عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

ستوكهولم / السويد


دور اللـغـة والثقافة الآرامية في سـقـوط الدولة الآشــورية

 كان الاشوريون القدماء شعباً مقاتلاً شديد البأس استطاع في فترات متفرقة ان يغزو الدول المجاورة وان يحتل بعض المناطق البعيدة مؤسساً امبراطورية عظيمة رغم صغر حجم الامة الاشورية.

كانت قومية الامة الآشورية تقوم بالاساس على هوية الدولة السياسية والادارية. وكانت الدولة الآشورية تضم، الى جانب شعبها الاشوري، مجموعة من الشعوب المختلفة، التي رغم حفاظها على اصولها واثنياتها الخاصة، إلا ان الهوية السياسية لجميع هؤلاء الشعوب كانت الآشورية والكل يتمتع "بالمواطنة" في الدولة الاشورية.

) وهذا يشبه الى حد ما المفهوم الحديث للقوميات والدول القومية National states، اي ان حدود الدولة هي حدود قومية للامة بغض النظر عن اثنيات الشعوب التي تتكون منها هذه الامة.(

 كان الاشوريون يعتمدون في سياستهم التوسعية على تهجير الشعوب المغلوبة وجلب أعداد كبيرة منها واسكانها في المدن الآشورية، لإخضاعها ووضعها تحت رقابتها من جهة والاستفادة من خدماتها في الاعمار والصنائع والجيش والحروب من جهة أخرى، لذلك امتلات آشور بمجموعات عديدة من الشعوب المهجرة.

 وكان الآراميون يشكلون نسبة كبيرة جداً من هؤلاء المهجّرين والمسبيين المقيمين في آشور، وأصبحوا نسبة كبيرة جداً من سكان ورعايا الدولة الاشورية.

وكانت نسبة عالية من الاراميين تقيم في العواصم الاشورية وتشارك في الحياة السياسية والثقافية والعسكرية.

ومنذ القرن التاسع قبل الميلاد كان سكان العواصم الاشورية الحديثة النشئة مثل كالح، ودورشاروكين ونينوى يتكونون على الأغلب من الشعوب المهّجرة من منطقة غرب الفرات، أي من الدول الارامية والحثية الجديدة، وكذلك من الفينيقيين والاسرائليين واليهود، وايضاً من الفلسطينيين الذين ذابوا في البوتقة السامية"، لكن نسبة الاراميين كانت هي السائدة وكانت لغتهم هي الجامعة والرابطة بينهم وبين تلك الشعوب.

منذ القرن التاسع قبل الميلاد كانت المنطقة الاشورية الاساسية، وهي المنطقة الواقعة ضمن المثلث الاشوري (بين دجلة والزابين)، قد اصبحت محاطة من التجمعات الارامية الهائلة، حتى ذكر احدهم بان اشور اصبحت اسيرة الاراميين في هذه المرحلة.

إذ تدفق الآراميون باعداد هائلة الى آشور، منهم مَن قدم من جنوب ووسط العراق ومنهم مِن الجزيرة السورية ومنطقة الفرات من الغرب.

 ومنذ القرن العاشر قبل الميلاد كانت بابل قد بدأت تتحول الى منطقة آرامية لطغيان العنصر الارامي فيها فسيطر بعضهم على عرش الدولة.

 وكانت القبائل الارامية العديدة الساكنة على اطراف المثلث الاشوري في حالة ازدياد وتكاثر: وبعض هذه القبائل الآرامية كانت مدنيّة ومنها بدوية ومنها نصف بدوية تعتمد الرعي وثم تتحول الى حياة السكن المستقر urban life بعد ان تترك البداوة.

 وهناك وثائق "حوليات" آشورية هامة تصف لنا تدفق الآراميين وتقدمهم في آشور منذ القرن الحادي عشر قبل الميلاد، منها لوح طيني اشوري باللغة الاكادية اطلق عليه العلماء اسم "تاريخ تغلتفلاسر" Chronicle of Tiglat Pileser يصف العلاقات غير الودية بين الآراميين والآشوريين في السنوات الاخيرة من حكم الملك تغلاتفلاسر الاول (1115-1076). يقول اللوح الطيني الآشوري "لقد ازداد الآراميون مثل مياه الفيضان المدمرة، فنهبوا محاصيل آشور، واحتلوا عدة مدن محصنة في آشور.

 وأكل الناس في آشور لحم بعضهم البعض لينقذوا حياتهم من الهلاك، وهربوا نحو جبل هبروري للنجاة. 

 لقد سلب الآراميون ذهب الاشوريين وفضتهم وامتعتهم، ودمروا جميع محاصيل آشور. لقد ازدادت القبائل الارامية  حول ضفاف دجلة  بكثرة، منتشرة...".

ففي عشية سقوط الدولة الآشورية كان الآراميون قد اصبحوا الغالبية السكانية في الدولة  الاشورية، والغالبية العظمى في العراق القديم حينها، واصبحت لغتهم الآرامية اللغة الوطنية في معظم مقاطعات العراق القديم وذلك منذ القرن السابع قبل الميلاد ولغاية مجيء العرب في القرن السابع الميلادي.

 لقد كان الآرامي في الدولة الاشورية يتحدث بلغته الآرامية ويتمتع بقوميته الآرامية وبنفس الوقت كان ينتمي سياسياً الى الدولة الاشورية "العالمية" ويتمتع بحقوق المواطنة وقوميتها الاشورية التي تمثلت في انتماء الدولة الاشورية بمختلف الاثنيات الموجودة فيها الى الهوية السياسية الآشورية.

 إذ كانت معظم البلدات والقرى والمزارع في المناطق المحيطة بعواصم آشور تتشكل من الاراميين المهجرين، بالاضافة الى اخوانهم من القبائل الارامية المقيمة هناك.

ناهيك عن الاراميين في المدن والعواصم الاشورية، فكل هؤلاء كانوا آراميين اثنياً ولغوياً، وآشوريين سياسياً وادارياً، اي يتمتعون بهويتين:

 بهويتهم الآرامية القومية وبهوية الدولة الآشورية.

ففي غزوات ملوك الاشوريين لمنطقة غرب الفرات كانوا يجلبون كل مرة اعداداً هائلة من العساكر الذين استسلموا لهم.

 ففي القرن التاسع قبل الميلاد جلب آشورناصيربال الثاني الكثير من الخيالة وفرسان المركبات والجنود المشاة، وقد كرر هذا العمل سركون الثاني في القرن الثامن.

ومنذ حينها اصبحت عادة ثابتة بان يُدعم الحرس الملكي الاشو )يسمى بالاشورية: كيسير شرروتي) بالجنود الاسرى والمهجرين وأغلبهم من الاراميين.

 واستمرت هذه العادة حتى اثناء حكم سنحاريب واسرحدون واشوربانيبال.

 ان بعض الموظفين في دولة آشور، في مرحلتها الاخيرة قبل سقوطها، استعملوا الآرامية ايضا في تدوين الوثائق الى جانب لغتهم القومية الاشورية (الاكادية)، لقد وصلتنا لوحة آشورية هامة من الملك الاشوري تغلاتفلاسر الثالث يقف فيها كاتبان يدوِّنان مغانم الحرب:

 احدهم يدون بالأشورية على لوح طيني وبالكتابة المسمارية من اليسار الى اليمين، والثاني يدوّن بالآرامية على الجلد أو البردي من اليمين الى اليسار. وهناك مكتشفات تشير الى وجود وظيفة  "كاتب آرامي"  في البلاط الاشوري يسمى بالاشورية "طوبشررو ارامايا" اي الكاتب الآرامي.

 وكانت اللغة الآرامية قد بدأت تتغلغل الى آشور تدريجياً؛ وأخذت تنافس لغة الآشوريين الأكادية وذلك لسهولتها ونظامها الابجدي البسيط المكون من 22 حرفا بالقياس مع اللغة الاشورية (الاكادية) الصعبة ونظام كتابتها المسماري المعقد والمكون من مئات المقاطع والرموز.

وهناك وثائق مكتشفة تدل على ان الارامية كانت قد بدأت تقتحم آشور منذ القرن الثامن قبل الميلاد، واستمر هذا الغزو الآرامي اللغوي يقتحم قلب آشور الى ان كتب له الانتصار النهائي.

وبسبب الوجود الآرامي الكبير في آشور ووجود اللغة الآرامية فيها واستعمالها حتى في جهاز الدولة بجوار الأكادية، فان التأثير الآرامي السكاني واللغوي على آشور كان كبيراً جداً مما جعل الثقافة الاشورية ان تتراجع امام انتشار الثقافة الارامية.

 ومن خلال التطور الثقافي الذي حصل في آشور في المائة سنة أخيرة قبل سقوطها كان الكثير من رعايا الدولة قد أصبحوا ثنائيي اللغة bilingual  يتكلمون الأكادية والآرامية، وكان الكثيرون من المواطنين الذين يتكونون من المهجرين يتكلمون الارامية فقط.

وقد وضّح احد كبار علماء الاشوريات بان "شريحة هامة من المجتمع الاشوري كانت شريحة الجنود الناطقين بالارامية الذين كانوا يعملون كجنود في الجيش الاشوري وذلك منذ زمن تغلتفلاسر الاول الذي احتل المناطق الآرامية وجلب الكثير من الجنود الاراميين من المناطق الارامية المحتلة".

ان الكثير من رعايا دولة آشور في العواصم آشور ونينوى كانوا من الآراميين بسبب كثرة الآراميين الذين سباهم الاشوريون وجلبوهم من المناطق الآرامية المحتلة واسكنوهم في عواصم آشور، حتى ان "قلب آشور قبل سقوطها كان قد أصبح شبه آرامي" Semi Aramean على حد قول علماء الاشوريات.

وهذا ما سهٌل سقوط آشور وسارع في عملية ذوبان الاشوريين بين الآراميين.

يقول علماء الآشوريات اليوم "لقد أثّر الآراميون ولغتهم الآرامية بشكل كبير على ثقافة الامبراطورية الاشورية، أي أثّر الآراميون المغلوبون على ثقافة أسيادهم الغالبين.

 وقد تم هذا بفضل مئات الآلاف من الأسرى الآراميين الذين جلبهم الآشوريون المنتصرون واسكنوهم في المجتمعات الاشورية، فاندمجوا في المجتمع تاركين تأثيرا عظيماً على هذه الامة الاشورية المحاربة والصغيرة العدد".

لقد قدم لنا علماء الاشوريات دراسات مستفيضة عن الالفاظ الاكدية التي قرضتها الارامية من الاكادية، هناك حوالي 220 لفظة من الاسماء والافعال اغلبها من عالم السياسة والمصطلحات القانونية أخذتها الآرامية من الاكادية (أخبرني العلامة كوفمن صاحب احدى هذه الدراسات ان العدد ربما يكون اكبر من هذا بكثير في المستقبل)،  بينما قدم لنا العلامة "فون صودن" (1908-1996) جدولاً ناقصاً يضم  250 لفظة قرضتها الاكادية بلهجتها الآشورية والبابلية من الآرامية.  

وقد روى لي المرحوم "ح. تدمر" (توفي عام 2005، وكان أكبرعالم للاشوريات في وقته) بان هناك مجموعة كبيرة جداً من الالفاظ الارامية استعملتها الاكادية، وهي بحاجة الى البحث والدرس والتمحيص.

ان ازدياد انتشار الارامية في آشور ادى الى تقوية الجانب الارامي اللغوي والثقافي وأضعف الهوية الاشورية، وهذا يعني ان جزءأً هاماً من الهوية الآشورية كان قد أصبح آرامياً، مما سهّل ذوبان الاشوريين في الهوية الارامية والمحيط الارامي بعد سقوط آشور بفترة قصيرة.

وقد ذهب احد العلماء ابعد من ذلك ليقول بانه:

 ينغي تسمية الدولة الاشورية في هذه المرحلة بانها "دولة آشورية آرامية مشتركة"  لكثرة الاراميين فيها وكثرتهم في الاشتغال في الإدارة وتسيير دفة الدولة الاشورية، ولفرض لغتهم على آشور.

حتى ان بعض الملوك الآشوريين كانوا متزوجين من نساء آراميات، مثل الملكة الارامية القديرة ناقية-زاكوتو زوجة سنحاريب ووالدة اسرحدون وجدة اشوربانيبال، وكل هذا ساهم في حمل اللغة الآرامية ان تشق طريقها الى قصور الملوك.

نختم مقالنا بمقولة احد علماء الآشوريات بقوله:

The Arameans gradually transformed the cultural face of the Assyrian Empire and were to outlive Assyria by serving as the link with the succeeding Empires

"لقد غيّر الاراميون تدريجياً الوجه الثقافي للامبراطورية الاشورية، وقد عاشوا  حتى الى ما بعد زوال آشور يقومون بدور الرابط مع الامبراطوريات المتعاقبة"

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها