عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

   الأب جورج رحمه الراهب السرياني الماروني من بلدة عيناتا-الأرز


القدّيس يعقوب القورشيّ الرؤيوي ومُقيم الموتى وطارد الشياطين.

081125

   هذا القدّيس قد عايش القديس مارون وتلقّن عنه تعاليمه وقد تفوّق على معلّمه بكثرة تقشّفاته، لأَنّ مارون قد انزوى في جوار هيكلٍ مهيّء في الماضي لخدمة الضلال القديم ونصب لذاته خيمةً من الجلود المكسيّة بالوبر ليلجأ إليها في أوقات الأَمطار والثلوج. لكنّ يعقوب تخلّى عن هذه كلّها: الخيمة والصومعة والحصن، ولم يحتفظ إلاّ بالسماء غطاءً له. فكان يحتمل تقلّبات الجوّ على أنواعها. فتارةً كنتَ تراه غارقاً في عاصفةٍ من المطر، ومرّةً مجمّداً بالصقيع والثلج أو بالضدّ مشتعلاً وذائباً تحت أشعّة الشمس المحرقة.

   كان أوّل جهاده أن اختلى بنفسه في صومعةٍ صغيرةٍ بعيداً عن الضوضاء الخارجيّة وصوّب ذهنه نحو التفكير بالله فهيّأ بذلك نفسه لممارسة قِمّة الفضيلة. وبعد أن أنهى تدريبه استعداداً منه لأَصلح ما يكون من الجهاد، انطلق في ممارسة أَقسى التقشّفات فارتقى إلى  جبل حيث عاش. والجميع يعتقدون اليوم أَنَّ تلك الأَرض لكثرة ما نالها من البركات قد استبُدلت بأَقدام الناس الآتين إليها من كلّ صوب للحصول فيها على النّعم. وفي مقرّه هذا كان معرّضاً لمشاهدة جميع المارّة. ولم يكن هناك كهفٌ أو خيمةٌ أو صومعةٌ أو دارٌ أو سورٌ يُحيط به، بل كان الناس يرونه مصلّياً أو راقداً أو واقفاً أو جالساً.

   أمّا عن قوّته على الاحتمال، فمرّات كثيرة كان الثلج يتساقط عليه مدّة ثلاثة أيّام وثلاث ليال، وكانوا يرونه منبطحاً على صدره وهو يُصلّي إلى الله والثلج فوقه كثيف لا يترك من ثيابه البالية قطعة صغيرة ظاهرة. وكثيراً ما كان الناس المجاورون له يأتون بالرفوش والمعاول ليجرفوا عنه الثلج الذي يغشّيه ليتمكّنوا من إخراجهم جسمه المرتمي تحته ويرفعوه.

   ولقد حصل مكافأةً له على هذه الاحتمالات الشاقّة على مواهب النعمة الإلهيّة، فينالها كلّ الراغبين فيها. فببركته كان الذين بهم الحمّى المحرقة يشفون فتزول عنهم، والمصابون بالقشعريرة تهدأ وتتبدّد تماماً، وكثيرٌ من الشياطين كان يضطّرهم إلى الهرب، والماء الذي تباركه يمينه يُصبح دواءً شافيا. 

   هذا ما رواه تيودوريتوس أسقف قورش عن القدّيس العظيم يعقوب، الذي كان يمثّل قِمَّة حياة القداسة والنسك في المدرسة النسكيّة السريانيّة القائمة بالحياة في العراء الكامل عرضةً لأَقسى تقلّبات الطقس. وبعد أن قضى يعقوب مدّةً مع معلّمه مارون انقطع للنسك فوق الجبل المدعو اليوم شيخ خورس في بلدة تُدعى أيضاً شيخ خورس. وشيخ هي اللفظة العربيّة التي تعني "قدّيس" عند العرب في سوريا الشماليّة، وتُطلق على المزارات التي يُكرّم فيها أولياء الله وهم مسيحيّون في أغلب الأحيان. ويقول العلاّمة كيمون Cumont بهذا الصدد:

   "إنّ هؤلاء الحبساء كانوا ينشئون المعابد في مواقع الهياكل وأحياناً كانوا يصبحون هم بعد موتهم موضوع تكريم. وغالباً ما خلف قدّيس مسيحيّ بعلاً وثنيّاً. وإذا لم يوجد قدّيس مسيحيّ، يقوم بالمهمّة إيليا النبيّ. وفيما بعد انسحب هؤلاء ليقوم مقامهم وليٌّ مسلم. هذا ما حصل فوق قِمَّة جبل شيخ بركات ودولوك بابا (عينتاب)  الذي دُعي كذلك في التركيّة نسبة إلى ضريح شيخ مزعوم. وظلّ هذا القبر حتّى يومنا هذا مزاراً (زيارات) يقصده الحجّاج.

والمكان فوق تلّة شيخ خورس لا يزال يكرّمه اليوم أهالي تلك البلاد والقرى المجاورة كمكان عاش ودفن فيه القدّيس يعقوب. ولا تزال إلى الآن آثار بناء قديم في المكان المذكور والأهالي يؤكّدون أنّه توجد جملة نواويس وآثار بناء مطمورة تحت التراب في تلّة "شيخ خورس" التي يكرّمونها كمزار أو مقام قدّيس. وبجوار المكان المذكور ثلاث قرى أُطلق عليها "شيخ خورس" نسبة إلى المزار المشار إليه. وعند أسفل التلّة التي عليها المزار عين ماء ممّا ينطبق على وصف المكان الذي عاش فيه القدّيس يعقوب، حسب تاريخ تيودوريتوس. ولا شكّ أنّ "خورس" هي تحريف قورش، وشيخ قورش معناه قدّيس مدينة قورش. وهذا ينطبق تماماً على الناسك القدّيس يعقوب القورشيّ. والقدّيس يعقوب كان لا يزال حيّاً عندما أَنجز تيودوريتوس كتابه، أي حوالى سنة 440م. وكان يرتدي ثوباً من شعر الماعز ألبسه إيّاه الناسك زابينا كما يقول تيودوريتوس في سيرة زابينا.

   والقدّيس يعقوب كان معتبراً جدّاً من أرباب عصره، ديناً ودنيا. والذي يؤكّد على ذلك الأَبحاث التي نشرها الأب Festugière في كتابه "أَنطاكية الوثنيّة والمسيحيّة". ومن الوثائق التي نشرها وعلّق عليها في كتابه أنّ مار سمعان العموديّ ومار يعقوب  كانا في أيّامهما، أي في النصف الأَوّل من القرن الخامس أبرز الرهبان في سوريا. وعندما وقع الخلاف العقائديّ الذي نشب آنذاك حول تعاليم نسطور وهرطقته، توجّهت إليهما أنظار الأَمبراطور والسلطات المدنيّة والكنسيّة لطلب تدخّلهما بالصلاة والمسعى لتوطيد السلام في الكنيسة وإزالة الخلاف وتأييد العقيدة المستقيمة وهزم الهرطقة. وبالفعل لعبا دوراً كبيراً في هذا المجال وكانا على اتّفاق تام من الناحية العقائديّة، مناضلين في سبيل تعاليم المجمع الأَفسسيّ.

وباختصار نقول: إنّ وقائع حياة القدّيس يعقوب توضح لنا أنّ المحرّك الأَعمق والرئيسيّ لحياته كان الحبّ الإلهيّ الذي دفعه إلى أن يكون ذبيحةً حيّةً ومحرقةً متواصلةً وشهيداً مستمرّاً للمحبوب الإلهيّ. في سبيل هذا المحبوب جاهد إلى أقصى حدّ ضدّ ذاته وضدّ الشيطان. وممّا يلفت النظر أنّ تيودوريتوس، في سيرة مار مارون، قَرَنَ بين يعقوب الناسك القدّيس وبين أرز لبنان إذ طبّق على يعقوب قول الكتاب المقدّس "الصدّيق مثل النخل يزهر ومثل أرز لبنان ينمو".

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها