عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

ستوكهولم / السويد


الآراميون والآرامية في آشور عشــيـة سقوطها

قبل سقوط آشور بفترة قصيرة من الزمن كانت هذه الدولة العظمى والراقية تسير ببطىء نحو نهايتها التراجيدية المؤلمة بسبب ما كانت تعانيه من مشاكل داخلية واضطرابات وقلاقل. وكان لاضعاف آشور اسبابه الخارجية والداخلية، ومن الاسباب الخارجية: الاحداث السياسية الكبيرة التي أصابتها وأثرت عليها:

 حيث تحررت مصر من نفوذ آشور (ثم اصبحت حليفة الآشوريين بعدئذ)، وثارت بابل بزعامة نابوبلاصر القائد الكلداني الآرامي، وانسلخت فلسطين عن الامبراطورية الاشورية، كما رفضت فينيقيا الخضوع لسيطرتها، واستقل الميديون عنها وأخذوا يحضرون انفسهم لشن هجوم كاسح على آشور.

ومن الاسباب الداخلية القوية التي أضعفت آشور كانت سياسة الاشوريين في تهجير الشعوب المغلوبة وخاصة تهجير الآراميين واسكانهم في القرى والمدن والعواصم الاشورية.

 ان هذه السياسة كانت قد غيّرت من خريطة الوضع السكاني في الدولة الآشورية وأضعفت قوميتها الاشورية، لأن الآراميين المهجّرين كانوا قد اصبحوا باعداد كبيرة جداً في المدن الاشورية وفي قلب آشور، حتى "ان عدد الآراميين في الدولة الآشورية فاق مع الزمن عدد الاشوريين بكثير" على حد قول أحد علماء الاشوريات المعاصرين.

 ولا غرو فان الشعب الاشوري كان شعباً صغير العدد لكنه كان مقاتلاً ممتازاً.

 بينما كان الآراميون يتميزون بين كل الشعوب السامية بكثرة عددهم وانتشارهم الكبير في كل منطقة "الهلال الخصيب".

وقد استطاع علماء الاشوريات خلال العقود القليلة الماضية كشف الكثير من الحقائق الباهرة فيما يخص الوجود الارامي في قلب آشور فتغيرت المفاهيم القديمة عن ديموغرافية الدولة الاشورية وعن هويتها وعن دور الاراميين فيها، حيث كان الاراميون في المدن الاشورية باعداد هائلة، وكان منهم وحدات عسكرية في الجيش الاشوري تبلغ عشرات الالاف، كما كان منهم الكثير من الموظفين الكبار في البلاط الملكي يشاركون في تسيير دفة الدولة باعلى المستويات، كما كان منهم الكثير من الصنّاع، الخ.

الشيء الذي حمل السلطة الاشورية الى الاعتراف باللغة الآرامية واضطرت الى استعمالها الى جانب الاشورية (الاكادية) الصعبة.

عام 2004 كتب العالم "اندرِه لومير" وهو من كبار الباحثين المتخصصين في قراءة النقوش القديمة معلقاً على سياسة الملوك الاشوريين في توطين الاراميين في آشور بقوله:

 En fait, en intégrant dans leur empire une aussi nombreuse population araméenne, les rois assyriens le transformèrent en un Empire assyro-araméen. "بالحقيقة، لقد حوّل الملوك الاشوريون دولتهم الى امبراطورية آشورية-آرامية عندما دمجوا فيها أعداداً كبيرة من الآراميين".

(أنظر بحثه بعنوان Les Araméens, un peuple, une langue, une écriture, au-delà des empires اي "الآراميون شعب ولغة وكتابة خارج حدود الامبراطوريات".

وكانت اللغة الآرامية التي بدأت تتغلغل الى المدن والعواصم الاشورية من أهم العوامل الداخلية التي ساهمت في سقوط آشور.

 ان دولة آشور في الفترة الاخيرة من عمرها قبل سقوطها وزوالها استعملت اللغة الآرامية ايضا في وثائقها الى جانب لغتها الاشورية (الاكادية)، وفرضت الآرامية نفسها فاضطرت آشور الى استعمالها لان الكثيرين من المواطنين في آشور ونينوى كانوا آراميين وخاصة بعد تحويل الكثير من المناطق الآرامية عند الفرات والخابور وضمّها annexed الى الدولة الاشورية.

كما ان بسبب كثرة الآراميين الذين رحَّلهم الاشوريون من المناطق الآرامية المحتلة واسكنوهم في عواصم آشور "كان قلب آشور قد تحول الى شبه آرامي Semi Aramean" على حد قول علماء الاشوريات (راجع مثلا بحث العلامة المرحوم " ح. تدمر":

 "كيف اصبحت آشور آراميةً" The Aramaization of Assyria المنشور في المجلد "مسوبوتاميا وجيرانها" Mesopotamien und seine Nachbarn, p. 450

كان الآراميون يتميزون بين كل اخوتهم من الشعوب السامية بكثرة عددهم وانتشارهم الكبير جداً كالبحر المتلاطم في كل منطقة "الهلال الخصيب" بدءاً من شطآن الخليج الفارسي/العربي وصعوداً مع نهري الدجلة والفرات وروافدهما العلوية، وثم نزولا مع مع طول المنطقة المحاذية للبحر المتوسط في الداخل السوري/اللبناني /الفلسطيني، وكان فيهم المتمدنين سكان المدن urban وانصاف المتمدنين rural وانصاف البدو Semi nomads والبدو الذين يعيشون على اطراف المدن ويتنقلون مع مواشيهم (راجع كتابنا السويدي Efrem Syriern: hans liv och skrifter صفحة 55-57 حيث ذكرنا فيه هؤلاء البدو على أطراف مدينة الرها (أورفا) السريانية في القرون الاولى قبل وبعد الميلاد) .

ان انتشار الآرامية في آشور ادى الى تقوية الجانب الآرامي اللغوي والثقافي كثيراً وأضعف الهوية الاشورية لدى المواطنين، وهذا يعني ان جزءأً هاماً من الهوية الآشورية حينها كان قد أصبح آرامياً في قلب آشور نفسه، مما سهّل ذوبان الاشوريين في الهويّة الارامية والمحيط الارامي المتلاطم بعد سقوط آشور بفترة قصيرة وخضوع منطقتهم لحكم الكلدان-الاراميين، الذين أكملوا مسيرة انتشار اللغة الآرامية، فأصبحت الآرامية كالبوتقة التي  ذابت فيها ثقافات شعوب المنطقة ولغاتها وقومياتها وتحولت مع الزمن الى جزء لا يتجزء من القومية الآرامية الحضارية الشاملة.

وعند كشف هذه الحقائق أخذ بعض علماء الاشوريات المعاصرين يقولوا بانه "ينبغي تسمية الدولة الاشورية في هذه المرحلة بانها "دولة آشورية آرامية مشتركة"، لكثرة أعداد الاراميين فيها وكثرتهم في الاشتغال في الإدارة وتسيير دفة الدولة الاشورية، ولفرض لغتهم على آشور.

سـقـوط آشــور

وأعلن البابليون والميديون الحرب على آشور ليس لاخضاعها سياسياً بل لتحطيمها نهائياً كما دلت اعمالهم الوحشية الفظيعة ضدها لاحقاً.

واستطاع القائد الكلداني "نابوبلاصر" ان يربح المعركة الاولى مع آشور عام 616 قبل الميلاد، إلا انه اضطر الى التراجع بعد وصول الجيش المصري حليف آشور، ثم قام بهجوم آخر في السنة التالية لكنه مُني بالفشل.

 وفي عام 614 نجح "كيأخسار" ملك الميديين باحتلال العاصمة آشور (وهي المرة الاولى التي تقع فيها عاصمة آشورية بيد المحتلين)،  فانتشر الرعب بين الاهالي وارتكب الجنود الميديون اعمالاً فظيعة إذ نهبوا المدينة الجميلة، وارتكبوا المجازر المروعة بحق الاشوريين واقتادوا من تبقى منهم وباعوهم كالعبيد بعد ان "خربوا المدينة عن بكرة ابيها" كما تذكر المصادر.

لكن ظلت نينوى بشموخها صامدة أمام ضربات الاعداء تنتظر مصيرها الاسود، (لمدينة نينوى علاقة مباشرة مع انبياء من العهد القديم مثل النبي يونان الذي ارسله الرب ليعظ النينويين، ومن هنا يأتي صوم نينوى ܒܥܘܬܐ ܕܢܝܢܘ̈ܝܐ أو ܨܘܡܐ ܕܢܝܢܘܐ والموجود لدى جميع الطوائف السريانية وعند الارمن والاقباط والحبش،

 وكذلك النبي ناحوم الألقوشي الذي تنبأ عن سقوطها؛ كما للأنبياء حزقيال ودانيال وعزرا علاقة مباشرة مع بابل).

وشنّ نابوبلاصر الكلداني وكيأخسار الميدي عام 612  هجومهم الكاسح على نينوى وحاصروها، فاستنجد الاشوريون بالاسقوثيين، غير ان الاسقوثيين انضموا الى جيش كيأخسار الميدي لأنه وعدهم بالمزيد من الغنائم والاسلاب.

 وبعد حوالي شهرين من الحصار في صيف 612 سقطت نينوى بيد الاعداء، فاهتز العالم القديم لسقوطها.

 وتفشى فيها الذعر، وعمَّت الفوضى، ودمّروا المدينة وحوّلوها الى "أكداس من الخراب" كما جاء في سجل الاحداث البابلية، وتعرضت هذه المدينة الجميلة الى ابشع انواع النهب والسلب والحرق والقتل والمجازر، فسارت فيها الدماء في الطرقات، وتحولت الى خراب ينعق فيها البوم كما ذُكر. وكان البعض من الجنود والسياسيين والاداريين "الاشوريين" قد هربوا ليتحصنوا في حران التي كانت قاعدة آرامية مقتدرة مرتبطة بآشور، فشنّ عليهم نابوبلاصر الكلداني هجوما فسحقهم هناك ودك المسمار الاخير في نعش الدولة الاشورية.

وهكذا أفل نجم دولة آشور العظيمة فسقطت من علياء مجدها، وزالت عن الوجود. وأخذ من خلص من القتل والمجازر يذوب تدريجياً ضمن الاراميين بفضل اللغة الآرامية التي كانت في آشور. وبعد مرور ردحة من الزمن لم يبقَ هناك من يسمي نفسه "آشورياً" أو ينتمي للآشوريين اثنياً وقومياً، لقد اصبح الجميع "آراميين" لغوياً وثقافيا وقومياً.

 لقد سقطت آشور وزالت، لكن أخبارها القديمة بقيت حيّة في ذكريات الشعوب وذاكرتها. وقد كتب الكاتب التوراتي العراقي ناحوم الألقوشي نبوةَ عن سقوط نينوى، وربما شاهد ذلك بعينه، فوصف الحرب المروعة على آشور وسقوط نينوى وتحولها الى مستنقع للدم بطريقة شعرية بقوله :

"خيلٌ تخب ومركبات تقفز، وفرسان تنهض، ولهيب السيف وبريق الرمح، وكثرة جرحى ووفرة قتلى ولا نهاية للجثث، ويعثرون بجثثهم".

ويسمي نينوى بعد سقوطها بانها اصبحت/ستصبح "مدينة الدماء"، ...

و ان ما بقي/سيبقى من نينوى بعد سقوطها على حد قوله هو " فراغٌ، وخلاءٌ، وخرابٌ، وقلبٌ ذائب".

فيتعجب هذا الكاتب من المصير المروع الذي تعرضت له هذه المدينة العظيمة الجميلة وما حل بشعبها من مجازر فظيعة فيقول: "أين مأوى الاسود ومرعى أشبال الاسود؟ اشبالكِ يأكلها السيف واقطع من الارض فرائسكِ (سفر ناحوم 3:1-3)".

 وبعد سقوط دولة آشور عام 612 قبل الميلاد على يد تحالف الكلدان (الآراميين) والميديين وانتهاء الدولة من الوجود، وذوبان الشعب الاشوري بين الاراميين، استمرت الآرامية كلغة قومية للاراميين ولجميع الذين ذابوا في البحر الارامي، كما استمرت كلغة الثقافة والدبلوماسية في معظم الشرق الاوسط.

وفي نفس الوقت، وبعد سقوط آشور وذوبان البقية من الاشوريين في البوتقة الآرامية وتحولهم الى الانتماء الآرامي، بقي الاسم الاشوري  مستمراً في الاستعمال لدى جيرانهم الفرس والارمن واليونان يطلقونه على المنطقة الجغرافية التي كانت تضم مدينة "آشور" القديمة، لذلك فان مدينة الموصل القديمة تسمى بالسريانية "آثور" ܐܬܘܪ. كما كانوا يطلقون هذا الاسم احياناً على اشخاص انحدروا من ذلك الاقليم لتعني "موصلي" بغض النظر عن قومية الشخص الموصلي لأن المصادر السريانية القديمة أطلقت لفظة "آثوري" (اي موصلي) على العرب والسريان والاكراد سكان الموصل، مثلما اطلقت بالسريانية لفظة ܒܒܠܝܐ̈ "بابليين" على سكان بغداد من عرب وسريان وغيرهم.

 وبامكاننا ان نستشهد بالنقش السرياني المزبور عام 1893على باب مذبح كنيسة مار الياس في قرية باقسيان (باقسيونِه) في طور عابدين اثناء ترميمها (ܒܝܘ̈ܡܝ ܐܒܐ ܕܝܠܢ ܪܘܚܢܝܐ ܦܛܪܝܪܟܐ ܦܛܪܘܣ ܡܘܨܠܝܐ ܐܘܟܝܬ ܐܬܘܪܝܐ) أي رُممت "بأيام أبينا الروحي البطريرك بطرس الموصلّي أي الآثوري". كما ان المطلعين على المصادر السريانية القديمة يعرفون هذه الامور البديهية

 بينما كانت معظم منطقة العراق في القرون المسيحية الاولى تسمى بالمصادر السريانية  ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ "بيث آرامايى" (اي وطن الآراميين أو بلاد الآراميين).

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها