لجزء السابع
التراث السرياني الآرامي الشرقي
أعطي الموارنة هذا الارتباط الوثيق برومية. التراث المسيحي الشرقي
الأرثوذكسي مفتوح للأرثوذكسية بتمام كماله، بينما المارونية، بالإضافة
الى التراث السرياني الآرامي الشرقي،
مفتوحة الى التراث الغربي المسيحي الروماني. المارونية ليست مفتوحة الى
التراث الأرثوذكسي الشرقي انفتاحها الى التراث الروماني الغربي. رومية،
بما تعنيه عالميًا وتراثيًا، خلّصت الموارنة من أي انعزالية محض محلية أو
شرقية. إنه ثراء هائل، أن ترتبط الشرقية
السريانية، على محدوديتها، بالغربية الرومانية بعالميتها
اللامحدودة.
هذا الجمع الفريد، حضارياً وعقائدياً، بين الشرق والغرب، أعطيته
المارونية بشكل رائع، وهي المؤتمنة عليه. هو الذي يكافحه المتزمتون
الإنعزاليون الشرقيون اليوم ويبتغون محوه من الوجود. إن متهمي الموارنة
بالإنعزالية هم الإنعزاليون الأصليون، لأنهم هم عزلوا أنفسهم، كيانياً
وتراثياً، عن الحضارة الواحدة المتراكمة، والمتفاعلة من الداخل – الحضارة
المتراكمة المتفاعلة منذ هوميروس وموسى حتى اليوم. إنّ ما يضمره ويخططه
هؤلاء الإنعزاليون الأصليون الحقيقيون للموارنة هو أن يتخلوا عن غربيتهم
الرومانية العالمية وينضموا إليهم في عزلتهم الشرقية، حتى وإن بقي
الموارنة رائعين في سريانيتهم المحلية.
عندئذ يصبح الموارنة أريوسيين أو ما آلت إليه الاريوسية. وهذا بالطبع
مستحيل
علاقة
الموارنة برومية هي التي حفظتهم من أي انحراف عقائدي. أياً كانت عقادئهم
في البداية، أو أياً كان جنوحهم العقائدي، قبل تمتين هذه العلاقة (وأنا
لا أعرف الكافي الفاصل في أمر موقفهم الأصلي من الإرادة الواحدة والطبيعة
الواحدة)، فهم الآن في مأمن تام من الوقوع في أي زلل إيماني. هم كاثوليك
بكامل معنى الكلمة، ولذلك لا مجال لأي اختلاف عقائدي أساسي بينهم وبين
الأرثوذكس، إلا بما يمس عصمة البابا، وهذا شأن يُنظر فيه اليوم بجدية
تامة على أعلى المستويات بين الأرثوذكس والكاثوليك. إني اعتبرها عطية
كبرى، هذه التي أعطيها الموارنة بارتباطهم الكياني، مزاجياً وفكرياً
وعقائدياً، بالشرق والغرب معاً، عطية ليس فقط لهم هم، بل لسائر المسيحيين
في المشرق، وللبنان عامة، وحتى لمسلمي ويهود الشرق الأوسط كافة. البرهنة
على عظمة هذه العطية وخطورتها تقتضي بحثاً خاصاً من أعمق الأبحاث وأدقها،
بحثاً لسنا هنا في صدد الولوج فيه. مجرد الإيماء إليه يكفي لإثارة فضول
المزيد لتأمله واستكشاف خفاياه وأسراره.
أما ارتباط الموارنة التقليدي بفرنسا فيمكن اعتباره متمماً لارتباطهم
برومية أو متفرعاً منه. الأصل رومية الكاثوليكية والفرع فرنسا اللاتينية.
ثم العالم كله، بما في ذلك ألمانيا وروسيا وأميركا، كان في القرون
الغابرة مرتبطاً بفرنسا، برغم أن هذه الشعوب لم تكن كاثوليكية، وفي بلاط
فريديريك الكبير البروتستانتي وكاثرين الكبيرة الأرثوذكسية كانت الفرنسية
هي اللغة الرسمية المعتمدة وكانت الثقافة الفرنسية هي المؤثر الأول. أما
الثورة الأميركية والقانون والفكر الأميركيان المنبثقان من هذه الثورة،
أو المنطويان في أساسها، فكانت كلها، الى حد بعيد، أثراً للفكر الفرنسي،
في القرن الثامن عشر. وهكذا، عندما اجتمع الدين الكاثوليكي العالمي
والثقافة الفرنسية العالمية في بلد واحد، هو فرنسا، صار من الطبيعي أن
يشد الموارنة الكاثوليك الإرتباط، ثقافياً ودينياً، بهذا البلد. واليوم،
مع استمرار تعلق الموارنة الشديد بالثقافة واللغة الفرنسيتين – ولا يجوز
لهم إطلاقاً إضعاف هذا التعلق -، تجدهم يفتشون عن عالمية جديدة مكملة
للعالمية الفرنسية. ولعلهم يجدونها في العالمية الأميركية، خاصة
والكاثوليكية في أميركا حية فاعلة نابضة، لربما، بعنى محدود معين، أكثر
منها اليوم في فرنسا. هذا مع العلم ان الكاثوليكية في أميركا تنوء هي
أيضاً تحت أزمة أساسية عارمة. رومية ربطت الموارنة بالتراث اليوناني
والروماني الأوروبي الغربي العالمي، وذلك، حضارياً، بواسطة اللغة
والثقافة الفرنسيتين. هذه من أكبر النعم التي أعطيها الموارنة. تصور
الموارنة بدون رومية وبدون فرنسا وبدون أوروبا وبدون الغرب! يصبحون عندئذ
مجرد أثر تذكاري، هذا إذا بقوا في حيز الوجود! رومية وباريس عطيتان
عظيمتان أعطيها الموارنة، وعليهم أن يحافظوا عليهما حفاظهم على الحياة
ذاتها والبقاء.
فضل
رومية على الموارنة فضل لا يُقدّر، وردهم على هذا الفضل وفاؤهم لها.
رومية فتحت أمامهم آفاق الإنسان والتاريخ والعالم، وبذلك دخلوا الى حد
بعيد في التراث الإنساني العالمي الواحد المتراكم. هذا الدخول مكن فيهم
حبهم للحرية التي هم فيها أصيلون. الحر الحقيقي هو العالمي الإنساني فقط،
أما المكتفي من الوجود بفتاته، أعني بذاته وهو لا غير، فهو عبد لهذه
الذات، وباكتفائه هذا عطّل على ذاته صفة التعجب والفضول، وصار موقفه من
الغير موقف الجاهل الخائف. والجاهل الخائف هو العبد بالذات، عبد لجهله
وعبد للأشباح التي يتوهمها في الظلام المخيف. الحر يعرف العالم كله،
ولأنه إنساني لا يجد نفسه غريباً، بمعنى كياني، في أي مكان فيه، ولا يخاف
إلا الله والحقيقة، بمعنى المخافة الذي يتناسب مع الله والحقيقة.
والموارنة، بفضل رومية، يعرفون العالم، زمنيًا ومكانيًا، ومخافتهم تركّز
على الله والحقيقة فقط.
يتبع |