الجزء الثالث
"لمحة موجزة عن أسباب ضعف الكنيسة في القرن الماضي"
خرجت الكنيسة السريانية الارثوذكسية بعد مجازر الإبادة
ܣܝܦܐ
التي تعرض لها السريان عام 1915 (سيفو)، مثخنة الجراح ومتقطعة
الاوصال
تلهث وتنزف
ليلا نهاراَ تبكي على شهدائها الأموات والاحياء.
وتبدلت خريطة هذه الكنيسة كثيراً،
حيث زالت ابرشيات بأكملها من الوجود بعد ابادة سريانها وتدمير
الكثير من كنائسها وقتل اكليروسها، وخلت مناطق سريانية التاريخ
والهوية من اصحابها ففقدناها للأبد، وقل عدد السريان الى مستوى
مخيف.
لكن سرعان ما نهضت الكنيسة تلملم بقاياها وتنظم صفوفها من جديد.
فتأسست ابرشيات جديدة في مناطق جديدة مبتدئة حياتها من الصفر.
وأرسل الله لهذه الكنيسة بعد الإبادة السريانية، بطاركة كانوا على
قدر كبير من المسؤولية واتخاذ القرارات ونكران الذات، فقام
البطريرك الياس شاكر (1917-1932) يلملم بقايا الكنيسة وينظمها من
جديد، وتبعه البطريرك العلامة افرام الأول (1933-1957) فاخرج تاريخ
الكنيسة وأمجادها القديمة وجدد عظمة الثقافة السريانية ودافع عن
حقوق السريان في المحافل، وسار على خطاه البطريرك يعقوب الثالث
(1957-1980) فقام بتعريف العالم على الكنيسة وماضيها وآبائها
وانفتح على الفاتيكان، فتبعه البطريرك زكا الأول (1980-2014) فأقام
علاقات مسكونية جدية مع جميع الكنائس الأخرى بغية التقارب. واليوم
ننتظر من قداسة البطريرك افرام الثاني ان يكمل خطوات اسلافه في
المجالات الكنسية، وخاصة انه الزم نفسه بالسير على خطاهم عندما
استعمل ايقوناتهم وصلبانهم اثناء حفلة تنصيبه. ونتوسم ان يكون رجل
الإصلاح ليكون عهده "عهد اصلاح كنسي".
لكن لم تتوقف مصائب السريان والكنيسة عند حد الإبادة السريانية
ܣܝܦܐ
(سيفو)،
فقد استمر اضطهاد السريان والكنيسة بفصول جديدة واستمرت سلسلة
مآسيهم تأخذ اشكالاً أخرى. فقد نفذ الأتراك بحقهم حملات التطهير
العرقي والطرد من بعض مناطقهم السريانية، كطرد بقايا السريان
الرهاويين من مدينة اورفا (الرها) عام 1924 وتبعثروا بين مختلف
البلدان والمدن وبقلبهم حسرة على مدينتهم. وعلى أثرها أقام
السريان الرهاويون في مدينة حلب بعض الدعاوى القانونية على بلدية
أورفا (الرها)، لأنها اخذت منازلهم وابتزت أموالهم وطردتهم من
مدينة اجدادهم، التي كانت عبر تاريخها الحضاري فخر الامة السريانية
بما انجبته من ملوك وكتّاب وحضارة. لكن من السامع ومن المجيب،
طالما ان القاضي هو نفسه الخصم والحكم.
وفي بداية سبعينات القرن الماضي تعرضت البقية الباقية من السريان
في جنوب تركيا لمضايقات كبيرة على اثر حرب قبرص، مما دفع بالسريان
الى هجرة مناطقهم السريانية والتوجه الى أوروبا، وفي الثمانينات
اصبح سريان طورعابدين ضحية الصراع بين الاكراد والحكومة التركية
فتجددت خسائر السريان وازداد نزيف هجرتهم. كما ان حملات التعريب
العنصرية في سوريا في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي
والضغوط المستمرة على السريان، كمنع لغتهم السريانية واغلاق
المؤسسات السريانية الرياضية والاجتماعية والتعليمية
(كإغلاق نادي الرافدين والمدارس السريانية)،
حمل الكثيرين منهم الى الهجرة الى لبنان وأوروبا بحثا عن حياة افضل
في ظلال الحرية والديموقراطية. وكان الحكم البعثي في سوريا قد قام
بحملات تعريب متنوعة منها توطين بعض القبائل العربية في الجزيرة
السورية، ومنها تعريب أسماء المئات من القرى والبلدات في ريف حلب،
فالغوا اسماءها السريانية وأعطوها أسماء عربية. وكانت نفس
الاجراءات قد حصلت في تركيا عندما قامت الحكومة التركية العنصرية
بإلغاء الأسماء السريانية من قرى السريان واستبدالها بأسماء تركية
فتبدلت معالم الهوية السريانية. ان هذه الإجراءات بحد ذاتها تعتبر
ايضاً إبادة.
وفي نفس الفترة اندلعت الحرب الاهلية اللبنانية فدفعت بالكثيرين
من سريان لبنان الى الهجرة المؤقتة على أمل العودة بعد انتهاء
الحرب، لكن الحرب اللبنانية استمرت لسنوات طويلة وتحولت هجرة
السريان المؤقتة الى دائمة، فاستملكهم البكاء والتحيّف على لبنان
الذي كانوا قد تنفسوا فيه هواءً نقية فأحبوه.
لقد عانت الكنيسة في سبعينات القرن الماضي من مشاكل جمة اتسمت
بالفوضى والضعف وقلة الموارد ونقص العاملين وغياب الكفاءات فيها.
إذ كانت الحرب الاهلية اللبنانية حينها قد أثرت فيها وتركت بصماتها
الكبيرة على الكنيسة، فعانت الكنيسة مما عانته حينها، رغم عنفوان
المرحوم البطريرك يعقوب الثالث وقوة شخصيته وسعة علمه وصلابته.
ووقعت المدرسة الاكليريكية حينها ضحية للمشاكل، فأقفلت أبوابها،
وتم ارسال معظم الطلاب الاكليركيين الى بلدانهم وبيوتهم. فخسرت
الكنيسة والطائفة خسارة معنوية ومادية كثيرة لا تعوض، لأنها خسرت
جيلاً كاملاً من الطلاب الاكليريكيين الذين هذبتهم الكنيسة وعلمتهم
وربتهم لعدة سنوات وهي تعقد الآمال عليهم ليستلموا مناصبا عالية
فيها مستقبلاً. فدخلت الكنيسة في فراغ قاتل.
كما ان حملات التعريب القديمة، والنكسات السياسية والعسكرية
المتكررة في العراق خلال العقدين الماضين دفعت بالكثير من سريان
العراق الى الفرار والهجرة الى السويد وغيرها من البلدان
الأوروبية. وأخيراً جاء داعش، وأكمل المسلسل ففرغت المناطق
السريانية العريقة بسريانيتها في العراق وسوريا وتوجه الكثير من
السريان الى الدول الاوروبية.
لذلك تتسم مسيرة الكنيسة في هذه المرحلة الحرجة بان غالبيتها خرجت
من موطنها التقليدي وأصبحت كنيسة مهاجرة فثقلت أعباؤها وازدادت
مشاكلها.
لقد هاجر السريان الى بلاد الغرب، وخاصة السويد وألمانيا، حيث
تسود القوانين والأعراف والعادات المدنية والعلمانية فنظموا حياتهم
ومؤسساتهم وكنائسهم حسب قوانينها. وبعد سنوات من الاستقرار
والتفاعل معها اندمجوا بمجتمعاتهم الجديدة وتغير وضعهم على كافة
الاصعدة، فتغيرت نظرتهم الى الكنيسة والاكليروس والإدارة وأسلوب
العمل من جهة، وتعلموا مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان
وحقوق السريان من جهة اخرى. كما ان الكثيرين منهم انتزعوا من
قلوبهم الخوف التاريخي من الحاكم العربي/التركي المستبد، ورفضوا
التبعية الذميّة، وتحرر فكرهم من بقايا "النظام الملي" التعيس الذي
خلفته العهود الإسلامية العربية والعثمانية. وأسسوا مؤسسات وحركات
سريانية علمانية متنوعة انتظم الكثير من السريان في صفوفها، فبدأت
تعمل وتدافع عن السريان وعن حقوقهم في مختلف المحافل المحلية
والدولية، وتمثلهم في هذه المحافل. ولم يعد مقبولا من الكهنة ان
يمثلوا السريان إلا في القضايا الكنسية والايمانية فقط. لذلك أصبحت
ادارة الكنيسة في هذه المرحلة مختلفة تماماً عن ماضيها التقليدي،
لأنها يجب ان تقوم على الاحترام والقانون والديمقراطية. كما ان
الإدارة المالية اصبحت، ولو اسمياً، بيد العلمانيين وذلك تمشياً مع
قوانين البلدان الأوروبية. وأصبح المطران والقس والراهب في السويد
موظفين في الكنيسة، ومجلس الكنيسة من العلمانيين هو رب العمل.
