عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

   الأب جورج رحمه الراهب السرياني الماروني من بلدة عيناتا-الأرز


رسالة  مارا بن سرابيون الى ابنه سرابيون

الآرامي 

سلام مارا بن سرابيوان الى سرابيون ابني. عندما كتب إليّ أستاذك ومربيك، وأطلعني أنك على صغر سنك مثابر على الدرس، حمدت الله انك وأنت حدث صغير بغير مرشد خارجي قد بدأت بداية طيبة، فكان ذلك عندي مطيّباً لخاطري أن أعلم عنك أيها الغلام الصغير هذا العقل الكبير والنجابة العظيمة، التي يصعب أن تبقى عند الكثيرين، لهذا كتبت إليك هذه الرقعة عما استفدته من العالم/ فقد تتبعت حياة الناس ، وقطعي في العالم شوطاً فوجدت أن التعاليم اليونانية كلها قد تحطمت عند ميلاد الحياة، فاحترس إذاً يا بني مما يصلح للأشراف، وفكر في الكتاب. وابحث عن الحكمة ، فكر كذلك في تثبيت ما بدأت به وتذكر أوامري  بانتباه، وكن كالرجل الهادئ الذي يحب النظام، فالنظام وإن بدا لك شديد المرارة يصبح عندك عذباً حيثما تتبعه زمناً قصيراً، وهذا هو نفس ما حدث لي.

   أما الإنسان فإنه عندما يرتحل عن أهله، ويتمكن من الإحتفاظ بعاداته، ويعمل كل ما يجب عليه بدقة، فإنه بذلك يكون الرجل المختار الذي تحل عليه بركة الله، ولن يوجد من يشبهه في نبله، فان أمثال هؤلاء الناس الذين يدعون الى النظام يريدون ان يتخلصوا من نضال الزمن. والذين يتمسكون بالحكمة يتعلقون بالأمل في العدل، والذين يقيمون الحق يظهرون مستوى فضائلهم، والذين يهتمون بالفلسفة يفكرون في الهرب من بؤس هذا العالم.

   اما انت يا بني فتدبّر هذا كله بحكمة، كرجل كريم يريد أن يحيا حياة نقية، وإياك أن تغريك  الثروة التي يتعطش إليها الكثيرون، واجعل همّك اشتياق الثروة غير الحقيقة، فان الناس لا يتوقفون عندما يحصلون على أمانيهم، حتى ولو ثبتوا على صلاحهم وجميع هذه الأشياء التي تظهر لك في العالم كأنها حلم يتلاشى بعد فترة، فإنها مدَّ الزمن وجزره.

  و أنت لا تفكر في الخيلاء، التي تملأ حياة الناس على أنها شيء من الأشياء التي تُفرحنا، فإنها تعجل لنا الألم وبخاصة ولادة أبناء المحبوبين. وواضح في كلا الحالين أن في ذلك أذلّ لنا، وحب الخير كريه إلينا، ولكنا مدفوعون إلية بالعادة، ونحن نتعب في إصلاح المذنب ونحزن من جرّاء رذائله. وقد سمعت عن أصدقائنا، اأهم لما غادروا  " سلمسصات" حزنوا وقالوا كأنهم يلومون الزمن: "لقد أُعدنا من بين قومنا، ولا سبيل إلى العودة إلى مدينتنا لرؤية اهلنا واستقبال آلهتنا بالتسبيح، كان الأجدر بذلك اليوم أن نسميه الحسرة، فقد استولى عليهم جميعاً على السواء همّ واحد ثقيل، كانوا على أجوانهم، ويألموا لفراق خطيباتهم.

   ولما سمعنا بنبأ أصحابهم الأولين الذين ذهبوا الى سلوقيا، استرقنا إليهم الطريق وأضفنا إلى همومنا، فاشتدّ همنا معاً عندئذ، وازداد بكاؤنا حقاً على ضياعنا وجمعت الظلمة الحالكة حسرتنا، ومنذ حين ونحن نضيق بالهموم حتى لم يستطع احد منا أن يدفع همومه التي تراكمت عليه، أخذ يتدافع إخواننا وأبناءنا أسرى، وتذكرنا رفقاءنا الذين ماتوا و دفنوا في غير أرضهم كما اهتم كل امرىء منا بنفسه، حتى لا تتراكم عليه كارثة فوق اخرى او تدرك فيه المصيبة سابقتها.

ولكن مذا يجني قوم محبوسون اعتادوا على ما هم فيه؟!

