- الجزء التاسع
بسبب
سريانيتهم،
أعطي الموارنة،
فوق إمكان ربط أنفسهم
بالعالم السرياني
الحي، أن يكونوا أقرب الناس، مزاجيًا وتراثيًا، الى العرب واليهود معًا.
اللغة أهم ظاهرة حضارية، لأنها بأعمق معانيها هي الحياة، تُعيّن الجذور
والأصول والتراث، تُعيّن وشائج القربى.
عندما نقول "اللغات الهندو
أوروبية"، نقرر فوراً الوشائج الأصولية بين
الحضارتين، السنسكريتية والأوروبية. عندما نقول "اللغات السامية"، نقرر
فوراً الوشائج الثقافية بين متكلمي هذه اللغات.
الآرامية
والعبرانية والعربية بنات عم، وبالتالي تنحدر جميعاً من جب ثقافي واحد.
اليهود في فلسطين في عهد المسيح لم يتكلموا العبرانية بل
الآرامية.
ثم
آرام
في التوراة ابن سام وحفيد ناحور أخي ابراهيم. فيكون
الآراميون
أولاد عم العبرانيين. ومن أشعيا 11:36 نستنتج ان الآرامية كانت منذ نهاية
القرن الثامن قبل المسيح
اللغة الدولية (LINGUA
FRANCA)
بين شعوب غرب آسيا، وان اليهود كانوا يعرفونها ويتكلمونها.
الآرامية عمت شعوب هذه المنطقة
قبلما
عمتها العربية، أما العبرانية فلم تعمها أبداً.
الآرامية، إذاً، لغة وحضارة،
جب نهلت منه العبرانية والعربية في آن.
الآرامية خلفية
من خلفيات هاتين اللغتين والحضارتين، بينهما لا العبرانية ولا العربية
تشكل خلفية للآرامية بنفس المعنى.
والموارنة اليوم هم الورثة الأحياء الأحرار لهذه الخلفية.
من يدري إذاً ما هي إرادة العناية بشأن تطور علاقتهم مع العرب واليهود؟
القربى السامية والأساسية بين الموارنة والعرب واليهود قد يكون لها في
تدبير العناية، أثر مصيري في تطور هذه المنطقة المأهولة بالشعوب الثلاثة
والحضارات الثلاث. قلنا ان سراً يكمن في مجرد وجود المارونية، وقد يكون
مفتاح هذا السر هذا الأثر المصيري بالذات. لا يدري هذا السر غير الله.
بكل تأكيد لا يدريه الموارنة في كماله بعد، ولا يدريه أحد في لبنان أو في
خارج لبنان.
المؤمن لا يؤمن بالصدفة والقدر، المؤمن يرى، بالإيمان، العناية وراء كل
شيء وفوق كل شيء وأمام كل شيء. يؤمن بوجودها حتى في حال جهله لمشيئتها
تمامًا، بل بالضبط في حال هذا الجهل. يؤمن بها ويصبر على تجلي حقيقتها.
يعرف أن لكل تجلِّ وقته وزمنه.
لماذا بقي الموارنة حريصين على تراثهم الآرامي؟
هل هي مجرد الصدفة التي أبقتهم؟ هل هي مجرد طبيعة الأشياء التي نفقهها
بالعقل التي أبقتهم؟
هل هو مجرد قبوعهم في هذا الجبل المنيع؟
المؤمن لا
يرتاح لأي من هذه التعاليل. يعيش في حضرة شيء حقيقي سري فوق الطبيعة وفوق
العقل، شيء يرفض الصدفة مبدئياً ومن الأساس.
المؤمن على الأقل يتساءل:
أليس للعناية الإلهية يد في هذا الأمر؟ إذا وُجد الله ووجدت معه عنايته
بكل شيء في الوجود، بما في ذلك وقبل كل شيء بالإنسان ومصيره: أليس
معقولاً، بل منتظر أن
يكون لبقاء الموارنة، بتراثهم الآرامي العريق، مغزى أزلي في هذه الآونة
بالذات،
في هذه البقعة بالذات، حيث يحيي اليهود تراثهم وحياتهم وذاتيتهم
المستقلة، ويحيي العرب تراثهم وحياتهم وذاتيتهم المستقلة، وحيث التراثان
والذاتيتان يتقابلان ويتحديان بعضهما البعض ويصطدمان؟ ألا يجدر بهم أن
يستقرئوا هذا المغزى؟ أضف الى
آرامية الموارنة
مسيحيتهم – والمسيح هو من هو -، وأضف الى مسيحيتهم رومانيتهم – ورومية هي
ما هي -، وأضف الى الإثنين أوروبيتهم وغربيتهم – وأوروبا والغرب هما ما
هما -،
تبزغ أمامك آفاق تحد للموارنة تصرع العقل. تصرع العقل...،
وتبث في النفس المارونية وفي النفس اللبنانية على العموم منتهى التواضع
والإنكسار والخشوع. |