وتغير مفهوم الكنيسة في أوروبا وسقط تعريفها القديم من كونها
"جماعة المؤمنين" لتصبح "كنيسة/مؤسسة دينية واجتماعية وقومية
وثقافية تضم أعضائها من مؤمنين وغير مؤمنين، وكذلك الذين يترددون
اليها لأجل الصلاة أو للقاء الأصدقاء أو للتسلية ولممارسة النشاطات
الاجتماعية ولسد الفراغ". فالكنائس السريانية وغيرها هنا تعتبر
كالجمعيات وتخضع لقوانين الجمعيات العامة من حيث التنظيم والإدارة
والتشكيل والحل.
ان غالبية الشباب السرياني الذي نشأ او ولد في اوروبا غير مبال
بالكنيسة والايمان إلا ما ندر لأنه تربى في المجتمع على المفاهيم
العلمانية البعيدة كل البعد عن الايمان. فعلى سبيل المثال يوجد
حوالي عشرة آلاف سرياني اكاديمي من مختلف الدرجات الجامعية في
السويد، لكن غالبتهم لا يتردد الى الكنيسة لأسباب عديدة منها تتعلق
بهم ومنها تتعلق بالكنيسة مباشرة. ان الكنيسة في السويد تقسم الى
ابرشيتين ومطرانين ولكل ابرشية لجنة للشباب ولا يبلغ عدد العاملين
من الشباب فيها اكثر من العشرات هنا وهناك. فاذا ارادت الكنيسة ان
تربح الشباب والاكاديميين فعليها اصلاح الأخطاء والسلبيات وعصرنة
نفسها والتعاطي معهم بلغة العصر وبالأساليب المدنية، لكن الكنيسة
اليوم غير مؤهلة لهذا لأن غالبية الاكليروس يحملون مفاهيم الشرق
الأوسط ومشاكله رغم انهم يعيشون في الغرب العلماني والمختلف جدا في
كل جوانبه.
بعد تسلم البطريرك زكا دفة البطريركية أراد ان يخلق جيلا من
الاكليروس المثقف فاهتم بالمدرسة الاكليركية، فنقلها الى دمشق
واعطاها اهتمامه الشخصي بعد ان استقبل دفعات جديدة من الطلاب
المنخرطين في صفوف الاكليركية ممن انتظموا فيها. ولأجل اعداد كادر
كنسي مثقف أرسل بعض الرهبان للدراسة في جامعات أوروبية لتحصيل
العلوم الكنسية. لكن الجيل الأول لم يسعفه الحظ ليتمكن من تعلم
التقليد السرياني كما ينبغي ويتشبع بإيمان الكنيسة، وخاصة الرهبان
الذين خرجوا للدراسة في الغرب وهم شباب في مقتبل العمر دون ان يكون
لهم اي مرشد روحي وموجه كنسي، فتركوا لوحدهم امام مهب اعاصير الغرب
وزوابعه، فحاولوا الصمود، لكن بعضهم خسر المعركة واستمرت السلبيات
والعيوب. وكلما جاء جيل جديد من الاكليركيين انتقلت اليه السلبيات
والعيوب من الجيل الاقدم، وبقيت مستمرة لغاية اليوم.
يتبع
الجزء الرابع |