عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

ستوكهولم / السويد


البطريرك الراحل زكا الاول ما قبله وما بعده

في يوم تنصيب البطريرك زكا الاول على الكرسي البطريركي في دمشق بتاريخ 14 أيلول 1980، كانت سوريا تعاني من اضطرابات ومشاكل سياسية واغتيالات وفقدان حبل الامن بسبب تمرد الاخوان المسلمين ومساعيهم للاطاحة بالسلطة. واليوم، بعد 34 سنة من الجلوس على كرسي البطريركية، يغادر البطريرك زكا هذا العالم وسوريا مركز كرسيه تعاني ليس فقط من مشاكل سياسية وقلاقل اكبر من تلك التي كانت تعاني منها اثناء تنصيبه، بل من حرب طاحنة وقتل يومي وتهجير مخطط للمسيحيين في مجمل بلدان الشرق الاوسط. لكن حياة البطريرك بين حدثي تنصيبه وموته كانت حافلة بالاعمال والانجازات وشهدت استقرارا كبيرا لابناء طائفته في كل المجالات فازدهرت الطائفة والكنيسة كثيراً.
 

توفي بطريرك الكنيسة السريانية الارثوذكسية زكا الاول في صباح الخميس 20 آذار في المانيا وهو في زيارة طبية للعلاج هناك، فنقل جثمانه الى دير مار يعقوب السروجي مركز ابرشية السريان الارثوذكس في المانيا لحين نقله الى لبنان ودمشق ودفنه هناك في مقبرة البطاركة كما اوصى الراحل الكبير.

وفور انتشار خبر الوفاة هرعت الوفود السريانية للدير من كافة الدول الاوروبية للوداع والتبرك والمشاركة في مراسيم تشييعه هناك والتي تمت صباح الاحد بحضور حوالي عشرة مطارنة للطائفة بالاضافة الى مطارنة اخرين من الكنيسة القبطية والكنيسة الاثيوبية لشراكة الايمان بين هذه الكنائس الارثوذكسية، بالاضافة الى عدد كبير من القساوسة والشمامسة وحوالي عشرة الاف سرياني.

 نقل جثمان الفقيد الى لبنان يوم الثلاثاء 26 آذار وستجري له هناك ايضاً مراسيم وداع وتشييع وتجنيز كبير يوم الخميس، لينقل من ثم الى دمشق ليجنز ويدفن يوم الجمعة المقبل في المقبرة البطريركية في دير مار افرام خارج دمشق بمراسيم رسمية تليق برحيل البطاركة.

فور وصول خبر الوفاة الى البطريركية في دمشق، وحسب قوانين الكنيسة في هكذا وضع، قام المطران المعاون/السكرتير البطريركي بدمشق بحضور مطارنة وكهنة اخرين في دمشق باغلاق ابواب البطريركية السريانية وخاصة جناح اقامة البطريرك بالشمع الاحمر، لصيانة جميع ممتلكاته دون ان يمسها احد لغاية اجتماع المطارنة وفتحها معا واحصاء كل ما فيها امام الجميع لأنها املاك الكنيسة. وحسب قوانين الكنيسة السريانية الارثوذكسية لا يجوز للبطريرك ان يمتلك شيئا خاصاً به، بل كل ممتلكاته هي ممتلكات عامة للكنيسة.

كان زكا الاول البطريرك الـ 122 في تعداد البطاركة القانونيين المتسلسلين الذين جلسوا على كنيسة السريان الارثوذكس، وهو ثالث بطريرك سرياني ارثوذكسي من العراق ممن جلسوا على كرسي البطريركية في في القرن العشرين. إذ كان قد نشأ منذ شبابه لدى البطريركين الذين سبقاه يعقوب الثالث البرطلي (1957-1980) وافرام الاول الموصلي (1933-1957) وعمل سكرتيرا لهما في عهد رهبنته فخدمهما وتعلم منهما الصفات الجميلة في تضحية الذات ومحبة المسيح والكنيسة والتراث واللغة السريانية فأكمل مسيرتهما الى ان غادر العالم اليوم.

ولكي نفهم خلفيات الامور التي عاشها البطريرك زكا لا بد ان نقدم نبذة عن وضع كنيسته في قرن العشرين وانجازات البطريركين الذين سبقوه على الكرسي.

ما قبل البطريرك زكا:

خرجت الكنيسة السريانية الارثوذكسية من اشداق الحرب العالمية الاولى مكسورة ومحطمة ومطعونة في الصميم بجرح لا زال ينزف لغاية اليوم. فرغم انها لم تشارك بالحرب أو يكن لها اية علاقة بالحرب والمتحاربين الا انها دفعت الثمن غاليا جداً ربما اكثر من اية مجموعة اخرى. إذ انها خرجت مثخونة بالجراح ومصعوقة بهول المصيبة التي حلت بها وبابنائها بعد ان أباد المتطرفون الاسلاميون من الاكراد والاتراك اكثر من نصف اتباعها في مجازر جماعية وفردية مروعة معروفة باسم "سيفو" والتي تحل ذكرتها السنوية المئوية في هذا العام 2014 (يقوم الاتحاد السرياني/الآرامي العالمي World Congress of Arameans الان باعداد فيلم حول هذا الموضوع على يد مخرجين عالميين سيتم في نهاية هذا العام 2014 احتفاء بالذكرى المئوية لمجازر سيفو).

لكن سرعان ما أخذت هذه الكنيسة المنكسرة تلملم جراحاتها وتداوي نفسها وتنظم بقايا ابرشياتها المحطمة والفارغة من السريان بعد ان دُمر اغلبها في المنطقة الواقعة جنوب شرق تركيا الحالية وابيد سكانها السريان الارثوذكس، وابيدت معهم اللغة السريانية والثقافة في تلك المنطقة، حيث دمرت عشرات الكنائس والاديرة واصبحت خربة مهجورة يسكنها الغراب وينعق فيها البوم. كما فرغت معها عشرات القرى والبلدات السريانية وتغيرت خارطتها الديموغرافية بعد ان اتى الاخرون وسكنوها واستملكوها.

بعد ان فاقت الكنيسة من هول المصيبة حاولت النهوض من كبوتها وبدأت بالعمل للدفاع عن نفسها والمطالبة بحقوقها ومعاقبة المجرم الذي اوصلها الى حد الابادة تقريباً من خلال مشاركتها بالمؤتمر الذي عقد من اجل السلام.
إذ بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى عقدت المؤتمرات لدراسة نتائج الحرب ولتسوية الاوضاع. وقد ارسلت الكنيسة السريانية الارثوذكسية مندوباً عنها لتقديم الشكوى بما حل بها. ففي عام 1919 شارك المطران (البطريرك بعدئذ) افرام برصوم في مؤتمر السلام في باريس الذي عقده المنتصرون في الحرب، والقى خطابا شهيراً بالفرنسية افتتحه بالآية الانجيلية الذهبية "طوبى لصانعي السلام" مقرظاً عمل السلام ومطالباً حقوق السريان ومعاقبة الجناة المجرمين.

لقد قدم المطران افرام للسياسيين الاوروبيين مذكرة تتضمن جدولاً عن خسائر السريان الارثوذكس من الارواح والكنائس والاديرة في مجازر الابادة، وانتقد تركيا نقدا لاذعاً ونعتها بابشع الالفاظ لما حل بالشعب السرياني المنكوب. وقد عاداه اعضاء الوفد التركي المشارك في المؤتمر وهددوه قائلين: له "لا تحلم بانك سترى تركيا بعد اليوم"، فأجابهم البطريرك بذكائه وعنفوانه قائلا: "لا اريد ان ازور بلداً لا يحمي سكانه". وجرى تماماً كما قيل له. فالمطران افرام برصوم لم يذهب الى تركيا لغاية وفاته عام 1957. وعندما انُتخب هذا المطران بطريركاً قام بنقل الكرسي البطريركي لكنيسته من دير الزعفران في تركيا الى مدينة حمص في سوريا لأن تركيا ممنوعة عليه لدخولها. ولا زال الكرسي البطريركي للسريان الارثوذكس في سوريا لغاية اليوم.

وفي مذكرته التي قدمها للسياسيين الاوروبيين يتهم افرام برصوم الاكراد والاتراك بتفيذ مجازر الابادة بحق السريان، ويقول بان حوالي مئة الف سرياني ارثذوكسي في جنوب شرقي تركيا قد قتل بحد السيف، وحوالي نفس العدد قُتل من النساطرة والكلدان ايضاً. (هكذا ذكرهم في مذكرته) وفي الفقرة الثالثة من مذكرته المرفوعة يطالب بتحرير ولايات دياربكر، بتليس، خربوط، واورفا من النير التركي وحفظها كوطن للسريان. ويطالب الدول بالاعتراف بالمجازر واجبار مرتكبيها على دفع التعويضات المقررة.
لكن كل جهود هذا المطران السرياني الشاب ذهبت ادراج الرياح لان الدول الاوروبية الكبرى وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا لم تكن مهتمة بمصير السريان ومستقبلهم لتدعم فكرة وطن سرياني، وبسبب لامبالاتهم لم ينجح السريان تحقيق حلمهم بدولة سريانية، فاخذ بعدها داء الهجرة يتفشى بينهم. وقد عانى الكثير من السريان من عواقب عدم انجاز المطالب السريانية فهاجروا وتشتتوا تحت كل كوكب.

عام 1933 انتخب المطران افرام برصوم للكرسي البطريركي فاخذ يهتم لتثبيت استقرار السريان المهاجرين بعد المآسي التي حلت عليهم فنجح بذلك، فانشأ لهم المساكن والكنائس والمؤسسات وعمل على تخفيف مآسيهم. كان هذا البطريرك من اعظم العلماء الذين انجبهم الشرق. فقد امضى حياته كلها ومنذ صباه في البحث والدرس والتمحيص والكتابة فألف مجموعة كبيرة من الكتب في التاريخ الكنسي والتراث السرياني. ولولا كتبه العديدة لما اضطلع السريان على التراث السرياني الغني المكتنز في خزانات الاديرة التي زارها وتفحص ودرس مخطوطاتها السريانية التي كانت بالالاف قبل ان تبيد صروف الزمن الكثير منها، وكان قد عمل ثلاثة كتلوكات ضخمة للمخطوطات التي شاهدها. إذ كان منذ عهد رهبنته، بدأ يقرأ تاريخ الادب السرياني ويبحث عنه في مطاوي تلك المخطوطات المهملة في الاديرة السريانية العديدة. فجمع كنزأ عظيما من المعلومات وصاغها في كتابه الهام اللؤلؤ المنثور في تاريخ الادب السرياني، الذي لا زال قراء الادب السرياني يستعملونه وينهلون منه.

عندما مات هذا البطريرك افرام برصوم الموصلي عام 1957 كان هناك مطرانان عراقيان مرشحان للبطريركية، وهما المطران العلامة بولس بهنام من بغديدا والمطران العلامة سويرويس يعقوب من برطلى. ونجح سويريوس يعقوب باخذ غالبية اصوات المنتخبين وسمي البطريرك يعقوب الثالث، فشمر عن ساعد الجد والعمل.

فاذا كان البطريرك افرام برصوم قد دافع عن حقوق السريان في المحافل السياسية الدولية واستخرج تاريخ السريان والكنيسة السريانية والادب السرياني واظهره للجميع حيث الف مجموعة كبيرة من الكتب وطبع جانباً هاماً منها، فان البطريرك يعقوب الثالث الذي خلفه كان رجل المواقف والعلاقات والتاريخ الكنسي والعنفوان الشرقي، حيث عمل جاهداً واخرج الكنيسة السريانية الارثوذكسية من عزلتها بعد مصائبها الكبيرة، حيث نج بتعريف العالم الغربي عليها وعلى تاريخها وابائها وتراثها وايمانها، وذلك من خلال اتصالاته المسكونية مع الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الارثوذكسية والارثوذكسية الشرقية والانكليكانية والانجيلية. فقد اوفد سكرتيره الراهب زكا (البطريرك زكا بعدئذ) في اول خطوة من نوعها ليمثل الكنيسة السريانية الارثوذكسية في المجمع الفاتيكاني الثاني في دوراته لعام 1962 و 1963 فعقد هذا الراهب علاقات وصداقات مع قيادات الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وعرّفهم بلاهوت كنيسته وتعاليمها. وبينما هو حاضر في المجمع الفاتيكاني انُتخب مطراناً لابرشية الموصل ووصله الخبر للعودة لرسامته مطراناً، فاقامت سكرتارية المجمع الفاتيكاني حفلا على شرف انتخابه مطراناً.


بالاضافة لعلاقاته المسكونية كان البطريرك يعقوب الثالث موسوعة في التاريخ الكنسي، اذ كان يحفظ على ظهر قلبه ادق تفاصيل تاريخ الكنيسة السريانية الارثوذكسية وبقية الكنائس السريانية وخاصة تاريخها القديم لغاية القرن الثامن او التاسع، والف بعض الكتب في هذا المجال، وكان يلفت النظر دائما الى المصادر السريانية القديمة التي كان يستعملها. ولم يكن باستطاعة اي شخص عالم بالتاريخ الكنسي ان يصمد امامه في النقاشات التاريخية. كما كان هذا البطريرك من اشهر الرجالات في الوعظ والخطابة، وقد الف مجموعة كبيرة من الكتب في التاريخ الكنسي والوعظ.

وكان البطريرك يعقوب الثالث قد التقى مع باباوات روما ودرسا معا ما جرى في مطاوي التاريخ واصدرا وثائق ايمان مشتركة، والتقى ايضا مع بطاركة الروم واليونان والاقباط والحبش وبطاركة الكنائس الشرقية وغيرها، وعقد صداقات مع علماء السريانيات الاوروبيين فكلفوه لالقاء محاضرات. كان البطريرك يعقوب حجة في التاريخ الكنسي فاذا تحدث عن حدث تاريخي فكان الاخرون يصغون ويتحذرون من ادلاء برأيهم المخالف خوفا من افحامهم.
في نهايات شهر حزيران عام 1980 بينما كنت في الصباح الباكر مسافرا في القطار من حلب الى القامشلي وأقرأ الجريدة اليومية، وإذا بي اقرأ خبراً محزناً للغاية مفاده ان البطريرك يعقوب الثالث توفي. فامتلكني الحزن والاسف عليه ونظرت حوالي وكل الركاب من الاخوة المسلمين وليس هناك من يمكن ان اتحدث معه بهذا الموضوع المحزن، فتناولتُ القلم وكتبتُ قصيدة سريانية مؤثرة حول الموضوع لا زلتُ اتذكر مطلعها:


ܐܽܘܡܬܳܐ ܕܣـܘܪ̈ܝـܝــܐ ܒܓܘܢـܚـــܐ              ܕܣܝܦܐ ܠܛܝܫܐ ܒܗܘܢ ܡܚܐ

ܫܓܝܫ ܡܥܪܒܐ ܘܒـܟـܬ ܡܕܢܚܐ             ܡـــܘܬܐ ܠــܪܒܰــܢ ܕܪ ܘܕܚܳــܐ

 المطران زكا يصبح بطريركاً على السريان الآرثوذكس:    

بعد وفاة البطريرك يعقوب اخذ يتردد على لسان كل ابناء طائفة السريان الارثوذكس بان البطريرك المقبل هو المطران زكا. وهكذا كان، لأن اعمال المطران زكا وانجازاته في مختلف المجالات كانت سفيره ورسوله الى قلوب السريان الارثوذكس فارادوه بطريركا عليهم.
 

قال البطريرك زكا في خطابه التاريخي يوم رسامته بطريركا بانه جاء ليَخدُم وليس ليُخدَم، وانه شخصياً يفضل تعليم المؤمنين الصغار الصلاة الربية على كتابة مجلد في الفلسفة واللاهوت. فكانت الرسالة واضحة من عنوانها هذا. البطريرك الجديد يريد ان يركز على الصلاة والروحانية وتعليم الناشئة. وهكذا فعل في طول حياته البطريركية لغاية انتقاله.

لكن ما اتعس حظ هذا البطريرك، اذ جاء الى الكرسي البطريركي وعاصمة الكرسي البطريركي (سوريا) كانت تأن وتنزف وأجوائها ملبدة بغيوم المشاكل والقتل، واليوم يغادر الكرسي وعاصمة الكرسي تأنُّ وتبكي يوميا والقتل لا يرحم والخوف مخيم في ساحاتها والموت ينعق في اسواقها، والسريان يهربون ويهاجرون دون رجعة.

جاء هذا الكاهن العراقي الى سوريا ليدير دفة كنيسته العريقة، فاستقبلته باصوات ازيز الرصاص ليس فرحا كعادة الشرقيين بل على اصوات رصاص القتل، واليوم تودعه على اصوات المدافع والمعارك. تعساً لك ياسوريا للاستقبال والتوديع الذين اعددتيهما لهذا الضيف العراقي الكبير الذي اختاركِ مسكناً ليرعى خرافه من عاصمتك التي احبها. ما أتعسكِ، فقد اسقبلتِ هذا البطريرك الضيف بمشاكلكِ، والان تودعيه بمشاكل اكبر وعلى صوت القتل ورائحة الموت المنبعثة في هوائك.

انتُخب البطريرك زكا الاول في صباح يوم الجمعة 11 تموز 1980 في كنيسة مارجرجس في دمشق. بعد ان جلس المطارنة اعضاء المجمع  كل في مكانه لاختيار بطريرك، القى غبطة مفريان الهند مار باسيليوس بولس الثاني (وهو رنيس الكنيسة السريانية الارثوذكسية في الهند، ومرتبة المفريان اكبر من المطران واصغر من البطريرك) كلمة بالسريانية اظهر فيها مكانة الكرسي الانطاكي، ثم تلاه القائمقام البطريركي، وبعد صلاة استدعاء الروح القدس بدأ المطارنة بالانتخاب، بدأها المفريان وثم تبعه كل المطارنة حيث توجه كل واحد منهم نحو المذبح وكتب اسم مرشحه بالسريانية ووضعه في كأس في المذبح كما هو العرف في الانتخاب البطريركي.. وعند فرز الاصوات تبين ان الاباء المطارنة قد انتخبوا بالاجماع المطران مار سويريوس زكا ليكون بطريركاً. فبادر المطران ملاطيوس برنابا القائمقام البطريركي واستجوب المطران المُنتَخب قائلا له: "ان المطارنة انتخبوك بطريركاً فهل انت راض بأن تكون اباً عاماً وبطريركاً لانطاكيا؟"، فاجاب المطران زكا بكل تواضع وخشوع قائلا: "انا راضِ". فخفقت القلوب لهذه البشرى السارة وعمت فرحة كبرى. وتقدم المطارنة جميعاً يقدمون له التهاني، ثم البسوه حلته الكهنوتية ووضعوا عصا الرعاية بيده، وبعد السجود والصلاة، القى البطريرك المُنتخب كلمة بالسريانية الفصحى شكر المطارنة ووعد بانه سيصون الامانة. بعدها خرج القائمقام البطريركي الى باحة الكنيسة حيث جموع السريان بانتظار نتائج الانتخاب واعلن عن فوز المطران زكا، فهلل الشعب السرياني المتواجد واستبشر الجميع خيراً. ثم اصطف جميع المطارنة وفي وسطهم البطريرك المنتخب وخرجوا الى باحة الكنيسة التي كانت تعج بالسريان فعلت اصوات الفرح والهتافات بحياته. بعدها اجتمع البطريرك المنتخب مع المطارنة وقرروا تعيين 14 ايلول 1980 موعدا لرسامته.

لكن رغم الاضطرابات في سوريا حينها كانت حفلة تنصيبه بطريركا على الكنيسة السريانية الارثوذكسية في 14 ايلول 1980 رائعة ونادرة وتاريخية. فقد حضرتها انا ايضا، إذ كنتُ لا زلت حينها اعيش في سوريا في مدينة القامشلي التي شاركت في حفل تنصيبه بوفد كبير جداً من السريان.
لقد انطلقت عدة باصات كبيرة من مدينة القاشلي تحمل وفداً كبيراً من العاملين في المؤسسات الكنسية متوجهة الى دمشق مركز البطريركية السريانية الارثوذكسية للمشاركة باحتفالات الرسامة. وكانت مدينتا حلب وحماة تعانيان من قلاقل بسبب تمرد الاخوان المسلمين، والخوف منتشر على كل ارجاء الطرق في سوريا بسبب المشاكل والاغتيالات اليومية التي تتم هنا وهناك. وكنا نعي حجم المخاطر التي تحفُّ بطريق السفر الى دمشق. لذلك كانت قوات الجيش السوري تحمي قافلتنا الكبيرة على الطريق، حيث كانت دبابات الجيش السوري تسير في مقدمة ومؤخرة وجوانب القافلة الكبيرة الى ان وصلنا مدينة دمشق بعد ان استغرق الطريق ضعف الوقت الاعتيادي، لكن وصلت قافلتنا بسلامة، فكانت الفرحة مضاعفة، وكذلك جرى في طريق العودة.

بعد صلاة القداس التي ترأسها غبطة مفريان الهند وبمشاركة مطارنة الكنيسة، قام المطران القائمقام البطريركي ووجه كلامه الى البطريرك المُنتخَب قائلاً: "روح القدس يدعوك لتكون بطريركاً على انطاكيا" فاجاب المُنتخَب: "انني راض وقابل". واعلن القائمقام: "لقد نُصبَ اليوم في كنيسة الرب مار اغناطيوس زكا الاول بطريركا للكرسي الانطاكي الرسولي". فقام جميع المطارنة واجلسوه على الكرسي البطريركي ورفعوه هاتفين ثلاث مرات "اكسيوس، اكسيوس، اكسيوس، يستحق ابونا مار اغناطيوس"، فعلت اصوات الفرح والهتافات في الكنيسة للحدث التاريخي. لقد احب السريان الارثوذكس البطريرك زكا منذ ان كان مطراناً، فاختاروه بالاجماع وانتخبوه بطريركاً.

لقد جلس هذا البطريرك على الكرسي البطريركي مدة 34 سنة امضاها جاهداً في الخدمة والعمران والصلاة ونشر الحياة الروحية والثقافية ورسامة المطارنة والكهنة وتقديم المسيح لابناء طائفته.

ومن ابرز صفاته اهتمامه بعالم المسكونيات. فمنذ مؤتمر القدس المنعقد بين 15-16 نيسان 1959 وهو يحضر اكثر المؤتمرات واللقاءات والاجتماعات ممثلا الكنيسة السريانية الارثوذكسية كمراقب او بصفة عضو في لجانها ويلقي كلمات حول لاهوت كنيسته وتاريخها. فقد حضر وهو راهب المجمع الفاتيكاني الثاني لدورتين متتاليتين بصفة مراقب. وقد مثل الكنيسة وهو مطران في مؤتمر اروس في الدنمارك في صيف 1964. ومؤتمر بريستول 1967. ومؤتمر اديس ابابا في اثيوبيا عام 1965 للكنائس الارثوذكسية الشرقية (وبين الحضور كان الامبراطور هايلا سيلاسي). وعام 1968 حضر مؤتمر لامبث في لندن.
ثم تتالت المؤتمرات واللقاءات فاخذ يوفد بعض مطارنته لهذه المؤتمرات ليقوي العلاقات المسكونية العالمية والخاصة بكنائس الشرق الاوسط او تلك الخاصة بالكنائس الاورثوذكسية. وفتح حوارا مسكونيا مع الاسلام حيث عقد صداقات متينة مع القيادات الاسلامية الدينية.

وقد التقى بمعظم قيادات كنائس العالم من باباوات وبطاركة ورؤساء اساقفة. كما كان يلتقي بشكل دوري مع بطاركة الكنائس الرثوذكسية الشرقية.

امتاز البطريرك زكا بالروحانية وبكثرة الصوم والصلاة الدائمين في حياته، وبمحبة الجميع وخاصة الفقراء والارامل، وبالتواضع الزائد والاهتمام بالمدرسة الاكليريكية والرهبان ومحبته الكبيرة للغة السريانية والتراث السرياني. كان اباً للايتام والارامل والفقراء.

رسم البطريرك زكا خلال بطريركيته حوالي خمسين مطراناً نصفهم للهند، وهو رقم لم يسبقه اليه بطريرك في القرون المتاخرة، كما رسم عدداً كبيرا جداً من الكهنة والشمامشة، واسس رهبنة للنساء نمت وازدهرت كثيراً.
فاذا تذكر الناس والتاريخ البطريرك زكا الاول فسيتذكروه ككاهن روحاني من الدرجة الاولى ورجل الوحدة المسيحية من الدرجة الممتازة.

ما بعد البطريرك زكا:

ينص دستور الكنيسة السريانية الارثوذكسية على انه اثناء رقاد البطريرك، يتولّى المعاون البطريركي والنائب البطريركي بدمشق والمسؤولون في ديوان الكتابة بالبطريركية ومن حضر من المطارنة مجتمعين القيام بعدة اجراءات منها:

ـ إعلام غبطة المفريان في الهند وجميع مطارنة الكنيسة للاشتراك في مراسم وصلوات رتبة الدفن.

ـ إبلاغ السلطات المدنية العليا في البلد الذي فيه المقام البطريركي ورؤساء الكنائس.

ـ  حفظ وختم تركة البطريرك الراقد، شاملاً ذلك النقود وسائر الأموال المنقولة، والدفاتر والسجلات والملفات وكل ما يعود إليه بالشمع الأحمر، وكذلك تختم مكتبته وجناح إقامته.

ـ بعد ختام مراسم وصلوات رتبة الجناز والدفن، يتولى المذكورن بحضور لجنة من أصحاب النيافة المطارنة، جرد وتحديد موجودات التركة بموجب محضر رسمي يوقّعه الحضور، وبعد ختم هذه الموجودات تسلّم من قبل اللجنة المذكورة إلى البطريرك المنتخب.

وقد تمت الفقرات الثلاث الاولى وستتم الرابعة ايضاً بعد مراسيم الدفن يوم الجمعة.


 
وتولّى المعاون البطريركي والنائب البطريركي بدمشق وبالسرعة الممكنة دعوة غبطة المفريان، والمطارنة إلى الحضور إلى دار البطريركية، وسيجتمعون برئاسة غبطة المفريان وفي حال غياب المفريان يجتمعون برئاسة أقدم المطارنة الحاضرين رسامة، وينتخبون قائمقاماً بطريركياً بأغلبية الأصوات وذلك في مهلة أسبوع ومن لا يمارس حقه في الحضور أو الكتابة خطياً يسقط صوته ويعلن اسم القائمقام المنتخب ويبلّغ ذلك فوراً.

وكذلك سيتولّى المعاون البطريركي والنائب البطريركي بدمشق جمع الأجوبة الواردة وإثبات مضمونها بمحضر رسمي بحضور المطارنة المتواجدين، ويعلن اسم المطران الحاصل على الأكثرية ليكون قائمقاماً، ويبلّغ ذلك فوراً.

وبعد انتخاب القائمقام البطريركي ينبغي أن يحضر إلى مقر الكرسي الرسولي بالسرعة الممكنة، وإذا استنكف أو توفي يتولى مكانه من يليه بعدد الأصوات. وإذا تساوت الأصوات بين اثنين، يرجَّح المطران الأقدم سيامة، وفي كل الأحوال يجب إعلام السلطات المدنية المختصَّة في سوريا مقر الكرسي البطريركي باسم القائمقام المنتخب.

ويجب على القائمقام البطريركي ان لا يبرح المقرّ البطريركي إلاّ لضرورة ماسَّة. ولا يحق له أن يغيّر شيئاً في المركز البطريركي أو الدوائر والمؤسسات التابعة له. ولا أن يعزل أو يرقي أحداً من رجال الإكليروس أو غيرهم، كما لا يحق له أن يبيع أو يشتري أو يستبدل أوقافاً أو يأذن بذلك لأحد في الأبرشيات.

وثم يدعو القائمقام البطريركي غبطة المفريان والمطارنة أعضاء المجمع المقدَّس لانتخاب بطريرك جديد في مدّة أقصاها ثلاثون يوماً، وعليهم أن يلبّوا الدعوة في الموعد المحدد، وإذا تعذّر حضور أي منهم لسبب مشروع، عليه أن يرسل صوته برسالة رسمية سرية مختومة، ينتخب فيها من يشاء وإلاّ يسقط حقه في الانتخاب.

وحسب القوانين الكنسية يشترط فيمن ينتخب بطريركاً أن يتَّصف بالتقوى وحسن الإدارة وأن يكون حائزاً على العلوم اللاهوتية والكنسية، ويجيد السريانية الاضافة الى احدى اللغات الأجنبية الحية، مبرهناً في سيرته السالفة على التزامه بإيمان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. وأن يكون قد أحسن خدمة رتبة المطرنة سبع سنوات على الأقل.

وينص الدستور الكنسي بانه لا ينتخب بطريركاً من لم يبلغ الأربعين من عمره.

ويشترك في الانتخاب جميع مطارنة الأبرشيات والمطران المعاون البطريركي، والمطارنة النواب البطريركيون المسندة إليهم أبرشيات في مختلف البلدان. أما المطران الذين ليس له ابرشية وكذلك المطران المتقاعد فلا يحق لهم الانتخاب.

وتنص القوانين بانه ينبغي ان يشترك في انتخاب البطريرك خمسة مطارنة فقط من الهند وهم: غبطة المفريان ومطران أبرشية الكناعنة ومطران كنائس الكرسي الرسولي الأنطاكي بالهند ومطران أبرشية أميركا الشمالية الملنكارية ومطران الجمعية التبشيرية في الهند، لكن لا يُنتخَبون.

عملية انتخاب البطريرك الجديد:
يدعو القائمقام البطريركي إلى جلسة مغلقة تعقد برئاسة مفريان الهند ويحضرها المطارنة أعضاء المجمع الكنسي. وبعد تلاوة من طقس العنصرة، واستلهام الروح القدس، يجري الانتخاب سرّاً على قوائم مكتوبة بالسريانية تحمل أسماء المطارنة الذين تتوافر فيهم شروط الترشيح، فيأخذ الناخب ورقة من رئيس الجلسة بعد أن يوقّع بتسلّمها ويصعد إلى درج المذبح ويؤشر بعلامة صليب بالقلم الأحمر إلى جانب الاسم الذي يختاره، ويضع الورقة في الكأس الموضوعة على مائدة المذبح. حينئذ يضبط المفريان ومعه القائمقام البطريركي واثنان من المطارنة الأقدم رسامة عدد أوراق الانتخاب، وبعد ذلك تتم قراءة مضمونها علناً بعد فحص صحّتها، ويسجّل كشف بالأسماء وتحرق أوراق الانتخاب بعد ضبط محضر الجلسة. إنما تحفظ الرسائل المتضمّنة أصوات الأحبار الغائبين للاستفادة منها إذا أعيد الانتخاب. ويسجّل حدث الانتخاب في دفتر محاضر جلسات المجمع المقدَّس.

ثم يسأل رئيس الجلسة المطران الذي الذي نجح في الانتخاب بغالبة الاصوات فيما إذا كان راضياً بانتخابه بطريركاً، فإذا وافق يُعلن اسمه مباشرة وحينئذ يقوم جميع المطارنة من كراسيهم ويؤدّون له واجب الخضوع والاحترام، وتنظم اللجنة المشرفة على الانتخاب محضراً، يوقّع عليه المطارنة الناخبون، ويختمونه ويُعلِن رئيس الجلسة اسم المنتخب إلى جمهور المؤمنين وتقرع اجراس الكنيسة وتقام صلاة الشكر التي يختمها المنتخب بمنح البركة.

وينص دستور الكنيسة السريانية الارثوذكسية بانه  يتعهّد المُنتخَب قبل تنصيبه بصك مصدّق لدى الكاتب بالعدل، ينص أن كل ما يملكه من مال منقول وغير منقول أينما كان خلال بطريركيته هو ملك للكرسي البطريركي بعد رقاده وليس لأحد حق الادعاء بشيء فيه مطلقاً.

ثم يعيّن المجمع الكنسي أقرب عيد رئيسي أو يوم أحد بعد صلاة الأربعين للبطريرك الراحل لإجراء مراسم تنصيب البطريرك الجديد، ويُعلن ذلك للأبرشيات لحضور حفلة التنصيب، كما يُشعر السلطات المدنية المختصَّة ورؤساء الطوائف الدينية. ويحتفل بالقدّاس الإلهي غبطة المفريان إن كان حاضراً، وإلاّ فالقائمقام البطريركي أو أقدم المطارنة سيامة ويشترك في ذلك المطارنة، وخلال القداس يجري تنصيب البطريرك المنتخب بحسب الطقس السرياني الارثوذكسي الأنطاكي.

ويتسلّم قداسة البطريرك الجديد تركة سلفه من لجنة تحرير التركة بعد جردها ومطابقتها مع محضر الجرد، وذلك بموجب محضر رسمي.

مقترحات لمجمع المطارنة:

انني اقترح على مطارنة الكنيسة السريانية الارثوذكسية الذين سيجتمعون لانتخاب بطريرك جديد:

التريث في انتخاب بطريرك جديد والانتظار لغاية اطلاق سراح المطران الأسير مار غريغوريوس يوحنا ابر اهام إن كان لا زال على قيد الحياة.

كتابة برنامج شامل لحياة الكنيسة وتطويرها من كل ناحية والاتفاق عليه من قبل جميع المطارنة ليكون دستورا في يد البطريرك الجديد يعمل على تنفيذ بمساعدة المطارنة.

التركيز على اللغة السريانية في كل المجالات الكنسية والعمل على تعليمها في كل مكان وحفظها في جميع الطقوس وفي كل مكان بنسبة لا تقل عن 80 أو 90 بالمئة. وتحفيض نسبة اللغة العربية واللغات الاخرى في الصلوات والطقوس الى حد كبي لا يزيدعن نسبة 10 بالمئة.

توحيد استعمال الطقوس السريانية في كل الكنائس.

تقوية وتجديد العلاقات المشتركة مع كل الكنائس السريانية الشرقية والغربية.

تنظيم تداول الاموال في جميع الابرشيات.

العمل لاعطاء رواتب لجميع الكهنة.

سحب كل الرهبان من مختلف البلدان وخاصة من اوروبا، واسكانهم في الدير البطريركي ليعيشوا فيه حياة روحية جماعية.

واخيرا نتنمى ان يختار المطارنة بطريركا قويا لهذه المرحلة العصيبة بعد ان تشتت السريان الارثوذكس في اصقاع العالم.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها