مفخرة من مفاخر الشرق في التاريخ والاحسان العلاّمة السرياني المرحوم فيليب
دي طرازي
المطران
ديونوسيوس فيليب بيلوني
رئيس أساقفة حلب و توابعها
للسريان الكاثوليك
لقد انتقل
الى رحمته تعالى في منتصف ليل الثلاثاء 7 آب 1956 في مصيفه بعاليه (لبنان)
الكبير و السيد النبيل الفيكونت فيليب دي طرازي، مخلفا وراءه أثرا حميدا
وذكرا جميلا لسنين طويلة سلخها في المطالعة و الانشاء و التحبير و شفعها
بالنشر و السخاء و العطاء، حتى أصبح ذكره يضمخ كل لسان، و اسمه مسجلا بنور في
كل جنان.
اسرته:
الفيكونت فيليب دي طرازي مفخرة من مفاخر المسيحية و ركن من أركان النهضة
الادبية و العلمية في الشرق أدناه و أوسطه و أقصاه. ولد فيليب من اسرة يرتقي
منشأها الى القرن السابع عشر في مدينة حلب. و لما حدثت النكبة المعروفة عام
1850 في الشهباء و ضافت أسباب الهناء و مؤيدات الحرية بين اهليها، رحل جانب
كبير من النصارى الى بلاد مختلفة، في جملتهم أولاد يوسف المقدسي نصرالله
طرازي الذين لحقوا بأبناء عمهم انطون المتخذين مدينة بيروت مقرا لهم حيث
أخذوا يتعاطون التجارة و تناسلوا فيها. و قد اطلق الرؤساء الروحيون ألقابا
كثيرة على الكونت نصرالله والد الفيكونت فيليب، منها "شيخ الطائفة السريانية
وكبير اعمادها". و قد وجه رؤساء الدين لهذه العائلة الكريمة رسائل كثيرة
ملؤها الاطراء و الثناء و كانوا يحلوّن ضيوفا لدى مرورهم ببيروت على منزل هذه
الاسرة الكريمة التي كان من مزاياها انها شديدة التدين، محبّة للفقراء، غيورة
على المصالح العمومية، مستقيمة في جميع معاملاتها، و لها الايادي البيضاء في
سبيل الطائفة السريانية. و قد انعم البابا لاون الثالث عشر على الكونت
نصرالله طرازي والد فيليب ببراءة الكونتيّة ورفعه الى مصاف النبلاء والاشراف.
حياته:
و من هذه الدوحة النبيلة تحدّر الفيكونت فيليب فأبصر النور في 28 أيار عام
1865. دخل فيليب المدرسة البطريركية في عام 1873 مدة سنتين انتقل بعدها الى
كلية الآباء اليسوعيين حيث امضى فيها 8 سنوات نال في نهايتها الشهادة
العلمية. و قد برًّز في معرفة و اتقان اللغات العربية و الفرنسية و اللاتينية
و اليونانية القديمة. تعاطى مدة التجارة صحبة والده و اخوته، و لكن نفسه كانت
تنزع الى العلم و خصوصا ما له علاقة بالتاريخ.
وقد كان
باكورة تآليفه "تاريخ الدولة المصرية في عهد السلالة المحمدية العلوية" الذي
قدّمه مخطوطا الى عباس الثاني خديوي مصر عام 1899. تزوج فيليب في 19 شباط عام
1900 من السيدة الفاضلة "اوجيني بسول" ثم تنقل مع عروسته في ربوع مصر و
اوروبا و قابلا قداسة الحبر الاعظم لاون الثالث عشر و نالا بركته. بعد ثلاث
سنوات قابل محمد الخامس العثماني ويوسف عز الدين ولي عهده و بعض وزراء
السلطنة.
ليس لنا
الوقت لنفي الفيكونت الفقيد حقه و نعدّد مساعيه و نستوعب مبراته انما نكتفي
بأن نقول بأنه تجشم عرق القرية في جميع ما تفرق و اندثر من أخبار البلاد
الشرقية والطوائف المسيحية و إحياء ما انطمس من معالم آثارها التي كادت
الايام تذهب بها و الاغبار تخنى عليها.
ثم بذل
النفس و النفيس في تأسيس دار الكتب اللبنانية، و وقف عليها تفكيره و علمه و
وقته و ماله و ألوف المجلدات من خزائن كتبه، و قام من أجل دار الكتب بعدة
رحلات الى اوروبا و مصر رغبة بانماء محتوياتها و استهدائه الكتب من المعاهد
الثقافية و المجامع الادبية و دور الكتب و الجمعيات العلمية و الدوائر
الحكومية و تزويد خزائن هذا المعهد الحديث بالمجموعات الضخمة و التاًليف
القيمّة و الآثار المفيدة الغالية.
فحياة
الفيكونت كانت سلسلة من الجهود تضعف امامها العزائم الاكثر صلابة و الهمم
الاكثر قعسا.
كتبه
المطبوعة: ألف الفيكونت في عالم الكتب عددا وافرا و جمع من الآثار الكتابية
ما لا يحصى نعدّد هنا بعض ما نشره:
القلادة النفيسة في فقيد العلم والكنيسة – السلاسل التاريخية في أساقفة
الابرشيات السريانية – خزائن الكتب العربية في الخافقين (أربعة مجلدات)-
اللغة العربية في اوربا (ثروتها ومكانتها) عصر العرب الذهبي – عصر السريان
الذهبي- بحث تاريخي علمي عن القرآن - نبذة مختصرة في الصحف العربية المصوّرة
– أصدق ما كان في تاريخ لبنان وصفحة من أخبار السريان (مجلدان)- ردّ العسف
والبهتان عن كتاب اصدق ما كان، وهو مجموعة مقالات ظهرت في جريدة البيرق
البيروتية ردا على بعض المتهوسين المتهورين الذين نقدوا كتابه لا نقدا نزيها
بل بقواذع الكلام والسباب والشّتائم معرضين عن الحجج العقلية و البراهين
النقلية التي استعان بها حضرته فكان له النصر ولخصومه الخذلان- ديوان قرّة
العين- علاقات ملوك فرنسا بملوك العرب – المخطوطات العربية المصورة و
المزوّقة – ارشاد الاعارب الى تنسيق الكتب في المكاتب – الجوهر الصافي في
أبدع القصائد المشتركة القوافي- تاريخ الصحافة العربية (مصوّر) في اثني عشر
مجلدا نشر منه أربعة مجلدات ( والباقي لم يشا نشرها لأنه رأى- حسب قوله – انه
يوجد بعض الصحافيين لا يستحقون تخليد اسمهم في كتاب رصين عالمي يستند اليه
العلماء و المؤرخون في مستقبل الزمان، و هذا الكتاب هو الاول و الوحيد نوعه
في اللغة العربية).
هذا وقد وضع العلامة المرحوم
فيليب دي طرازي مؤلفات عديدة غيرها في أبحاث مختلفة وبرّز بشكل خاص في القسم
التاريخي الشرقي- وكان يعتمد طريقة الغرب في أساليب كتاباته بحيث كان يسند كل
حادثة الى مصادرها معزّزا اياها بالبرهان. و قد تميزت مؤلفاته عن سواها
بابتكار مواضيعها التي لم يطرقها أحد قبله.
كتبه المخطوطة:
ان تآليف الفيكونت دي
طرازي تربو على الـ 25 نذكر منها: ترويح الانفس في ربوع الاندلس- مشاهد
السياح و السائحات من الاندلس الى المشرق و من المشرق الى الاندلس- تاريخ
نابوليون الاول- تاريخ الدولة المصرية في عهد السلالة المحدية العلوية- ماضي
أبرشية بيروت السريانية و حاضرها- مفاخر الزمان في اشهر مشاهد لبنان- كشف
العار والهوان عن زعانف الشرّ والفتن في لبنان- قطر الندى في ردّ الصدى-
التحفة في تاريخ دير الشرفة- ديوان نفحة الطيب- كشف المخبآت عن سارقي الكتب
وأعداء المكتبات الخ...
مجموعاته
الاثرية: المجموعة
الاولى هي مجموعة صحفية تضم خمسة آلاف صحيفة مختلفة من كل الجرائد والمجلات
التي ظهرت شرقا و غربا في اللغات العربية و اليونانية و العبرية و الارمنية و
الفارسية و الكردية و التركية و التترية و الهندية و الأوردية الخ. و رتبها
ترتيبا محكماً. أُعجب بها كل من شاهدها من العلماء والمستشرقين و الصحفيين و
هي مجموعة فريدة لم يسبق لأحد قبله أن يتصدى الى جمع مثلها. و له مجموعة
تتضمن خطوط مشاهير الرجال و شهيرات النساء من سلاطين و ملوك و وزراء و أمراء
و علماء و شعراء و أئمة دين، بالاضافة الى مجموعات أخرى في مواضيع شتى.
اهداءاته:
كما كان للفيكونت فيليب ولع
في جميع الكتب. كذلك كان به ولع أيضا في اهدائها الى أصحابه و الى المكتبات
العامة، أن اولى بها و بالاستفادة منها من أن يغلق عليها في خزائنه.
ونورد هنا اسماء بعض المكتبات
التي كان لها نصيب من هداياه: المكتبة الملكية في فيينا- المكتبة الفاتيكانية
في روما- المكتبة الاهلية في باريس- المكتبة الاهلية في برلين- مكتبة الجامع
الاقصى في القدس- مكتبة المدرسة البطريركية في بيروت- مكتبة دير الشرفة في
لبنان و قد بلغ ما أهداه اليها ألفين وستمائة مجلد مطبوع و مائتين و عشرين
مجلدا و مخطوطا. أما دار الكتب الوطنية التي أسسها هو نفسه فقد نفحها بأكثر
من خمسة آلاف و ستمائة مجلد مطبوع و ثلاثمائة و اربعة وأربعين مجلدا مخطوطا
من كتبها العربية الخاصة.
أعماله الخيرية:
كان الفيكونت فيليب
من الرجال المحسنين الذين قل أن تجود الانسانية بمثلهم. فالمساعي الخيرية
التي أداها في حياته، يذكرها الناس باعجاب واكبار، و قد أبدى من الاحسان
ضروبا، و فضائل المبرات ما تعجز عنه الجماعات، كما قام ابان الحرب العالمية
الاولى بأعمال عظيمة باهرة حدت العلامة محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي
العربي على أن يقول عنه في جريدة المقتبس تحت عنوان "المحسنون": " و
كالفيكونت فيليب دي طرازي في بيروت الذي لم يدع ستارا في بيته الا خاطه البسة
للمحتاجين و هو قد جعل ديدنه، صباح مساء، أن يوزّع الخبز والطحين على معسري
بلدته...".
تاسيسه دار الكتب
الوطنية: كأن ما اصطنعه من المعروف الى
المعسرين و ما نشره من التآليف في عالم الادب و التاريخ لم يكف الفيكونت
فيليب ليخلد اسمه مدى الدهر حتى راح يسعى وراء تأسيس مكتبة أهليَة، ضنا
بكرامة بيروت العلمية و حفظا لمقامها الادبي و لمساعدة الطلاب و روّاد العلم
على انتهال الثقافة من ينابيعها الصافية. فأفرد في بيته مكانا جعله "نواة"
لدار الكتب عام 1921- وبقيت هذه النواة في بيته طوال سنتين و قد استخدم لهذا
الغرض خمسة موظفين برواتب محترمة مغرية من جيبه الخاص. ثم أخذ يراسل العلماء
و مدراء المكاتب على ما سبق و قدّ منا، و قلّ منهم من أحجم عن مساعدته و
تلبية طلبه نظرا لما كان له من المقام الادبي و العلمي في دنيا الادب شرقا و
غربا. و قد جمع بعد جهد متواصل نحوا من 21 ألف من المجلدات الثمينة الجزيلة
الفائدة و مئات المعاجم و الموسوعات التي يندر وجودها حتى في دور الكتب
العالمية نفسها- نذكر منها:
" مجموعة الابحاث الاوقيانوسية"
لأمير موناكو البرت الاول و قد نشر منها سبعون مجلدا مزينة بالرسوم. ثم
مجموعة "مؤرخي الحروب الصليبية" على اختلاف أديانهم ولغاتهم مطبوعة باللغة
الاصلية مؤلف مع ترجمتها الى اللغة الفرنسية الخ...
وقد عين الفيكونت أمينا عاما
لدار الكتب من عام 1921 حتى عام 1940. و مما يجدر ذكره ان فخامة الرئيس
اللبناني الاول كميل نمر شمعون كان موظفا عند الفيكونت فيليب في دار
الكتب من سنة 1922- 1924، و كانت مهمته آنذاك درس الكتب الفرنسية وتنسيقها،
وتجمع دار الكتب اليوم 80 ألف كتاب(بحسب احصاء عام 1957).
أوسمته:
لقد أكرمت الحكومات شرقا و
غربا شخص الفيكونت و قدّررت مساعيه و ما بذله من الجهود في سبيل نشر الثقافة
في كافة الاقطار فمنحته أوسمة رفيعة تزيد على العشرين وساما، وقد عُين عضوا
في أكثر من خمس عشرة جمعية ومجمعا علميا.
و تحدث الى كثير من الملوك
والامراء والحكام وكبار العلماء نذكر منهم غليوم الثاني امبراطور المانيا و
ميلان الاول ملك الصرب و البرت الاول أمير موناكو و الامير رولان بونابرت
عميد الاسرة البونابرتية، و محمد الخامس السلطان العثماني و البابا لاون
الثالث عشر و عبد الحفيظ سلطان المغرب و فيصل الاول، ودومرغ رئيس جمهورية
فرنسا وغيرهم كثيرين.
أخيرا أرى في ختام مقالي عن
الفيكونت فيليب دي طرازي، أن أورد ما نشرعنه المستشرق الالماني مرتن هرتمن في
كتاب رحلته الى سوريا و لبنان قال "زرته في منزله فخلَّفت تلك الزيارة،
تأثيرات بليغة. كنت أفتكر، ان الفيكونت من المدعين بالعظمة، فاذا هو متناه
باللطف، انيس المعاشرة و نابغة، واسع المعرفة بكل شخص تطرقنا لذكره، وبكل
حادثة بحثناها. و شاهدت في خزائنه ، ذخائر علمية، جمعها بسعيه و جدّه، وكلها
تدل على قوة اللبناني، متى شاء امرا، و على ذكاء الفيكونت ومقامه العلمي..."
تغمَّده المولى برحمته ورضوانه وكافأه عداد حسناته.
حلب 18 كانون الاول 1979
المطران
ديونوسيوس فيليب بيلوني
رئيس أساقفة حلب و توابعها
للسريان الكاثوليك
|