يدعون
بهويات أشورية و كلدانية و بعض المتطرفين منهم صاروا يدعون بوجود لغات
أشورية و كلدانية قديمة و حديثة!
( للتذكير لا يوجد لغة أشورية و كلدانية لا قديمة و لا حديثة ... السريان
المشارقة يتكلمون اللغة السريانية المعروفة بالسورث و لكن تطرفهم يدفعهم
الى تسميتها أشورية و كلدانية...
(
هؤلاء
الإخوة هم أسرى مفاهيمهم الخاطئة و لعلى البرهان الذي يوضح لنا مفاهيمهم
الخاطئة هو القديس مار افرام السرياني الذي ولد في مدينة نصيبين عاصمة بيت
عرباي الآرامية ( بعض رجال الدين السريان لا يزالون يدعون بجذور عربية
لأنهم يتوهمون أن تسمية بيت عرباي تشير الى العرب القدامى !)
في بداية القرن الرابع و لكنه أجبر الى هجر مدينة أجداده و إنتقل الى الرها
بعد سقوط نصيبين بيد الفرس سنة ٣٦٣ م!
الشيئ المؤلم أن القديس افرام الذي لقب بالسرياني هو أنه كان يعتبر جميع
المسيحيين المشارقة ينتمون الى الآراميين و لا زلنا نرى بعض المتطفلين و
المغامرين يعتبرون مار افرام أشوريا أو كلدانيا حسب مفاهيمه الخاطئة
!
المصادر
السريانية الشرقية تؤكد بشكل قاطع أن جميع مسيحيي العراق كانوا يؤمنون
بأنهم سريان آراميين و لكن رجال الدين المعاصرين المنتمين الى هذه الكنائس
السريانية لا يملكون شجاعة الأب المؤرخ البير أبونا الذي يؤكد إنتمائهم
الآرامي في كتبه و أبحاثه العديدة
!
ه - المسيحيون في بلاد سوريا / بلاد آرام
القديمة و الجزيرة / بيت نهرين يتحدرون من الآراميين فهذه المناطق كانت
آرامية بسكانها بأكثر من ١٥٠٠ سنة قبل إنتشار الديانة المسيحية بينهم
!
و - نحن من خلال رابطة الأكادميين الآراميين
( ننتمي الى عدة كنائس سريانية أرثودكسية و كاثوليكية ) دعونا في الماضي
الى إعتماد التاريخ الأكاديمي للعودة الى جذورنا الحقيقية !
و هذه الدعوة موجهة الى كل مسيحي مشرقي يريد معرفة جذوره التاريخية
الحقيقية !
ز - المسيحيون المشارقة ينتمون بأكثريتهم
الساحقة الى السريان الآراميين !
إخوتنا من أبناء كنيسة الموارنة و الروم هم أحفاد السريان الملكيين الذي
تبعوا تعاليم مجمع خلقيدونيا بعكس السريان الأرثودكس الذين ناهضوا تعاليمه
!
ح - لقد كانت منتشرة فكرة خاطئة في بداية
القرن العشرين مفادها أن الشعب السرياني و القبطي و الأرمني كانوا يكرهون
الشعب اليوناني و أرادوا الإستقلال من إمبراطوريتهم البيزنطية الظالمة!
و لكنني عندما سافرت الى فرنسا لإعداد أطروحة في جامعة السوربون " حول
الأسباب الحقيقية لإستقلال الكنيسة السريانية الآرامية المناهضة لمجمع
خلقيدونيا"إكتشفت
أن السريان لم يناضلوا ضد اليونانيين من أجل أسباب قومية و لكن من أجل
أسباب عقائدية و أن الشعب السرياني قد إنقسم الى قسمين في بطريركية إنطاكيا
أي في شرقنا الحبيب :
*
"السريان الملكيون " الذين حافظوا على تعاليم مجمع خلقيدونيا !
وهم أبناء كنائس الروم و الموارنة و فيما بعد الروم الكاثوليك و الإنجليين...
"
*السريان
المناهضون" و هم السريان الأرثودكس و فيما بعد السريان الكاثوليك و السريان
الإنجليين !
ملاحظة صغيرة إن تأكيدنا أن هويتنا التاريخية هي سريانية آرامية لا تعني
إننا ندعو بإنتمائنا الى عرق آرامي صافي !
لأننا نعلم جيدا إن بقايا شعوب عديدة قد إنصهرت و ذابت ضمن الآراميين
أجدادنا !
ثالثا
- هل الإدعاء بجذور عربية مزيفة هو خشبة خلاص المسيحيين المشارقة ؟
للأسف الشديد بعض المسيحيين المشارقة , يعيشون في مناطق مسيحية أو تركوا
شرقنا الحبيب , لا يشعرون أبدا بما يعاني المسيحي الذي يعيش في العراق أو
سوريا أو مصر و بعض الأحيان يوجهون
"
نصائح مضحكة " من نوع " إذا كنت تريد أن تكون سريانيا أصيلا أترك كل شيئ
تملكه في أرض أجدادك في العراق و سوريا و إذهب و قاوم مثل المسيحيين في
لبنان !"
المضحك في هذه النصيحة هو أنها تدعو الى إقتلاع الوجود المسيحي في الشرق
من أجل تقويته في جزء منه و هو لبنان !
للأسف أن على " مسيحيي لبنان " المثقفين أن يتعلموا من تجاربهم و ضياعهم
لهويتهم التاريخية كي يساعدوا مسيحيي الشرق في الحفاظ على مناطقهم
التاريخية !
المضحك أيضا أن مسيحيي لبنان ليسوا " مستعدين " لقبول مسيحيي الشرق
المضطرين الى هجره
!
لقد وجدنا في الآونة الأخيرة أن عددا كبيرا من رجال الدين المسيحيين
يجاهرون علنا - و بدون حياء - أن جذورهم هي عربية أو أن المسيحيين يتحدرون
من العرب!
يرددون طروحات تاريخية غير علمية حيث يخلطون فيها تاريخ القبائل العربية
المسيحية قبيل إنتشار الإسلام و تاريخ الغساسنة المسيحيين!
و في جميع الحالات لا يذكرون شيئا عن تلك القبائل المسيحية العربية بعد
الإسلام !
سؤال مطروح هل المسيحيون المشارقة و رجال الدين منهم على الأخص يتوهمون أن
" الإدعاء " بوجود مسيحيين عرب اليوم يخدم الوجود " المسيحي " في الشرق؟
الغاية لا تبرر الوسيلة و كل رجل دين من أية كنيسة كان يدعي بوجود مسيحي
عربي هو ناكر لجذور أجداده!
قد يكون من حقه أن يكون " مسيحيا مستعربا " أو ناطقا باللغة العربية و لكنه
لا يحق له أن يزيف هويتنا السريانية الآرامية التي إذا لم يسمع بها فهو
لأنه متطفل على تاريخ الشرق
!
المسلم العربي لا يستطيع أن يكون " أصيلا " عندما يكون محاطا-
لا سمح الله - ببعض السريان و الأرمن و الأقباط الذين يؤكدون له خوفا منه
بأنهم عرب أقحاح !
الإدعاء بوجود هوية عربية مسيحية ليس خشبة خلاص المسيحيين المشارقة بل هو
الموت لهم بالتقسيط و على مراحل
!
العودة الى جذورهم التاريخية هو خشبة خلاصهم لأنه رفض صريح للعروبة المزيفة
و رغبة حقيقية في الحفاظ على هويتهم في كل مكان في العالم
!
الى الكهنة الذين يتجاهلون هويتهم التاريخية عن غباء و يتوهمون أن قول
المسيح " كونوا ودعاء كالحمام و حكماء كالحيات " لا يشفع بهم عندما يتنكرون
لهوية أجدادهم من أجل مراضاة أية سلطة!
الشجاعة الحقيقية هي الدعوة الى دراسة أكادمية لهوية مسيحيي شرقنا الحبيب
و ليس في تسريع ذوبانهم في العروبة و إلصاق الهوية العربية غير العلمية في
تاريخ أجدادهم !
|