   اما انت ايها الحبيب ، فلا تحزنك أن تدفع بك وحدتك من مكان إلى مكان، فلهذا ولد الناس لكي يتقبلوا صروف الزمن، ولتعلم أن كل أرض عند الحكماء سواء، وأن الصالحين يجدون بكل مدينة كثيراً من الآباء والامهات، فلتأخذ لك من نفسك موغظة، فما أكثر الناس الذين لا يعرفونك. ولكنهم يحبونك كأبنائهم، وما أكثر النساء اللاتى يستقبلنك كأنك حبينهن، فما نجحت إلا لأنك غريب، و لا اشتدت محبة كثير من الناس لك إلا لأنك صغير.

مذا تقول الآن عن الخطيئة التي حلت بالأرض وبالعالم الذي تؤدي اليه، ونحن نرتجف من حركاته كما يهتز الغاب على أيدي الريح، وإني لأتعجب من كثيرين ممن يطرحون أبناءهم ، ودهشت لغيرهم ممن يربون غير اولادهم وفي العالم قوم يقتنون الثروة، وآخرون أدهشني أن ليس لهم من يرثهم، هكذا يدبر وانظر إن الضالين يسيرون في طريق الخيبة هذا.

 قال لنا حكيم الناس: على أي المقتنيات يعتقد الانسان، أو على أي الأشياء يتحدث، على أنها هي الأكثر تحملاً؟ على كثرة الثروة؟ فإنها عرضة للنهب. أو على الحصون؟ فإنها مستباحة. او على المدن؟ فإنها عرضة للتخريب. أو على العظمة؟ فإنها عرضة للإذلال. أوعلى الكبرياء؟ فإنها محطّمة. أو على الجمال؟ فإنه  ذابل، أو على القوانين؟ فإنها زائلة. أو على الفقر؟ فإنهه مُحتقر، أو على البنين؟ فإنهم يموتون. أو على الأصدقاء؟ فإنهم كاذبون. أو على الشرف فإن الضغينة تسبقه. ومن هنا فليفرح بملكه رجلٌ  كدارا  وبثرائه رجل كيلوقراطس، وبشجاعته رجل كأخيل ، وبإمرأته رجل كأجاممنون، أو بنفسه رجل كبريانوس أو بمهارته كأرخميدس ، أوبحكمته رجل كسقراط أو بعلمه رجل كفيثاغورس أو بذكائه رجل كيولوميدس، فحياة الناس يابني زائلة عن العالم، أما مجدهم وفضائلهم باقية إلى الأبد.

أما أنت أيها الإبن الصغير فاختر لك شيئاً لا يبلى، فإن الذين يتحلّون بتلك الصفات متواضعون ومحبوبون، وهم جديرون بلقب "الطيب" وإن لقيك شر فلا تلُم الناس ولا تغضب على الله ولا تأسف على زمانك فإنك إن اقمت على هذا التعقل فلن يكون جزاؤك الذي تلقاه من الله قليلا، ذلك الجزاء الذي لا  يعتمد على  ثروة ولا هو قريب من الفقر. فدبّر حياتك بغير خوف لكي تفرح حيثما تريد فإن الخوف والإعتذار الطبيعي ليس من شيمة الحكماء، وإنما هما شأن الذين يسيرون بغير قانون. فإن الانسان لا يُجرد من حكمته أبداً كما يُجرد من أملاكه، فجِد وراء المعرفة أكثر من سعيك إلى الثراء.  فكلما ازدادت الثروة كذلك تكثر الرذيلة، فلقد رأيت أنه أينما تكثر الحسنات كذلك تقابلها السيئات، وحيث تتزاحم المسرات فهناك أيضاً تتجمع السيئات، وحيث تكثر الثروة فهناك ايضاً مرارة السنوات الكثيرة، فاذا فهمت ذلك ووعيته بدقة ما تخلى الله عن عونك، ولا انفكّ الناس عن محبتك. يكفيك ما استطعت اقتناؤه ، فإن أمكنك أن تعمل بغير مقتنيات فإنك حينئذ تلقب  "بالطيّب" لأن احداً لن يحقد عليك وتذكّر أيضاً : انه لن ينغص حياتك شيء إلا ما تقتنيه، فلن يسعى أحد بعد موته. رب أملاك، وإن القوم الضعفاء يُذلون من أجل الشغف بهذه الأملاك، وهم لا يعلمون أن الإنسان إنما يقيم في أملاكه كعابر سبيل. وهم – خوفاً من عدم بقاء هذه الاملاك - يتركون مالهم ويطلبون ماليس لهم.

وأي شيء آخر يجب ان نقول عندما يُساق الحكماء بالقوة على ايدي الظالمين وُتحاسب حكمتهم بتهمة باطلة ، ويُظلم ذكاؤهم بغير دفاع، فماذا جنى الآثينيون من قتل سقراط؟ لقد اصابهم الموت والوباء عقاباً لهم، او ماذا جنى اهل ساموس من احراق فيتاغورس؟ لقد غطت الرمال ديارهم كلها في ساعة واحدة.

او ماذا جنى اليهود من قتل ملكهم الحكيم؟ لقد ضاع ملكهم منذ ذلك الزمن نفسه. لقد عوض الله حكمة هؤلاء الثلاثة:

   فان الآثينين ماتوا حينما جاعوا ، وغطّى البحر اهل ساموس، فلم يستطيعوا له دفعاً، و حلّ الخراب باليهود وطُردوا من مملكتهم، وتشتتوا في كل مكان، لم يمت سقراط ، بل بقي في شخص افلاطون، ولم يمت فيتاغورس ايضاً من اجل تمثال هارا، وكذلك لم يمت الملك الحكيم من اجل الشرائع الجديدة التي وضعها.

أما انا يابني فقد جريت على أي بؤس فظيع يقوم الناس، وتعجبت من ان الشرور التي تحيط بهم لم تتلغب عليهم، بل ولم تكفهم الحروب ولا الأمراض ولا الموت ولا الفقر، ولكنهم كالحيوانات الشرهة يقتل بعضهم بعضاً في عداوة ويتسابق كل منهم في الحاق اكبر قسط من الشر بصاحبه، لقد جاوزوا حدود الحق،  وتخطوا جميع النواميس الجميلة لأنهم يتلقون بشهوة انفسهم، طالما كان الانسان راغباً فيما يروقه، فكيف يسنطيع ان يفعل بحق مايجب عليه؟ والناس لا يعرفون الاعتدال، وقلما يمدون ايديهم الى الحق والفضيلة، ولكنهم يعيشوت عيشة الصمّ العمي، أما الحمقى فيفرحون، و أما الصالحون فيجزعون، و الذي عنده فكر والذي ليس له يبذل جهده ليملك، فالمساكين يسألون، والأغبياء يخفون، وكل واحد يضحك من صاحبه، فالمخمورون مخبولون، والذين أفاقوا نادمون، فمنهم من يبكي، ومنهم من يغني، وآخرون يضحكون وغير هؤلاء قد اضطربت عقولهم يفرحون بالسيئات، ويهجرون الرجل الذي يقول الحق. إن الانسان ليتعحب من ذلك، فحينما يتحطم العالم باحتقار لا يكون للناس وسيلة واحدة للحياة، ومع ذلك فانهم بهذا يعتنون، يتطلع المرء منهم متى سيتلقى تهنئة النصر في المعركة، و لا ينظر الشجاعات من اجل كمّ من الرغبات الحقيرة بذل المرء في هذا العالم. ولكني ارجو ان يصيب الندم قليلا هؤلاء الذين ينتصرون بقوتهم ويخورون امام شرههم ، لقد جربت الناس وهكذا جربتهم، إنهم يتطلعون إلى شيء واحد هو كثر الثراء، ومن اجل هذا لا يستقر لهم رأي ولكنه يختلف باختلاف عقولهم، فان الناس يتحطمون بسرعة عندما يلتهمهم الألم ولا يتطلعون إلى ما في العالم من ثراء واسع، فان اختلاف الرأي ينتهي بنا جميعاً على السواء إلى كل تعب،لأن همّ الناس تكبير بطونهم ، وهي الرذيلة التي بها يتم الفساد.

لقد كتبت لك هذا الذي جال بخاطري ، ولا يكفي ان تقرأه، ولكن يجب أن تقدم العمل عليه، وإني اعلم ايضاً انك عندما تتعود طريقة الحياة هذه فانها ستسرك كثيراً، وتكون منزهاً عن الاحتقار الدنيء، فاننا من اجل الابناء نتحمل الغنى، فتخلى اذا لا ينتج فائدة، لأنه لا حيلة لنا ولا سبيل إلى شيئاً، وادفع عنك الخبل الذي لا ينتج فائدة، لأنه لا حيلة لنا ولا سبيل إلى تلافي السيئات وتحمل الاحزان الني يلقانا بها الزمن دائماً بيديه. والأفضل ان ننظر إلى هذه الأشياء، وليس إلى تلك المليئة بالفرح وحسن الاحدوثة، فادفع نفسك إلى الحكمة معين كل الخيرات والكنز الذي لا ينفذ، وعندما فاسند رأسك واسترح، لأنها ستكون لك حقاً الأب والأم والرفيق الطيب في حياتك، ولتألف المثابرة والصبر، فانها هي التي تستطيع ان تواجه يأس الضعفاء من الناس، فتشد من ازرهم لكي يتحملوا الجوع، ويصبروا على العطش ويرفهوا كل حزن، ويتحدثوا عن التعب والموت، فتدبر ذلك كله لتقضي حياة هادئة، وتكون قرة عين لي، وتدعي زينة واليه ان قوماً كثيرين قد وُصموا بألفاظ جارحة، اما نحن فقد جعلنا الزمن يعتقد اننا تقبلنا من عظمته على التساوي حباً مناسباً وجمالا. ولكن الزمن قد رفض ان يتم هذه الأشياء المنقوشة في عقولنا.

   ونحن هنا ايضاً في الأسر نحمد الله اننا تقبلنا حب الكثير ينفقد رُضنا ابفسنا على أن تقوم على الحكمة والسرور، فاذا ساقنا احد بالقوة فهو انما يقوم الشهادة على نفسه انه بعيد عن كل الطيبات وليتقبل الخزي والعار من هدف نجس للعار.

اما نحن فقد اظهرنا صدقنا اننا لا نقصد شراً بمملكة، فاذا سمح الروم لنا بالعودة إالى ديارنا بالعدل والصدق فليفعلوا ذلك كقوم رحماء، وسننعتهم بالطيبن الصالحين، وسيكون الاقليم الذي يقيمون فيه في امن، فليظهروا عظمتهم بتركنا احراراً، فلتطع الملكة التي منحنا الزمن إياها، على ان لا ُتساق كما يسوق الظالمون العبيد، فان قُدر ان يقع شيء، فلن يصيبنا ماهو اكثرمن الموت الهادىء المقدر لنا.

اما انت يا بني: فاذا اردت أن تعلم هذه الأشياء بعناية فاحكم الشهوة اولا، وقدر جرم ما انت قائم به، واحذر أن تغضب، واستمع للخير بدلا من الغضب، فاني الآن افكر في ذلك، لعلي حينما اعود إلى نفسي أن أترك لاك  كتاباً، وانجز بعقل حكيم ذلك الطريق الذي اساق اليه، فانجو بغير حزن من خراب الدنيا الفظيع، فاني اصلي لكي افنى ولا يهمني أي موت ، فاذا حزن احد علي ، او حمل نفسه أية مشقة، فاني انصح له ألا يفعل ، فانه سيجدنا امامه هناك في طريق العالم.

خطاب مار بن سرابيون أثرت الثقافة اليونانية علي الآرا مية لا سيما في الطبقة المثقفة فيها، فاستعمل الآراميوان من جراء ذلك في كتاباتهم المصطلحات اليونانية. .إن هذا التأثير يبدو واضحاً في الخطاب الذي أرسله مارا بن سرابيون من سجنه الى ابنه سرابيون. ويظهر من هذه الرسالة ان مارا كان من مدينة شميشاط وانه كان وثنياً من أصحاب الفلسفة الرواقية ومن أتباع زينون وقد زج به الرومان في السجن بتهمة اشتراكه في حركة مناوئة لحكمهم. ويرى العالم الانكليزي كيورتون "Cureton  " ان مارا كتب هذه الرسالة بالآرامية في فترة تترواح مابين نهاية القرن الأول ونهاية القرن الثاني الميلادي. وقد قدّر لهذه الرسالة البقاء ، لأن فيها اشارة الى السيد المسيح الذي يسميه الكاتب "الملك الحكيم" ويذكره الى جانب سقراط وفيثاغورس ويقول في سياق حديثه: "... ماذا جنى  اليهود من قتل مليكهم الحكيم؟ لقد ضاع ملكهم منذ ذلك الزمان نفسه، وحل الخراب بهم وطردوا من مملكتهم وشتتوا في كل مكان .. لم يمت الملك الحكيم من أجل الشرائع الجديدة التي وضعها..."

من أقواله الماثورة:

حياة الناس زائلة من العالم، أما مجدهم وفضائلهم فباقية الى الأبد.

همّ الناس تكبير بطونهم ، وهي الرذيلة التي بها يتم الفساد.

إني أضحك على الزمن الذي يردّ اليَّ ما لم يستعره مني من قبل.

وُلد الناس لكي يتقبلوا صروف الزمن ، وكل الأرض عند الحكماء سواء، لأن للصالحين في كل مدينة كثيراً من الآباء والأمهات.

سلسلة احياء التراث الآرامي السرياني

الدكتور الأب جورج رحمه وا متري وهبة

بيروت لبنان

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها