عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

بقلم: جان جبران لحدو

فهو الاديب العريق، والشاعر اللامع، والصحافي الشهير، والخطيب المنبري، والمحاور المبدع، والمدافع الجري عن التاريخ والهوية واللغة والحضارة الآرامية الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته.


الشعب الماروني الحيّ صاحب وطن وهوية وحضارة وفكر متطوّر خلاّق

بقلم: جان جبران لحدو

بعد الزيارة الرسولية القصيرة، التي شرّف بها السويد قبل حين، غبطة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الجالس سعيداّ، والحفاوة الحارة التي استقبله بها الرسميون السويديون، والمغتربون الموارنة، وبقية الطوائف المسيحية، وخاصة السريانية الأرثوذكسية، وهي أكبر جالية مسيحية شرقية. طلب مني أحد الاعلاميين السويديين، أن احدثه بصدق وأمانة، عن الطائفة "المارونية" العريقة، شاغلة الدنيا بأخبار الحرب الدامية، التي عصفت زمناً طويلاً، بوطنها الصغير الجميل المسالم، لبنان المُفدّى، ولم تزل آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردّية، تتفاعل بضراوة على الفضائيات اللبنانية والعربية والاجنبية معاً، وبطريقة مغايرة تماماً، للصورة المشرقة البهية، والمكانة الذهبية المرموقة، التي كان لبنان يتربع على عرشها قبل الحرب.

   أجببتُ هذا الصديق الوديع، بأنه يُسعدني جداً أن البّي طلبه، عبر مجلة يُصدرها اتحاد الاندية السريانية في السويد، عُرفت منذ تأسيسها في العام 1978 باسم "بهرو سوريويو" النور السرياني، فكانت وستبقى صوت الشعب الآرامي السرياني، الذي يكّن للأشقاء الموارنة الأعزاء، أسمى وأحرّ مشاعر المحبة والعاطفة والتقدير، ويشاركهم نضالهم وأفراحهم وأتراحهم، في جميع مراحل الحياة السابقة والحاضرة والمستقبلية.

   بكل تأكيد أنا لن أتناول الآن، الأصالة والجذور والتاريخ، الذي يؤكد الهوية والوطن والحضارة والفكر الماروني المتطوّر

غبطته أثناء حفل استقباله في صالة كنيسة مار بطرس وبولس متوسطاً المطران بنيامين اتاش والسفير اللبناني و الخوري شابو

الخلاّق، لأنني رصدتُ هذا الموضوع الوردي، لاعدادٍ قادمة بإذن الله. إلاّ أنني سأسرد لمحة موجزة، عن ضرورة تواجد الكيان الماروني الحضاري، الداعم لخصوبة الشرق، ضمن دائرة الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، في بقعة جغرافية فوق قشرة الكرة الأرضية، مليئة بالتضاريس القاسية، والبداوة العنيدة، والجاهلية الجامدة..مخضّبة بالدماء والدموع والبؤس، والظلم والظلام..

   لقد أخطأ يا صديقي، مَن أعتقد أن المارونية هي "طائفة" مذهبية، تبحث عن حقوقها بين بقية الطوائف في لبنان.. بل هي وطن وهوية وحضارة، وفكر متطوّر خلاّق. هذا ما أجمع عليه علماء التاريخ والحضارات واللغات والمدنيات، وهذا ما أكّده المنطق والوعي والعقل والواقع. فإذا أنت قلت: هذا ماروني، إذن فهو لبناني، رغم انتشار الموارنة في معظم الدول "العربية"، كمواطنين أصيلين، أو حاملي إقامات عمل.. لأن لبنان والموارنة هما وحدة بشرية وطنية إنسانية، لا يمكن الفصل بينهما. وهل يمكن تغييب شعب، كان وطنه من صنع يديه وإرادته وتصميمه على الذود عنه، مهما بلغت التضحيات الثمينة؟ إن اللبنانيين الموارنة، هم أحفاد ربابنة القوارب الحضارية، التي تمخطرت على شطآن البحر الأبيض المتوسط زمناً طويلاً، ونشرت أشرعتها العالية، فوق أعراف الأمواج الثائرة، لتزاول مهنة

 

رئيس التنظيم الآرامي الديمقراطي غابي كلو

 يقدم لغبطته هدية رمزية أثناء حفل استقباله وهي عبارة عن انجيل مخطوط بيد ويزن حوالي 8 كغ

التجارة واكتشاف المجهول، وتُضيء قناديل العلم والثقافة والمعرفة، وتترجم معاني الحرية والسلام، وتطرح أرقى مفاهيم العزّ والإباء. وهم أيضاً أحفاد بُناة أول مدرسة حقوقية عرفها العالم، وأصحاب أول مطبعة، أصدرت كتاباً وصدّرت أبجدية. وهم أيضاً وأيضاً ابناء الأمة التي حاكت الأساطير، واستنبطت لون الأرجوان.

   إن ولاء الموارنة غير المحدود، لوطنهم لبنان الحبيب، وتفانيهم المنقطع النظير، في الذود عن سيادته واستقلاله وأمنه وقراره الحرّ، كان وسيبقى أهم الأسباب الجوهرية، في ديمومته واستمراريته وتطوّره نحو الأفضل والأكمل، مما أكّد على مناعة كيانه ووجوده، كدُرّة نادرة وهّاجة ثمينة، على جبين الشرق من أدناه إلى أقصاه. وأن ذروة الإيمان للمارونية الراقية، تكمن في انفتاحها المدني على الشرق والغرب معاً، وتأثيرها في المجتمع العربي العام، كبصمة نظام بهيّ، تجلّى في كرامة الإنسان وحقوقه وواجباته. أما قمة المشاعر المارونية الإنسانية، فتبرز واضحة شفافة، في احتضانها لمزايا العيش المشترك، مع سائر الفرقاء، الذين يحيكون نسيج العائلة اللبنانية الواحدة الموحّدة...

   ومن هذا المنطق العقلاني السليم، يمكنني القول، أن ما أفرزه التواجد الماروني الوطني، على أجمل وأزهى واحة، من واحات الشرق الغناء، وهي لبنان جنّة الله على أرضه، من ممارسات قيادية صحيحة للسلطة، وتفاعلات سياسية ديبلوماسية حزبية مكشوفة، وفعّاليات اقتصادية صناعية زراعية ناجحة، ونقلات اجتماعية فنية رياضية محببة، ومخزون فكري متطوّر خلاّق، كان وسيبقى نتيجة حتمية، لوعي أبنائه الموارنة، بتعددية إبداعاتهم في كافة المجالات، التي تعني بالمواطنية الصالحة، والوطن الحرّ القادر على الحياة والعطاء. يكفي الأشقاء الموارنة فخراً، أنهم ينعمون بلذة الإنتماء والولاء العضويين إلى الوطن، ونضوج المشاعر القومية والروحية المشتركة، وفضيلة الانفتاح على الفكر والثقافة واللغات المحلية والعالمية، الداعم لحركة التطوّر المذهلة، في عصر العولمة الجريء، ومحاسن التمسك بالنظام البرلماني الديمقراطي، المجانس لأشهر وأمنع الأنظمة الدستورية في العالم، التي تعني بالحرية وحقوق الإنسان، والاعتزاز بحضارة اللبنانيين الأجداد، الذين ساهموا الى حدّ بعيد، في بناء الحضارات الشرقية القديمة، وحفروا على صدرها، بصمات قوتهم وثقافتهم وموروثاتهم التاريخية العريقة.

   من ينكر من اللبنانيين خاصة والعرب عامة، أن "بكركي" حاضنة الكرسي البطريركي الماروني المعظّم، هي المرجعية الوطنية الروحية الأساسية الثابتة، التي تستوعب هموم سائر المواطنين، وخاصة المعوزين والمقهورين من كافة الأديان والطوائف والأنتماءات.. ورأيها مسموع في كافة القرارات المصرية، التي تعني بشوؤن الوطن والمواطنين معاً؟ ولو سألت أي مواطن لبناني غير  ماروني أو مسيحي، لأجابك أن بكركي هي لنا، هي لكل اللبنانيين وليست للموارنة فقط. هذا الامتياز الوطني العريق، حققته بكركي على مرّ الزمان، بقدرة بطاركتها المتعاقبين العظام، الذين يحاكون على الدوام ضمير الله، وينهلون من مناهل الكتاب المقدس، ويسترشدون بالإرشاد الرسولي السماوي، ويحظون برعاية ونصائح وقرارات البابا سيّد الفاتيكان المعظّم. ومن نعم الله على لبنان، وفي هذه الآونة العصيبة من تاريخ لبنان والمنطقة، وجود غبطة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الكلي الطوبى، سيداً كريماً لبكركي الكريمة، هذا الزعيم الوطني الروحي الشهير، الذي أسكن لبنان في وجدانه، وأراح البنانيين.. كل البنانيين في قلبه، فكان وسيبقى طوداً شامخاً، يتصاعد من ذروته صوت لبنان الحرّ، السيد، المستقل. 

رئيس مكتب القوات اللبنانية  الياس سركيس وعقيلته مع غبطته متوسطاً بعض الكهنة والشخصيات أثناء زيارته للسويد

إن التاريخ المعاصر، سيذكر للشعب الماروني الشقيق، قفزة ذكية بطلة، قلما يجود بها الله على شعب آخر، إذ رغم الحروب الدامية، ومؤمرات العنف والارهاب والإبادة، التي عصفت بالوطن اللبناني المُفدى مرات ومرات ومرات.. وأرغمت أعداداً كثيفة من المسيحيين عامة والموارنة خاصة على الهجرة.. بعدما تعذر عليها المشاركة في الدفاع عن الوطن، والحفاظ على حياتها وحريتها وكرامتها، وعجزها عن تأمين لقمة عيش هانئة.. فقد تمكنت هذه المواكب المهاجرة، من السيطرة المحببة على معظم ديار الاغتراب، وخاصة جمهوريات ومقاطعات الأمريكيتين الشمالية والجنوبية "اللاتينية" وكندا واستراليا والاوروبيتين الغربية والشرقية ودول اسكندنافيا وبعض الدول الأفريقية والعربية وخاصة ممالك وإمارات الخليج العربي ..الخ. وبرعوا في الحقول السياسية والديبلوماسية والحزبية والنقابية، كما نجحوا في الشوؤن المالية والاقتصادية والتجارية، وتألقوا في مضمار الصناعة والزراعة والعلوم والتكنولوجيا والثقافة والاجتماع والفنون، ممّا ساهم في نهضة تلك البلاد الحاضنة لهم والمعتزّة بهم، كما أعطوا صورة زاهية مشرّفة، عن الوطن اللبناني الذي نزحوا عنه. وهل ينسى التاريخ حين هبوط وانسحاق الفكر "العربي"، تحت مطارق العثمانيين الرهيبة، طيلة خمسماية سنة ونيّف، كيف أن "شعراء المهجر" وخاصة عمالقة "العصبة القلمية" في بوسطن، ومعظمهم من اللبنانيين المسيحيين والمورانة بالتحديد، أمثال: جبران خليل جبران ـ ميخائيل نعيمة ـ أمير الشعراء الأخطل الصغير ـ ايليا أبو ماضي وغيرهم مثل : الياس أبو شبكة ـ صلاح لبكي ـ مي زيادة ـ بولس سلامة ـ رشيد نخلة ـ أمين نخلة ـ فوزي وشفيق المعلوف ـ أمين الريحاني ـ كرم ملحم كرم ـ جرجي زيدان ـ الفيكونت فيليب دي طرازي ـ شبلي الملاّط ـ سعيد عقل "الذي رفض إمارة الشعر" ، وتبعهم العشرات من الشعراء والادباء الموارنة، الذين أثّروا الفكر العربي، بسحر البيان وبديع البلاغة وجمال الصورة وبهاء السبك والتنضيد، بعدما أنقذوه من ضراوة "القعقعة والزمجرة والجعجعة" حيث أن الفكر الماروني المتطوّر الخلاّق، يملك بصمة خَلقية ابداعية حرّة، بعيدة عن التطرف أو الخنوع أو المحاباة.. لأنه فكر مُضاء بالنقاوة، مُشعّ بالصفاوة، موسوم بالحسن والزهزهة والبهاء، معروف بالجرأة والصراحة والوضوح. ولو اوتيتُ في هذه العجالة، القدرة على سرد أسماء الصحافيين والمؤرخين والمترجمين واللغويين والفنانين الموارنة والمسيحيين اللبنانيين، لرأيناهم أعلاماً وروّاداً أعطوا العرب والعالم، كل إبداع وخير وجمال، ولم يأخذوا من العرب بالتحديد ، إطلالة عدة دقائق على فضائية عربية.. 

الفكر الماروني العريق ركيزة أساسية للفكر المسيحي المشرقي

 رغم قراءاتي المكثّفة، للعشرات من المؤرخين الاقليميين والعالميين، علمانيين كانوا أم لاهوتيين. وغوصي العميق بين أمواج التاريخ والحضارات واللغات والمدنيات. وابحاثي الشاقة بين عرائس الماضي البعيد، للامساك بدرّة التراث، والمتروكات الآثارية التي تؤكّد الحقائق.. وتسّند الوقائع.. إلاّ أنني لا أستطيب البتة، التحدّث بالامور المنقرضة والميتة، بلّ في الامور الحالية والمستقبلية الحيّة، لأن عالم الألفية الثالثة، ما عاد بوسعه التفاؤل بيوم سعيد جديد.. فكيف به ينظر إلى الوراء، لاستلهام الأمل والفرح؟ حيث أن الأحداث المؤلمة الجسيمة، التي تطفر يوماً بعد يوم، وبشكل مرعب مخيف.. فوق قشرة الكرة الأرضية، لم تترك مجالاً للنظرة الحنونة، كي تحدب على الأحداث التاريخية المصيرية، التي ذهبت مع الرياح!

   أنا كإنسان آرامي سرياني، أحمل الجنسيتين اللبنانية والسويدية، والاقامة الأمريكية الدائمة "كرين كارت"، طبعاً الجنسية اللبنانية، هي جنسية الوطن الحبيب الذي وُلدتُ فيه، وترعرعتُ على أرضه، وأكلتُ من خيراته المباركة، وشربتُ من ينابيعه الدافقة، ونهلتُ من مشاهير معاهده وجامعاته، وعاهدتُ الله الدفاع عنه حتى الرمق الأخير. والجنسية السويدية هي جنسية الوطن العزيز، الذي احتضنني ساعة الضيق، ومنحني حق العلم والعمل، وطعّم شبابي بمصل الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، ثم احترم شيخوختي كإنسان له حقه في الحياة الكريمة. أما انتمائي القومي والروحي، للآرامية السريانية، فقد أكّدتُ صتحته، بممارساتي اليومية التي اتنفّس فيها تحت قرص الشمس، ودراستي الجدّية لباقة من المشتغلين بكل أطياف الماضي، وفي مقدمتهم كتاب "اللؤلؤ المنثور" في تاريخ العلوم والآداب السريانية "للبطريرك أفرام برصوم" وعدة أجزاء من كتاب السريان إيمان وحضارة "للمطران اسحق ساكا" ومجلات لسان المشرق  للعلاّمة "المطران بولس بهنام" وكنيسة أنطاكية "للبطريرك زكا الأول عيواص" ومقدمة كتاب غرامطيق اللغة الآرامية السريانية "للأب بولس الكفرنيسي" وكتاب أصدق ما كان عن تاريخ لبنان "للفيكونت فيليب دي طرازي" وكتاب تاريخ "زكريا البليغ السرياني" وكتاب "تسريح الأبصار في ما يحتوي لبنان من الآثار" وكتابي الهدى، وتاريخ مختصر الدول "للملفان ابن العبري" و "تاريخ الرهاوي" وكتاب الآداب السريانية "لروبنس دوفال" وكتاب اللمعة الشهيّة "للمطران يوسف داوود" وكتاب المروج النزهية في آداب اللغة الآرامية "للأب أوجين منّا" وكتاب مختصر تاريخ الرها "للسمعاني" وكتاب أخبار الشهداء والقديسين "للأب بيجان" وكتاب "تاريخ ميخائيل الكبير البطريرك" وعشرات الكتب والمجلات التاريخية الهامّة، التي يضيق مجال تسميتها في هذه العجالة.

   ولما كان تاريخ الشعب الماروني الشقيق، هو امتداد حضاري لتاريخ الشعب الآرامي السرياني العريق، حيث أن الشعبين يشتركان في وحدة الجنس والأرومة والمشاعر القومية والشعائر الروحية، وخاصة موضوع الولاء غير المشروط للوطن اللبناني المفدّى، حتى حدّ الاماتة والشهادة.. فمن غير المعقول، ترداد وتكرار الحقيقة التاريخية الوضّاءة، فوق سطور الوثائق والمستندات وجميع الأدلة والبراهين القاطعة.. انما المعقول جداً، أن يبقى تعاوننا وتضامننا قائماً ومستمراً، واشتراكنا على السرّاء والضرّاء حيّاً مشرقاً محببا، رغم تراجع الأسم الآرامي السرياني أمام عواصف الإرهاب، التي مازالت تمزّق تواجده ظلماً وعدواناً.. يبقىعزاؤنا صمود الأسم الماروني، أمام الملمات الوحشية المتربصة به.. ومحافظته المتينة على رسوخه ومناعته وتقدمه، حيث أن سلامة الأسم الماروني، هو سلامة الأسم الآرامي السرياني ذاته، ولا مشلكلة لدينا أو حساسية بهذا الموضوع المصيري الهام.. حيث أنه لم يحدث في التاريخ ولا مرة واحدة، أن غادرنا اعتزازنا باشقائنا الموارنة الأعزاء، كنا ومازلنا وسنبقى معهم، في كافة الشؤون المصيرية، التي تصون سيادة واستقلال لبنان، ووحدة أرضه وشعبه ومؤسساته الشرعيّة. وللأمانة والتاريخ أقول: إن الفكر الماروني الخلاّق، هو ركيزة أساسية ثابتة، للفكر المسيحي في الشرق كله، وكلما تعاظم الفكر الماروني، وحلّق شأواً في معارج الإبداع والمناعة والكمال، كلما تعاظم شأن الفكر المسيحي المشرقي، وحلّق شأواً في معرج الإبداع والمناعة والكمال.

   لذا يمكنني اختزال البحث هذا، بزبدة الأدلة ونتيجة البراهين، توطيداً للحقيقة وليس إلاّ.. اذ لا مجال للشكّ، في أن الآرامية السريانية، كانت لغة قدماء اللبنانيين، مما أجمع على هذا، معظم المؤرخين والمشتغلين بشؤون الحضارات واللغات والمدنيات.. ورغم اجتياحات الدول والشعوب للبنان، وفي مراحل متتابعة ومتفاوتة، فقد واظب سكانه الآراميون، على المخاطبة بلغتهم، في شؤونهم الدينية ومعاملاتهم المدنية، وخاصة في بدايات القرن السابع الميلادي، حيث انقرضت معالم الوثنية، وتحوّلت هياكلها في لبنان، إلى كنائس ومعابد وأديرة مسيحية، بفضل الرهبان الآراميين السريان، الذين اشتهروا بالزهد والعبادة وجلائل الأعمال.

   ففي العصور المسيحية الأولى، لم يكن من المسيحيين في أعالي لبنان ووسطه، سوى سكانه السريان. ومنذ بداية القرن الخامس الميلادي، انقسم سريان لبنان إلى فريقين: فريق خلقيدوني يؤمن بطبعتين للسيد المسيح، وفريق منوفيزيتي يؤمن بطبيعة واحدة للسيد المسيح. ولم يتبدّل موقف المسيحيين في لبنان، إلاّ بدخول الموارنة اليه.

   إن المتتبع لتاريخ الموارنة دينياً وقومياً، يعرف جيداً أنهم ينتمون الى القديس مار مارون، الذي عاش كراهب آرامي سرياني، في شمال سوريا والبقعة الجغرافية الواقعة بين أنطاكية وقورس. وبعد انشقاقه القومي عن الآراميين السريان، واصل أتباعه الموارنة سيرهم في وادي العاصي، وحطّوا رحالهم في الجهات الشمالية لجبل لبنان ووسطه وجنوبه، بعدما اجتازوا أفاميا وحماة وحمص. وفي القرون الثامن والتاسع والعاشر، تزايد عديدهم فوصل امتدادهم الى اقصى الجنوب، حيث لاقوا ترحيباً حاراً، من اشقائهم الآراميين السريان، سكان لبنان والاكثرية الساحقة الهامّة، من ابانئه الأصليين. ولما كان الآراميون والموارنة يتكلون اللغة الآرامية السريانية الواحدة، ويقيمون فيها طقوسهم الدينية، فقد تمّ تفاهمهم وتقاربهم وتعاونهم بسهولة تامة، وبعد فترة زمنية متلاحقة، نرى الآراميين السريان، يمتزجون رويداً رويداً بأشقائهم الموارنة، امتزاج الماء بالراح "تسريح الأبصار جزء 2 ص 51 ـ 53".

   يقول المؤرخ الشهير الفيكونت فيليب دي طرازي، في مجلده الكبير "أصدق ما كان عن تاريخ لبنان ص 42، نقلاً عن المجلة البطريركية المارونية ـ مقالة الخوري بولس قراألي ـ مجلد 5 سنة 1930": "يتلخص مما سبق أن الموارنة، الذين نشأوا في أواخر القرن السابع الميلادي، ونزحوا الى لبنان، استأنسوا بالسريان ابناء البلاد الأصليين، الذين رحّبوا بهم ترحيبهم بإخوان لهم في اللغة والجنس، فآلفوهم وصاهروهم وآكلوهم وشاربوهم وامتزجوا بهم، تلك حقيقة تاريخية راهنة، يصدع بصحتها كل من له إلمام بتاريخ الأمم الشرقية، ويقرّر أن سكان لبنان عند دخولهم النصرانية لم يكونوا إلاّ  سرياناً، وبالتالي أن السريان المسيحيين، سكنوا لبنان قبل سائر الأمم النصرانية".

 وعندم استتبّ الأمر للموارنة في لبنان، تمكنوا من تأسيس كيان سياسي عسكري اقتصادي ثقافي اجتماعي متين، تميّز بسرعة تطوّره وانفتاحه على الشعوب الشقيقة والصديقة، متمسكاً بروح الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، تمخّض عن هذا الكيان الحضاري، بعد حوالي 1200 عام، نشوء أجمل وأشهر دولة نموذجية في الشرق، هي لبنان الحبيب. هذا الوطن الذي صار مثالاً للتعايش بين ابنائه من الدينين الروحانيين والمذاهب والطوائف والانتماءات السياسية والحزبية المنوعة. اضافة الى هذا كله، نرى الموارنة الذين ساهموا ومازالوا الى حدّ بعيد، في بناء معظم دول الخليج العربي، كما مدّوا يد العون على طولها لجميع القضايا العربية المصيرية، وشاركوا في تأسيس الجامعة العربية، ومؤتمرات القمة العربية، ولجنة حقوق الانسان في هيئة الأمم، والمؤتمرات العالمي للدول الفرانكوفونية، ومؤتمر الدول الاسلامية.. نرى الموارنة في طليعة المقاتلين الشجعان، ضدّ الاحتلال العثماني والفرنسي، والداعين دوماً وابداً لاحترام حقوق الانسان، والحرية الشخصية في التعبير عن الرأي والمبدأ. هكذا نفهم المارونية، كوطن وحضارة وفكر إنساني وثّاب، ارتبطت عناصرها الحية بلبنان، ارتباطاً مارونياً لا يقبل الطلاق، لا بلّ ارتباطاً عضوياً لا يمكن سلخ أحدهما عن الآخر، لأنه ارتباط شعب بوطن، وارتباط وطن بشعب. 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها