العموديّ
المثقّف مار يوحنا الأتاربي.
090124
أتارب هي قرية على بعد ثلاثين كيلومتراً من جنوب حلب إلى الغرب، ولا شك
في أنّ الرسولين بطرس وبولس مرّا بها، وهما يبشّران بالإنجيل، ومرَّ بها
أَيضاً القدّيس لوقا، وقيل إنّ والدته كانت حلبيّة. وتقبّل أهل أتارب
المسيحيّة منذ بداية التبشير. وفيها ولد مار يوحنا الأتاربيّ في أوّل
الفتح العربيّ، وفيها نشأ وترعرع، ولمّا صار شابّاً انضمّ إلى رهبان دير
الأتارب. كان يتكلّم اللغة السريانيّة بفصاحة لأنّها كانت شائعة آنذاك في
الريف السوريّ وتعلّم أيضاً العربيّة، وقد أصبحت اللغة الرسميّة للبلاد.
وكان قادة العرب وشعراؤها يقصدون دير الأتارب كثيراً، فيستقبلهم يوحنا
ويُحسن ضيافتهم. وانتخبه الرهبان رئيساً عليهم لما رأوا فيه من الذكاء
والفضيلة والقدرة على حسن الإدارة، ولكنّه أراد، بعد حين، أن يزداد
تشبّهاً بالسيّد المسيح المصلوب، فصعد العمود، وعاش في ذروته حياة زهدٍ
وتقشّف، حيث يصرف وقته في الصلاة حيناً، وفي الكتابة والتأليف حيناً آخر،
إلى أن توفّاه الله في السنة 737م، بعد حياة حافلة بالأعمال الصالحة.
بقيت قاعدة عموده إلى أيّامنا بالقرب من بئر يُقال له "جبّ العمود" وقد
شرب الكثيرون من مائها العذب قبل بضع سنوات. وبَنَت مديريّة التربية
مدرسةً لأولاد القرية، وكانت قاعدة العمود في وسط الباحة. فرأى متعهّد
البناء أنّ هذا الحجر الضخم عقبة لألعاب التلاميذ، فكسره وحطّمه.
كان العموديّون رجال الله، أبراراً وأتقياء، ولكنّهم لم يكونوا أصحاب
ثقافة عالية، ما عدا القلّة منهم. جمع مار يوحنا في نفسه القداسة
والعبقريّة. كان الشمّاس الذي يخدمه يضع في سلّته قليلاً من الخبز
والزيتون، وكثيراً من الورق وكتب الخطّ الضخمة التي يحتاج إليها معلّمه،
فيرفع السلّة بالحبل فيأخذ ما فيها، ويقضي وقته في الصلاة والمطالعة
والتأليف.
اشتهر مار يوحنا بالتاريخ وعلم النفس، فضلاً عن علم اللاهوت، وأصبح رأس
عموده، على ضيقه، أشبه بمكتبة تزخر بالمعارف الفلسفيّة والتاريخيّة،
وتفسير الكتاب المقدّس، وبحوث آباء الكنيسة الأقدمين. وراسل مار يعقوب
الرهاوي، وسأل أسئلةً كثيرة عن التسلسل التاريخيّ في الكتاب المقدّس،
وعدد الأسفار القانونيّة وغير القانونيّة، ومواعظ مار أفرام، وعيد الصليب
المقدّس...
كانت الأديار أماكن إشعاع للفكر الإنسانيّ، يستنير بها أبناء الشعب كلّه.
كتب الشاعر الكويتي أحمد السقّاف في كتابه على الأديرة:
"كانت الأديرة معاقل اللغة والأدب والفلسفة والحكمة، وكم أسدى
الرهبان من أيادٍ بيضاء على العلوم العربيّة منذ العصور الإسلاميّة حتّى
اليوم". |