عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

الفكونت فيليب دي طرازي

مؤسس دار الكتب اللبنانية

والعضو في عدة مجامع علمية شرقية وغربية


الموضوع المقترح: "آلام المفكر وتضحيات الذائب في خدمة الامة"

امين داري الكتب والآثار في بيروت وعضوالمجمع العلمي العربي بدمشق

لا غرو ان اشرف الرجال غاية و اعلاهم همة و اعزهم نفساً رجل يواصل اعمال الفكرة في اصلاح امته و اسعاد وطنه و تعزيز لغته شاحذاً قريحته في معالجة ما عضل من دائها و النهوض بها من حضيض الذل و الدمار الى اوج العز و الفخار. فرجل كهذا على رأيي اجدر بالذكر بل احق بالثناء من كل انسان على اختلاف المشارب  والمآرب. اجل ان الاديب الحكيم لغني عمن سواه من البشر بعلمه وذكائه، اما هم فليس لهم غنى عنه باموالهم او مناصبهم او نفوذهم، و المثل في بيدبا الفليسوف و دبشليم و مثل ارسطو الحكيم و الاسكندر ذي القرنين و مثل تولستوي و قيصر الروس و غيرهم من اساطين الفلاسفة و ملوك الارض في غابر الازمنه و حاضرها.

بين الرجال الخالدين الذين زينوا امتهم بنبوغهم و فضلهم واصالة رأيهم فقيد الامة الآرامية و احد اعلامها اللامعين في القرن العشرين، الاستاذ نعوم فائق طيّب الله ثراه، فبكل حق وصواب اجمعت كلمة ابناء جنسه على وجوب تكريمه بعد وفاته اعلانا لمآثره، و اقراراً بحسناته، و قد رأيت ان اضم صوتي الضئيل الى اصواتهم لئلا ينسب الي التقصير في تأدية فروض الرثاء لهذا الرجل الجليل الذي كان مثال المروءة و الدعة و الغيرة، كيف لا و هو الذي جاهد قولا و عملا في سبيل لغته بل انعش في ذويه روح التجدد والنهضة القومية.

شاهدت المعلم نعوم فائق للمرة الاولى 1896 عند ما جاء من ديار بكر مسقط رأسه برفقة مطرانها السيد غريغوريوس عبدالله سطوف الذي ارتقى بعد ذلك الى الكرامة البطريركية الانطاكية، و حلاّ كلاهما ضيفين موقرين في داري ببيروت شهوراً كثيرة تيسر لي في خلالها ان اعرف الاستاذ نعوم فائق معرفة حقيقية و اختبر بنفسي فضائله و مزاياه الفريدة، و من ذلك الحين لم تنقطع المراسلات بينه و بيني بل استمرت تلك العلائق الطيبة حتى انطفاء سراج حياته.

نبت نعوم فائق في بلاد حفت بالفتن والمخاوف، و قحطت فيها رجالات المعارف، و خيم الجهل على حكامها الذين استحكمت فيهم حلقات الجور و الغدر، قام نعوم وقعد و أكل وشرب بين اقوام عششت في رؤوسهم اغربة الخراب والفناء، فتتابعت على ابناء جنسه حوادث الدهر و صروف الزمان حتى تفرقوا في مختلف الاصقاع و البلدان، فأمسوا كالسائر في ليلة دهماء غاب قمرها واحتجبت كواكبها.

ادرك الاستاذ نعوم ان تواريخ امته الآرامية و آدابها اصبحت أثراً بعد عين و ان لسانها القديم الشريف كاد يدخل في خبر كان، و انها ان هي نهضت نهضة الناشط الى درس آثار اسلافها و الوقوف على مأثر جهابذتها تحققت آمالها و ارتقت احوالها و تجدد رونقها و جمالها، فانتبه لهذا الامر الجلل و دلته فكرته ان اقوى ذريعة لبلوغ ضالته هو التذرع بالصحافة، تلك الصناعة الشريفة التي تقف دونها كل الصناعات، فانشأ في ديار بكر جريدة " كوكب الشرق" التي كان يطبعها في اللغات الثلاث الآرامية و العربية و التركية بحروف سريانية.

ولما رأى هذا الصحافي الآرامي الفاضل ان النجاح لا يتوفر لمهنته في دائرة وطنه تحت لواء الدولة العثمانية حول نظره الى العالم الجديد ليشتغل في بلاد الحضارة تحت سماء الحرية، فسافر الى الولايات المتحدة و هناك استعان بما رزقه الله من النشاط و توقد الذهن على دعوة امته الى التنبه من غفلتها لاسترجاع سابق عزها، و لم يلبث ان جدد هناك نشر جريدته المار ذكرها و هي باكورة الصحف السريانية التي ظهرت في البلاد الاميركية.

و لا يخفى ماعاناه السيد نعوم في هذا السبيل من التضحيات الجسيمة التي بثباته و تفانيه في خدمة امته، فانه على رغم جهله لغة تلك البلاد و على رغم قلة ذات يده استجلب من الشرق الى تلك الديار النائية كل ما كان محتاجا الية من الوثائق الملية و الكتب المختلفة للقيام بعمله المحفوف بالمصاعب، و لما اكتملت معدات الجريدة اخذ ينشىء  فيها المقالات الشائقة و الخطب الرائقة لانهاض الامة الآرامية وتعزيز لغتها، لا يشغله من امر اذاعة جريدته و تعميم فوائدها ما بين قومه، و كأني بقلمه السيال يستمد مداده من قلبه فيبث في صفحاتها عواطفه القومية و آيات ولائه المنزهة عن كل منفعة شخصية.

لاقى الاستاذ نعوم في مشروعه هذا من الضيق و ضروب المشقات ما لا يعلمه الا الله العليم، لانه لم يكن ذا حول و طول و لا ذا ثروة مالية كسائر الصحافيين اقرانه، بل كانت ثروته كلها في الحياة محصورة بالذكاء و الاقدام و العلم و زيت الدماغ، ومع ذلك كله مضى في سبيله غير هياب لانه سبق فسجل على نفسه الخوض في ميدان الجهاد حتى آخر رمق من الحياة. فكان يبلغ صوته ابناء امته في مشارق الارض و مغاربها حاثاً اياهم على اقتفاء آثار اجدادهم و صيانة جنسيتهم و التثبث بلغتهم الجليلة الجميلة، تلك اللغة التي كانت لغة اقدم دول الارض حضارةً بل كانت ايضاً لغة السيد المسيح جل شأنه ولغة رسله الكرام .

لم يكتف الاستاذ نعوم بذلك بل اخذ يختلف الى الجمعيات الآرامية في العالم الجديد يحدث القائمين بها عن تواريخ آبائنا الكرام وآداب أئمتنا الاعلام مبينا اصلهم و فصلهم غابرهم و حاضرهم سابقهم و لاحقهم، كان يناجي بني قومه الملتفين حوله ليوحدوا صفوفهم و ينبذوا الانقسامات بينهم و يمتنعوا عن المجادلات الدينية مع سواهم، لان ذلك ادى في القرون المنصرمة الى التباعد والتباغض و التشاحن فكان مدعاة الى فقدان الارث النفيس الذي خلفه لنا اجدادنا الميامين، هكذا كان الاستاذ نعوم يحرض ابناء جنسه على توثيق عرى الوئام لاعتقاده الراسخ ان ذلك فرض عليهم لا زم بل واجب مقدس صيانة لكيانهم القومي بين سائر الامم الراقية.

رجل مقدام غيور نقي السريرة رضي الاخلاق متصف باحلى الخلال كفقيدنا الحميد الاثر قد اصابت الجامعة الآرامية في الولايات المتحدة الاميركية ان تحتفل بتكريمه في مظهر لائق بادبه العالي، فمع اسدائي الشكر لها على هذه الاريحية الجنسية يطيب لي ان اشترك معها على بعد الديار في احياء ذكرى الاستاذ نعوم فائق و المجاهرة بفضله و الاعجاب بشهامته و أدبه، فلئن توارى شخصه الوقور عن ابصارنا فان ذكره الخالد يظل مرسوما على صفحات قلوب محبيه و مريديه و ذويه، يرددون مآثره الغراء بالفخار على كرور الاحقاب و الاعصار.

فيليب دي طرازي

بيروت- لبنان

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها