عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

الفكونت فيليب دي طرازي

مؤسس دار الكتب اللبنانية

والعضو في عدة مجامع علمية شرقية وغربية


 السريان و الصليبيون

لمّا استولى الصليبيون على السواحل اللبنانية اندمجوا في اهاليها و ولّوا عليها امراة من الفرنج بني جنسهم. و أطلقوا الحرّية للنصارى عموماً في قضاء شعائرهم الدينية. و اذا خصصنا الكللام بالملّة السريانية قلنا ان ملوك الصليبيين و امراءهم عاملوها و عاملوا رؤساءها معاملة حسنة طيبة. و لم يتعرّضوا لها في الشئون المذهبية على رغم ما بينهم و بينها من الاختلاف في العقيدة. و اليك ما صرّح به ميخائيل الكبير في تاريخه قال ما تعريبُه: " تمتّع اساقفة السريان و كهنتهم بالراحة و السكينة في عهد دولة الصليبيين. فلم يلحقوا بنا ادنى اذى لأنّهم كانوا يعتبرون جميع الساجدين للصليب على حد سوى. لا يماحكونهم في المسائل الدينية كما يماحكهم أساقفة الروم" (1).

و قد و جد الصليبيون في السريان دون الملكيّين قوماً مسالمين مخلدين الى السكينة. فامتزجوا بهم و صافوهم و اتخذوا منهم معظم الاطبّاء و الصيادلة في الجيوش. و حصروا فيهم اعمال الترجمة في الدوائر الاداريّة فقألفّت من موظفي الفريقين فئ’ فرنجية سريانية نالت إعجاب الرحّالة ابن جبير بتنظيمها و حسن معاملتها (2). وانشأ الصليبيون في كل مدينة و دسكرة احتلوها محكمة للنظر في المسائل التجاريّة مؤلفّة من ستة اعضاء: اربعة سريان واثنين من الفرنج (3).

وكانت العلاقات بين ملوك الصليبيين و احبار السريان على أحسن ما يرام كما شهد المؤرخون المعاصرون الذين دوّنوا اخبار الحقبة الصليبية.  فالبطريرك اثناسيوس السابع (1091- 1129) كانت له منزلة رفيعة عند جوسلين الامير الصليبيّ.  و قد حلّ البطريرك ضيفا عليه في "تلّ باشر" (4) عاصمته. و بعد و فاة هذا البطريرك استدعى جوسلين الى "تل باشر" اساقفة السريان فعقدوا في كنيسة الفرنج مجمعاً انتخبوا فية بطريركاً جديداً سمّوه يوحنا الخامس عشر (1129-1137). و قد احتفلوا في الكنيسة عينها احتفالا رائعاً بتنصيب هذا الحبر الانطاكي و تسليمه العكّاز البطريركّي بحضور جوسلين و وزرائه و اقطاب دولته (5).

و لما جلس البطريرك اثناسيوس الثامن (1139-1166) سار في اساقفته الى "تل باشر" فسلمه الامير جوسلين الامتعة البيعية التي كان استحضرها من دير برصوما المجاور لملطية.  و هو من اعظم اديار السريان اتخذه بعض البطاركة مركزاً لاقامتهم(6). و في السنة 1157 احتفل هذا البطريرك بتدشين كنيسة ثالثة للسريان في مدينة انطاكية. و قد تم ذلك بحضور الملكة ايزابيل و رهط من الاحبار و رهبان السريان و الارمن و الفرنخ (7).

و اثبت ابن العبري ان جوسلين المشار اليه شعر سنة 1157 بدنو أجله و هو في سجن حلب. فاستأذن حاكم المدينة في الذهاب الى كنيسة السريان حيث اتمّ فروضه الدينية لدى اغناطيوس مطرانها و تناول الاسرار من يده ثم عاد الى سجنه و فيه توفي(8).  فشيع جثمانه الى الكنيسة المذكورة باحتفال كبير حضره المسلمون و المسيحسون و دفن ضمنها في ضريح خاص (9).

و في السنة 1168 ارتحل البطريرك ميخائيل الكبير (1167- 1200) الى انطاكية بدعوة من ايمريك بطريركها اللاتيني. فخرج الى ملاقاته الوف من الاهالي يتقدمهم اركان الحكومة و رؤساء الدين. و وا كبوه باحتفال عظيم الى كنيسة "القسيان" كبرى كنائس العاصمة المذكورة. و أَجلسوه هناك على كرسي مار بطرس و هو كرسي مصنوع من خشب النخل المصفّح بالفضة (10).

و في تشرين الاول سنة 1179 سار البطريرك ميخائيل عينه للمرة الثانية الى انطاكية و منها توجه الى اورشليم. فتفقد في طريقه ابرشيات لبنان الخاصعة لبطريركيته كسلوقيا واللاذقية و عرقا و طرابلس و الحدث و جونية و بعلبك و غيرها. ثم زار الملك بغدوين الثاني في عكّا و أطلعه على الرسالة التي و جهها اليه البابا اسكندر الثالث.  فابتهج الملك بذلك غاية الابتهاج و بالغ في تكريم البطريرك السرياني و الاحتفاء بقدومه (11).

و ممّن كانت لهم علاقات بالصليبيين البطريرك اغناطيوس الثالث (1222- 1252) الذي سافر الى انطاكية في فريق من الاساقفة. و من هناك انطلق الى اورشليم فخرج الى استقباله الاخوة الهيكليون (1118- 1312) و حملوه على الأكف و احاطوا به بمظاهر الاجلال و التوقبر من باب العمود الى دير مريم المجدلية (2)

 وظلت العلاقات بين السريان و الصليبيين متوثقة العرى طول مدة اقامتهم في بلاد المشرق. و الى ذلك اشار بطريركنا الانطاكي اغناطيوس بطرس السادس (1678 - 1702) في رسالة كتبها الى لويس الرابع ملك فرنسا (1643- 1715) بتاريخ 2 نيسان 1778 على اثر جلوسه البطريركي قال: "... و ليكن معلوماً لدى عظمتكم العالية ما صنعت السريان القدماء مع الامراء الفرنساوية في محروسة القدس الشريف و المحبة و الاتفاق بغاية المودة التي ابدوها امام السلاطين العظام الذين حكموا عليها" (13).

 و الخلاصة ان السريان في عصر الصليبين تمتعوا بحظوة في اعين ولاة الامور. و كان اقليرسهم متضلعاً من الآداب السريانية و العربية و اليونانية (14). و لما ارتحلوا عن المشرق سلموا الى السريان دير بَن كبير بَن من اديارهم و هما : دير "ستي مريم" في وادي يوشافاط و دير "البلمند" بجوار طرابلس. و بقي الدير الاول في حوزة السريان من السنة 1287 حتى السنة 1392 (15). اما دير البلمند فظل في ايديهم من السنة 1286 حتى السنة 1603 (16).

1-     الحرب الصليبية في الآثار السريانية: صفحة 75

2-     المشرق: مجلد 31 سنة 1933 صفحة 725

3-     راي: المستعمرات الفرنسية في سوريا في القرنين 12 و 13 صفحة 59

4-     تل باشر: قلعة عظيمة بين حلب و البيرة. و في لحفها بلدة كثيرة المياء والبساتين.

5-     تاريخ ميخائيل الكبير: صفحة 607

6-     الحروب الصليبية في الآثار السريانية صفحة 74-77 و تاريخ العلوم و الآداب السريانية: للبطريرك افرام برصوم: صفحة 509

7-     الحرب الصليبية صفحة 137

8-     تاريخ الدول السرياني: لابن العبري: صفحة 326

9-     تاريخ ميخائيل الكبير: صفحة 649  و تاريخ الدول السرياني: لابن العبري: صفحة 316

10- الملكيّون: بطريركيتهم الانطاكية و لغتهم الوطنية و الطقسية: صفحة 56

11- الحرب الصليبية في الآثار السريانية: صفحة 156

12- تاريخ ابن العبري البيعي: جزء 1 في كلامه عن البطريرل اغناطيوس.

13- سجلات المكتبة الاهلية باريس: الرسائل العربية: رقم 4622

14- تعاليق ريشار سيمون على رحلة دنديني: تعريب الخور اسقف يوسف العمستي: صفحة 145- 146 

15- الرهبنة البند كتية في قلسطين: صفحة 8

16- راجع اصدق ما كان عن تاريخ لبنان: جزء 1 قسم 6 فصل 15 رقم 2

 
 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها