لمّا استولى
الصليبيون على السواحل اللبنانية اندمجوا في اهاليها و ولّوا عليها امراة
من الفرنج بني جنسهم. و أطلقوا الحرّية للنصارى عموماً في قضاء شعائرهم
الدينية. و اذا خصصنا الكللام بالملّة السريانية قلنا ان ملوك الصليبيين و
امراءهم عاملوها و عاملوا رؤساءها معاملة حسنة طيبة. و لم يتعرّضوا لها في
الشئون المذهبية على رغم ما بينهم و بينها من الاختلاف في العقيدة. و اليك
ما صرّح به ميخائيل الكبير في تاريخه قال ما تعريبُه: " تمتّع اساقفة
السريان و كهنتهم بالراحة و السكينة في عهد دولة الصليبيين. فلم يلحقوا بنا
ادنى اذى لأنّهم كانوا يعتبرون جميع الساجدين للصليب على حد سوى. لا
يماحكونهم في المسائل الدينية كما يماحكهم أساقفة الروم" (1).
و قد و جد الصليبيون في
السريان دون الملكيّين قوماً مسالمين مخلدين الى السكينة. فامتزجوا بهم و
صافوهم و اتخذوا منهم معظم الاطبّاء و الصيادلة في الجيوش. و حصروا فيهم
اعمال الترجمة في الدوائر الاداريّة فقألفّت من
موظفي الفريقين فئ’ فرنجية سريانية نالت إعجاب الرحّالة ابن جبير
بتنظيمها و حسن معاملتها (2). وانشأ الصليبيون في كل مدينة و دسكرة احتلوها
محكمة للنظر في المسائل التجاريّة مؤلفّة من ستة اعضاء: اربعة سريان واثنين
من الفرنج (3).
وكانت العلاقات بين ملوك
الصليبيين و احبار السريان على أحسن ما يرام كما شهد المؤرخون المعاصرون
الذين دوّنوا اخبار الحقبة الصليبية. فالبطريرك اثناسيوس السابع (1091-
1129) كانت له منزلة رفيعة عند جوسلين الامير الصليبيّ. و قد حلّ البطريرك
ضيفا عليه في "تلّ باشر" (4) عاصمته. و بعد و فاة هذا البطريرك استدعى
جوسلين الى "تل باشر" اساقفة السريان فعقدوا في كنيسة الفرنج مجمعاً
انتخبوا فية بطريركاً جديداً سمّوه يوحنا الخامس عشر (1129-1137). و قد
احتفلوا في الكنيسة عينها احتفالا رائعاً بتنصيب هذا الحبر الانطاكي و
تسليمه العكّاز البطريركّي بحضور جوسلين و وزرائه و اقطاب دولته (5).
و
لما جلس البطريرك اثناسيوس الثامن (1139-1166) سار في اساقفته الى "تل
باشر" فسلمه الامير جوسلين الامتعة البيعية التي كان استحضرها من دير
برصوما المجاور لملطية. و هو من اعظم اديار السريان اتخذه بعض البطاركة
مركزاً لاقامتهم(6). و في السنة 1157 احتفل هذا البطريرك بتدشين كنيسة
ثالثة للسريان في مدينة انطاكية. و قد تم ذلك بحضور الملكة ايزابيل و رهط
من الاحبار و رهبان السريان و الارمن و الفرنخ (7).
و اثبت ابن العبري ان جوسلين
المشار اليه شعر سنة 1157 بدنو أجله و هو في سجن حلب. فاستأذن حاكم المدينة
في الذهاب الى كنيسة السريان حيث اتمّ فروضه الدينية لدى اغناطيوس مطرانها
و تناول الاسرار من يده ثم عاد الى سجنه و فيه توفي(8). فشيع جثمانه الى
الكنيسة المذكورة باحتفال كبير حضره المسلمون و المسيحسون و دفن ضمنها في
ضريح خاص (9).
و
في السنة 1168 ارتحل البطريرك ميخائيل الكبير (1167- 1200) الى انطاكية
بدعوة من ايمريك بطريركها اللاتيني. فخرج
الى ملاقاته الوف من الاهالي يتقدمهم اركان الحكومة و رؤساء الدين. و وا
كبوه باحتفال عظيم الى كنيسة "القسيان"
كبرى كنائس العاصمة المذكورة. و أَجلسوه هناك على كرسي مار بطرس و هو كرسي
مصنوع من خشب النخل المصفّح بالفضة (10).
و
في تشرين الاول سنة 1179 سار البطريرك ميخائيل عينه للمرة الثانية الى
انطاكية و منها توجه الى اورشليم. فتفقد في طريقه ابرشيات لبنان الخاصعة
لبطريركيته كسلوقيا واللاذقية و عرقا و طرابلس و الحدث و جونية و بعلبك و
غيرها. ثم زار الملك بغدوين الثاني في عكّا و أطلعه على الرسالة التي و
جهها اليه البابا اسكندر الثالث. فابتهج الملك بذلك غاية الابتهاج و بالغ
في تكريم البطريرك السرياني و الاحتفاء بقدومه (11).
و
ممّن كانت لهم علاقات بالصليبيين البطريرك اغناطيوس الثالث (1222- 1252)
الذي سافر الى انطاكية في فريق من الاساقفة. و من هناك انطلق الى اورشليم
فخرج الى استقباله الاخوة الهيكليون (1118- 1312) و حملوه على الأكف و
احاطوا به بمظاهر الاجلال و التوقبر من باب العمود الى دير مريم المجدلية
(2)
وظلت العلاقات بين السريان و
الصليبيين متوثقة العرى طول مدة اقامتهم في
بلاد المشرق. و الى ذلك اشار بطريركنا الانطاكي اغناطيوس بطرس السادس (1678
- 1702) في رسالة كتبها الى لويس الرابع ملك فرنسا (1643- 1715) بتاريخ 2
نيسان 1778 على اثر جلوسه البطريركي قال: "... و ليكن معلوماً لدى عظمتكم
العالية ما صنعت السريان القدماء مع الامراء الفرنساوية في محروسة القدس
الشريف و المحبة و الاتفاق بغاية المودة التي ابدوها امام السلاطين العظام
الذين حكموا عليها" (13).
و الخلاصة ان السريان في عصر
الصليبين تمتعوا بحظوة في اعين ولاة الامور. و كان
اقليرسهم متضلعاً من الآداب السريانية و العربية و اليونانية (14).
و لما ارتحلوا عن المشرق سلموا الى السريان دير
بَن كبير بَن من اديارهم و هما :
دير "ستي مريم" في وادي يوشافاط و دير "البلمند" بجوار طرابلس. و بقي الدير
الاول في حوزة السريان من السنة 1287 حتى السنة 1392 (15). اما دير البلمند
فظل في ايديهم من السنة 1286 حتى السنة 1603 (16).
1-
الحرب الصليبية في الآثار السريانية: صفحة 75
2-
المشرق: مجلد 31 سنة 1933 صفحة 725
3-
راي: المستعمرات الفرنسية في سوريا في القرنين
12 و 13 صفحة 59
4-
تل باشر: قلعة عظيمة بين حلب و البيرة. و في
لحفها بلدة كثيرة المياء والبساتين.
5-
تاريخ ميخائيل الكبير: صفحة 607
6-
الحروب الصليبية في الآثار السريانية صفحة
74-77 و تاريخ العلوم و الآداب السريانية: للبطريرك افرام برصوم: صفحة 509
7-
الحرب الصليبية صفحة 137
8-
تاريخ الدول السرياني:
لابن العبري: صفحة 326
9-
تاريخ ميخائيل الكبير: صفحة 649 و تاريخ الدول
السرياني: لابن العبري: صفحة 316
10-
الملكيّون: بطريركيتهم الانطاكية و لغتهم
الوطنية و الطقسية: صفحة 56
11-
الحرب الصليبية في الآثار السريانية: صفحة 156
12-
تاريخ ابن العبري البيعي: جزء 1 في كلامه عن
البطريرل اغناطيوس.
13-
سجلات المكتبة الاهلية باريس: الرسائل العربية:
رقم 4622
14-
تعاليق ريشار سيمون على رحلة دنديني: تعريب
الخور اسقف يوسف العمستي: صفحة 145- 146
15-
الرهبنة البند كتية في قلسطين: صفحة 8
16-
راجع اصدق ما كان عن
تاريخ لبنان: جزء 1 قسم 6 فصل 15 رقم 2
|