عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

   الأب جورج رحمه الراهب السرياني الماروني من بلدة عيناتا-الأرز


مارون الناسك.

090204

     يُعتبر القدّيس مارون "زينة خورس القدّيسين الإلهيّين"، كما يقول تيودوريتوس القورشيّ. فقد ورد في كتابه "تاريخ أَصفياء الله"، في الفصل السادس عشر ما يلي:

    "كان، حُبّاً بالحياة تحت قبّة السماء، قد اتّخذ له رابيةً كانت، في الماضي كريمةً لدى قومٍ من الكافرين، حيث كان هيكلٌ للشيطان. فحوّل ما فيه إلى عبادة الله ثمّ ابتنى لنفسه صومعةً حقيرةً يلجأ إليها في ظروفٍ نادرة. وكان لا يكتفي بممارسة الأَتعاب الشّاقّة، بل كان يفطن أَيضاً لجذب الكثيرين إلى المزيد من أَعمال الفلسفة. وكان الذي يكافىء على الأَتعاب يغمره بالنعمة "([1]).

     وأَمّا عن موهبة الشفاء عنده فيقول:

    "ومن ثمّ فإنّ موزّع الخيرات بسخاء كان يُغدق عليه موهبة الأَشفية حتى ذاع صيته في كلّ مكان واستجلب إليه الجموعَ حيثما وُجدوا. ونظراً لشهرته هذه، كان في أَثناء عمله يُرشدهم إلى التعليم الحقّ. فكان يرى الأَوبئة تزول بندى بركته والشياطين يهربون وكلّ أَنواع الأَمراض المختلفة تُعالَج بدواءٍ واحد، فإن الذين يتعاطون الطبّ يُعالِجون كلّ داء بدواء خاصّ، أَمّا صلاة القدّيسين فهي علاج عام للأَسقام كلّها "([2]).

     أَمّا بصفته معلّم نسّاك القورشيّة وأَبوهم، فيقول أَيضاً:

    "وكان لا يكتفي بشفاء عاهاتِ الجسد فحسب، بل كان أَيضاً يأتي للنفوس بالعلاج المفيد، شافياً هذا من داء البُخل، وذاك من الغضب، مانحاً هذا التعليم المؤدّي إلى الحكمة، وواضعاً لذاك الارشادات إلى الفضيلة، مروّضاً ميوعة هذا ومنعشاً ذاك من كسله. ولمّا كانت هذه هي الصبغة التي أَضفاها على حقله، فقد جعله خصيباً بالكثير من غروس الفلسفة. فكان هو نفسه الزارع لله في جوار قورش ذلك الفردوس المزهر"([3]).

     هذا الوصف للقدّيس مارون من قبل أُسقف القورشيّة يؤكّد على أَنّه كان صاحب هذه المدرسة، التي أَعطَت قدّيسين كباراً، سنأتي على ذكر الكثيرين منهم في هذا الفصل. فهو أَوّل من عاش في العراء، مع القديس يعقوب الكبير(+402)،  بعد أَن ترك مدرسة ليبانيوس في أَنطاكية، حيث درس مع صديقه القدّيس العظيم يوحنا الذهبيّ الفمّ، وكَفَرَ ببهرجات العالم وأَراد أَن يكرّس حياته لله كلّياً. والذي يؤكّد على ذلك الرسالة التي بعث بها الذهبيّ الفمّ من منفاه إلى مارون، حوالى سنة 404-405 مسيحيّة، طالباً صلواته ودعاءاته، معبّراً عن المودّة التي ربطتهما يوم كانا تلميذين في أَنطاكية يرشفان العلم على مقاعد الدراسة. ولقد جاء في الرسالة ما يلي:

    "إلى مارون الكاهن الراهب، وبعد فإنّنا مرتبطون بك بعلاقة الصداقة والمودّة ونتصوّركَ كأَنّكَ حاضرٌ لدينا لأَنَّ عين المحبّة لا يصدّها بُعد الطرقات الشاسعة ولا يُضعفها طول الزمن. وكنّا نودّ أَن نكاتبك مرّاتٍ كثيرة ولكن مشقّاتُ الطرقات وعدم وجود مَن يسير نحوكم منعنا عمّا نتمنّاه من مراسلتكم. فنحيّيكَ بالسلام مؤكّدين لكَ أَنّنا نتذكّركَ دائماً وأَنّكَ نازلٌ في فؤادنا أَينما كنّا. فاهتمّ إذاً أَيضاً بأَن تُكثر لنا من أَنباء صحّتك، لأَنّه ولو كنّا من حيث الجسد بعيدين فيسرّنا كثيراً أَن نسمع شيئاً عن عافيتك. وتنالنا من ذلك سلوى كبيرة وإن كنّا مُقيمين في البراري. وتطيب نفسُنا إذا علمنا أَنّكَ حائزٌ مزيد العافية. ونسأَلك قبل كلّ شيء أَن تقدّم الصلوات من أَجلنا"([4]).

 

    هذه الرسالة تختصر ما كان عليه القديس مارون من قداسةٍ شعّت في منطقة سوريا الشماليّة، امتداداً إلى أَنطاكية ولبنان وبلاد سوريا والشرق قاطبةً بحيث أَنّ مَثَلَه في التنسّك وفي المدرسة التي أَوجدها لاقت إقبالاً من الذين كانوا ينفرون من بهرجات العالم ويريدون أَن يكرّسوا ذواتهم لله تعالى، شهادةً للمسيح الفادي والمخلِّص. فالحياة الرهبانيّة التي عاشها آباؤنا السريان بفَرْعَيها الجماعيّ والنسكي الإفراديّ، أَبناء المدرسة الأَنطاكيّة، التي خرج منها مارون وتلامذته، كانت تبغي الكمال، كمال الكائن الإنسانيّ، كما كمال الشخص البشريّ، وباختصار كمال الإنسان. والكمال الذي شدّد عليه مارون وآباؤنا السريان، من خلال الحياة النسكيّة، هو الكمال الإنسانيّ المطلق البالغ أَقصى حدوده، وأَسمى درجاته، وأَشمل مداه. وهذا الكمال المطلق حسب النظرة المسيحيّة الشاملة، وخصوصاً حسب آبائنا السريان، لا يتمّ بدون تأليه الإنسان. هذا التأليه يعني تداخلاً بين جوهر الإنسان والجوهر الإلهيّ بحيث يُصبح الله حاضراً في قلب الإنسان حضوراً حقيقيّاً فعليّاً حسب قول المسيح. وهذا التأليه هو أَيضاً نتيجة عهدٍ أَو ميثاقٍ بين الله والإنسان. أَمّا دور الإنسان في هذا الميثاق فهو أَن يُحِبَّ الله ويَحفظ كلمته "إن أَحبّني أَحدٌ يحفظ كلمتي"، ودور الله أَن يأتي إلى الإنسان ويسكن فيه "وأَبي يُحبّه وإليه نأتي وعنده نجعل مُقامنا".

    فدور الإنسان يتحقّق بالصليب أي التضحية بالذات: "ما من حُبٍّ أَعظم من هذا وهو أَن يبذل الإنسان نفسه عن أَحبّائه"([5]). ودور الله يتمّ بالنعمة التي تمنحنا إيّاها الأَسرار التي رسمها المسيح لتأليه البشر بقوّة الفداء. وحضور الله في الإنسان هو حضورٌ فعّال يُغيّر الطبيعة البشريّة ويؤلّهها، مُشركاً الإنسان، نوعاً ما، بالطبيعة الإلهيّة والجمال الإلهيّ:

    "وَهَبَت لنا قوّته الإلهيّة كلّ ما يؤول إلى الحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا بمجده وفضيلته وبه وَهَبَت لنا المواعيد العظيمة الثمينة لكي تصيروا بها شركاء في الطبيعة الإلهيّة"([6]).

    فبلوغ الإنسان أَقصى حدٍّ وأَسمى درجة من الاشتراك بالطبع الإلهيّ والجمال الإلهيّ على هذا النحو هو الكمال بنظر الفلسفة المسيحيّة والإيمان المسيحيّ. وهذا الكمال هو غاية الحياة المسيحيّة بوجهٍ عام والحياة الرهبانيّة والنسكيّة بوجهٍ خاص. فلفظة "راهب" ولفظة "رهبانيّة" في اللغة العربيّة هي مشتقّة من "رَهَبَ" بمعنى خاف. ولم تكن هذه اللفظة ولا أَيّة لفظة أُخرى بمعناها تُستعمل في الأَصل للدلالة على طريقة الكمال المسيحيّ. ولكنّ الطريقة كانت تُدعى فيلوصوفيا Philosophia، أَي محبّة الحكمة، وأَتباعها "مُحبّو الحكمة" Philosophos بمعنى العابدين الأَتقياء. فهاتان اللفظتان مثلاً يستعملهما تيودوريتوس القورشيّ، الذي كتب عن مار مارون وتلامذته، وسائر المؤرّخين.

    ولبلوغ الكمال نشأَت المدارس الرهبانيّة والنسكيّة منذ بدايات المسيحيّة. وازدهرت هذه المدارس أَو الطرق خاصةً إبتداءً من القرن الثالث وكان أَهمّها المدرسة المصريّة الصعيديّة، والمدرسة الميزوبوتاميّة (ما بين النهرين)، ومدرسة سوريا الشماليّة التي منها مدرسة مار مارون والمدارس الأُخرى.

    من أَبطال المدرسة المصريّة الصعيديّة القديس أَنطونيوس الكبير (250- 356م) ممثّل النسك الإفراديّ، والقديس باخوميوس (292-362م)، مؤسّس الحياة الرهبانيّة الجماعيّة في مصر. ومن أَبطال المدرسة الميزوبوتاميّة ومؤسّسيها (ما بين النهرين أَو العراق حاليّاً) مار أُوون أَو أُوجين أَو أَبون (+343م)، ومار يعقوب النصيبينيّ (+338م)،  ويوليانوس سابا (+367م)، الذي ابتدأَ بممارسة الحياة النسكيّة حوالى سنة 315م في مغارة بجوار الرها (أُورفا)، ومن تلامذته أستاريوس الذي بنى ديراً في جنداروس البعيدة عن أَنطاكيا أَربعين كيلومتراً لجهة الشمال الشرقيّ. كذلك أَيضاً أَفراهاط الفارسيّ الأَصل الذي انقطع إلى النسك في بادىء الأَمر في ضواحي الرها وانتقل إلى أَنطاكيا حوالى السنة 361م.

    ومدرسة سوريا الشماليّة متّصلة أُصولها وجذورها بالمدرسة الميزوبوتاميّة لا بالمدرسة المصريّة إذ إنّ أَوّل دير ظهر في تاريخ سوريا الشماليّة هو دير القديس أستيريوس في بلدة جنداروس. هذا الدير أَسّسه تلميذ الناسك القديس يوليانوس سابا الذي ابتدأَ بممارسة النسك سنة 317م في مغارة بجوار الرها وزار أَنطاكية سنة 365م. وكون الحياة الرهبانيّة في سوريا الشماليّة استمدّت أُصولها من التيّار الميزوبوتاميّ لا المصري، أَمر يؤكّده الباحثون الاختصاصيون كتشالنكو Tchalenko وشفيتز Shiwietz. يقول تشالنكو:

    "بينما كانت سوريا الجنوبيّة (فلسطين) تتأَثّر بالمدرسة الرهبانيّة المصريّة، كانت سوريا الشماليّة تتبع خطّاً مستقلاً ويبدو أَنّ الخميرة أَتت من الأُوسروان (منطقة الرها) التي كانت آنذاك مركزاً نشيطاً للنسك... إنَّ أَقدم دير في إقليم أَنطاكيا أَي دير جنداروس على الطريق المتّجهة من الرها إلى أَنطاكية، أَسّسه في آخر أَيّام قسطنطين الكبير أَستيريوس تلميذ يوليانوس سابا الناسك الأُوسرواني الشهير. وكذلك يبدو أَنّ العلاقات مع الأُسروان كان لها التأثير الرئيسيّ"([7]).

    ولنا عودة إلى طريقة مار مارون النسكيّة وتلامذته بعد الكلام على معلّمه في الحياة الروحيّة والنسكيّة القدّيس يعقوب الكبير أسقف نصيبين.


[1]- المرجع ذاته، الفصل السادس عشر، مارون الناسك، ص145.

[2]- المرجع ذاته، الصفحة ذاتها.

[3]- المرجع ذاته، الصفحة ذاتها.

[4]- راجع مجموعة الآباء اليونان،Migne, P. G, T. LII, col. 630.

[5]- يوحنا، 15، 13.

[6]- رسالة القديس بطرس الثانية، 1، 3و4.

[7]- G. Tchalenko, Villages Antiques de la Syrie du Nord, Paris, 1953, T.I., p.147.

 

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها