عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

ستوكهولم / السويد


السـريانـي بـيـن الآشــوري والآرامـي

مــقــدمـــة:

كانت الدولة الاشورية دولة قوية وعملاقة تشبه في قوتها وهيبتها الدول العظمى اليوم.

وكان مجرد اسمها يخيف خصومها واعدائها فيسرعون للاستسلام لها ويدفعون ما يترتب عليهم من الضرائب والعقوبات.

 كانت سياسة الدولة الاشورية في إخافة الاعداء تقوم على انزال اشد وابشع انواع العقوبات والعنف على هؤلاء الاعداء وتعذيب زعمائهم اثناء دحرهم في الحروب.

 لذلك كانت كل الدول القريبة والبعيدة حذرة من دولة آشور وتهابها بسبب سياستها التوسعية والعنف الذي تمارسها ضد الملوك المنهزمين الذين لا يستسلمون لها.

وكانت الدول المجاورة تتحين الفرصة للانقضاض على آشور وإسقاطها للتخلص من نيرها، لذلك تعرضت للهجوم البابلي والميدي فسقطت أمام ضرباتهم وتعرضت لمجازر رهيبة.

 وعلى أثرها زالت الدولة الآشورية من الوجود ولم تقم لها قائمة بعد ذلك، لكن الاسم الآشوري عاش بعد سقوط آشور مستمراً في مسيرة التاريخ لغاية اليوم لكنه نال في الفترة المسيحية معان جديدة بعيدة تماماً عن معناه الاصلي.

وفي القرن التاسع عشر يعود الاسم الاشوري بمعناه القديم الى الحياة ثانية ويلتصق ثم بالسريان النساطرة.

 ومؤخراً ضمته الكنيسة النسطورية (فرع التقويم الغربي التابع للبطريرك دنخا) الى اسمها الرسمي مدعية ان السريان النساطرة هم ابناء الآشوريين القدماء.

عام 2006 نشر الباحث روبرت رولينغر مقالاً حول تسمية "سوريا" و"سريان" وجاء رأيه في صالح اشتقاق أسم "سوريا" من "آشور". وقد نشر مقاله الذي يحمل العنوان The Terms ‘Assyria’ and ‘Syria’ Again "التعابير آشور وسوريا مرة أخرى" في العدد الرابع من (مجلة الدراسات الشرق اوسطية) حيث قال فيه باشتقاق اسم "سوريا" من لفظة "آشور".

ولما انتشر مقال الدكتور روبرت رولينغر قرأه بعض ابناء شعبنا وأساء البعض فهمه، فاعتقد بعضهم ان رولينغر يتحدث عن أصل السريان واعتقد آخرون بانه "ينسب السريان الى الآشوريين"، الشيء الذي لا يذكره رولينغر في مقاله، لأنه لا يتحدث عن أصل الشعب السرياني انما يتحدث عن الاسماء Syria "سوريا" و Assyria "آشور" فقط،، وعن العلاقة اللغوية الموجودة بين الاسمين المذكورين بقوله الواضح في مفتتح مقاله:

A debate about whether there is a linguistic relationship between the words “Assyria” and “Syria” أي: (نقاش حول اذا كان هناك علاقة لغوية بين الكلمات "آشور" و"سوريا"). لذلك لا يجوز اعطاء اي بعد آخر لهذا الموضوع غير البعد اللغوي linguistic relationship الذي يتناول اشتقاق اسم سوريا من آشور وليس انحدار شعب من آخر.

لكن البعض من الذين يجهلون تاريخ السريان "الصحيح" يستغلون "موضوع اشتقاق الاسماء" هذا ويعطونه بعداً غير بعده اللغوي الذي يشمله، ويدّعون قائلين "اذا كانت لفظة سريان تأتي من آشور فهذا يعني ان السريان يأتون من الاشوريين"، وبقناعتهم البسيطة هذه والمبنية على افتراض خاطىء يضعون انفسهم على نقيض من ابحاث العلماء عن أصل السريان وتاريخهم من جهة، ومن كتابات العلماء السريان القدماء من جهة اخرى.

ان اشتقاق لفظة "سريان" شيء وموضوع اصل الشعب "السرياني" شيء آخر. فاذا كانت لفظة "سريان" مشتقة من "آشور" فليس من الضروري ان يكون الشعب السرياني منحدراً من الشعب الاشوري، والعكس صحيح. والرأي السائد بين علماء التاريخ السرياني هو ان السريان ينحدرون من الآراميين.

فعلى سبيل المثال نستشهد بأحد كبار المستشرقين العلامة الألماني ثيودور نولدِكِه (1836-1930) حيث كتب ان لفظة "سريان" مشتقة من "آشور" لكنه في نفس الوقت كتب بان السريان هم من الآراميين (انظر كتابه Compendious Syriac Grammar، صفحة 32). وفي بحثه الهام عن الموضوع كتب نولدكه: "ان غالبية سكان المناطق الممتدة من البحر المتوسط الى ما وراء نهر دجلة كانوا آراميين"

(أنظر بحثه الالماني: "Assurios Surios Suros" المنشور في:

( Zeitschrift für klassische Philologie, Berlin 1871, page 460)

منذ القرن القرن السابع ولغاية الرابع قبل الميلاد استعمل اليونانيون التعبيرين "آشور" و "سوريا" بشكل مشوّش ومتداخل، حيث أطلقوا لفظة آشور على كل منطقة الهلال الخصيب وعلى شعوبها المتعددة.

 لكن الألفاظ "آشور/آشوري/آثوري" و "سوريا/سوري/سرياني" تطورت مع الزمن، واستقلت بعدئذ، وتبلور استعمالهما لاحقاً ليدل على منطقتين وشعبين وليس على شعب واحد.

 ومنذ منتصف القرن الرابع قبل الميلاد وخاصة بعد مجيء اليونانيين بقيادة اسكندر المكدوني للمنطقة وتوسع معلوماتهم عنها وعن شعوبها ، بدأت لفظة "سوري/سرياني" لديهم تأخذ طريقاً خاصاً لتطلق على الآراميين دون غيرهم فسموهم "بالسريان" ولغتهم "بالسريانية"، بينما كان الاشوريون يُسمون بالآشوريين وليس بالسريان لغاية سقوط دولتهم المقتدرة في بداية القرن السابع قبل الميلاد، ولم يكتب أحد من الكتاب القدماء المعاصرين حينها بان دولة آشور كانت دولة سريانية.

وهناك اثباتات من القرون الثلاثة قبل الميلاد عن ترابط الاسم السرياني بالارامي وتلاحمهما وترادفهما.

وبعد سقوط دولة آشور وزوالها اخذت بقايا الشعب الآشوري تذوب ضمن الآراميين الذين كانوا يتميزون بين كل الشعوب السامية بكثرة عددهم وانتشارهم الكبير في كل منطقة "الهلال الخصيب"..

عشــيـة سـقـوط آشــور

لكن قبل سقوط آشور بحوالي عقدين من الزمن كانت هذه الدولة العظمى تسير ببطىء نحو نهايتها التراجيدية المؤلمة بسبب ما كانت تعانيه من مشاكل داخلية واضطرابات وقلاقل. وكان لاضعاف آشور اسبابه الخارجية والداخلية، ومن الاسباب الخارجية:

 الاحداث الكبيرة التي أصابتها وأثرت عليها حيث تحررت مصر من نفوذ آشور (ثم اصبحت حليفة الآشوريين بعدئذ)، وثارت بابل بزعامة نابوبلاصر القائد الكلداني الآرامي، وانسلخت فلسطين عن الامبراطورية الاشورية، كما رفضت فينيقيا الخضوع لسيطرتها، واستقل الميديون عنها وأخذوا يحضرون انفسهم لشن هجوم كاسح على آشور.

ومن الاسباب الداخلية القوية كان سياسة الاشوريين في تهجير الشعوب المغلوبة وخاصة من الاراميين واسكانهم في العواصم الاشورية ضمن المثلث الاشوري، ان هذه السياسة كانت قد أضعفت هذه الدولة وغيّرت من خريطة الوضع السكاني فيها لأن الاراميين المهجّرين كانوا قد اصبحوا باعداد كبيرة جداً في قلب آشور ومع الزمن فاق عددهم على الاشوريين.

وكانت اللغة الارامية التي بدأت تتغلغل الى العواصم الاشورية من أهم العوامل التي ساهمت في سقوط آشور.

 ان دولة آشور في المئة السنة الاخيرة من عمرها قبل سقوطها وزوالها استعملت اللغة الارامية ايضا في وثائقها الى جانب لغتها الاشورية (الاكادية)، وفرضت الآرامية نفسها فاضطر الاشوريون اليها لان الكثير من المواطنين في آشور ونينوى كانوا آراميين.

وبسبب كثرة الآراميين الذين رحَّلهم الاشوريون من المناطق الآرامية المحتلة واسكنوهم في عواصم آشور "أصبح قلب آشور شبه آرامي Semi Aramean" على حد قول علماء الاشوريات ( انظر مثلا البحث الهام: "كيف اصبحت آشور آراميةً" The Aramaization of Assyria المنشور في المجلد "مسوبوتاميا وجيرانها" Mesopotamien und seine Nachbarn, p. 450

ان ازدياد انتشار الآرامية في آشور ادى الى تقوية الجانب الارامي اللغوي والثقافي كثيراً وأضعف الهوية الاشورية، وهذا يعني ان جزءأً هاماً من الهوية الآشورية حينها كان قد أصبح آرامياً في قلب آشور نفسه، مما سهّل ذوبان الاشوريين في الهوية الارامية والمحيط الارامي بعد سقوط آشور بفترة قصيرة وخضوع منطقتهم للحكم البابلي الكلداني الارامي.

 وقد ذهب بعض العلماء ابعد من ذلك ليقولوا بانه ينبغي تسمية الدولة الاشورية في هذه المرحلة بانها "دولة آشورية آرامية مشتركة" لكثرة الاراميين فيها وكثرتهم في الاشتغال في الإدارة وتسيير دفة الدولة الاشورية، ولفرض لغتهم على آشور.

 وكان بعض الملوك الآشوريين متزوجين من نساء آراميات، والبعض كانت والداتهم آراميات مثل اسرحدون.

سـقـوط آشــور

وأعلن البابليون والميديون الحرب على آشور ليس لاخضاعها سياسياً بل لتحطيمها نهائياً كما دلت اعمالهم الوحشية الفظيعة ضدها لاحقاً. واستطاع القائد الكلداني "نابوبلاصر" ان يربح المعركة الاولى مع آشور عام 616 قبل الميلاد إلا انه اضطر الى التراجع بعد وصول الجيش المصري حليف آشور، ثم قام بهجوم آخر في السنة التالية لكنه مُني بالفشل.

وفي عام 614 نجح "كيأخسار" ملك الميديين باحتلال العاصمة آشور (وهي المرة الاولى في التاريخ حيث تقع عاصمة آشورية بيد المحتلين)، فانتشر الرعب بين الاهالي وارتكب الجنود الميديون اعمالاً فظيعة إذ نهبوا المدينة الجميلة وارتكبوا المجازر المروعة بحق الاشوريين واقتادوا من تبقى منهم وباعوهم كالعبيد بعد ان "خربوا المدينة عن بكرة ابيها" كما تذكر المصادر.

 لكن ظلت نينوى بشموخها صامدة أمام ضربات الاعداء تنتظر مصيرها الاسود، (لمدينة نينوى علاقة مباشرة مع انبياء العهد القديم مثل النبي يونان الذي ارسله الرب ليعظ النينويين، ومن هنا يأتي صوم نينوى ܒܥܘܬܐ ܕܢܝܢܘ̈ܝܐ والموجود عند جميع الطوائف السريانية وعند الارمن والاقباط والحبش،

والثاني هو ناحوم الألقوشي الذي تنبأ عن سقوطها، كما هناك ثلاثة أنبياء آخرون حزقيال ودانيال وعزرا لهما علاقة مباشرة مع بابل).

 وشنّ نابوبلاصر الكلداني وكيأخسار الميدي عام 612 هجومهم الكاسح على نينوى وحاصروها، فاستنجد الاشوريون بالاسقوثيين، غير ان الاسقوثيين انضموا الى جيش كيأخسار الميدي لأنه وعدهم بالمزيد من الغنائم والاسلاب.

وبعد حصار حوالي الشهرين في صيف عام 612 سقطت نينوى بيد الاعداء فاهتز العالم القديم لسقوطها. وتفشى فيها الذعر وعمت الفوضى ودمّروا المدينة وحوّلوها الى "أكداس من الخراب" كما جاء في سجل الاحداث البابلية، وتعرضت هذه المدينة الجميلة الى ابشع انواع النهب والسلب والحرق والقتل والمجازر بحق الاشوريين فسارت فيها الدماء في الطرقات وتحولت الى خراب ينعق فيها البوم.

 وكان البعض من الاشوريين قد هربوا الى حران ليتحصنوا بها، فشنّ عليهم نابوبلاصر الكلداني هجوما فسحقهم وارتكب بحقهم اعمالا وحشية فظيعة. وهكذا أفل نجم دولة آشور فسقطت وزالت عن الوجود للأبد.

وأما البعض من شعبها الذي خلص من القتل والمجازر فأخذ يذوب تدريجياً ضمن الاراميين بفضل اللغة الآرامية التي كانت في آشور، وبعد مرور ردحة من الزمن لم يبقَ هناك من يسمي نفسه "آشورياً" أو ينتمي للآشوريين اثنياً وقومياً، لقد اصبح الجميع "آراميين" لغوياً وثقافيا وقومياً.

لقد زالت آشور لكن أخبارها بقيت في ذكريات الشعوب وذاكرتها. وقد كتب الكاتب التوراتي العراقي ناحوم الألقوشي نبوةَ عن سقوط نينوى، وربما شاهد ذلك بعينه، فوصف الحرب المروعة على آشور وسقوط نينوى وتحولها الى مستنقع للدم بطريقة شعرية بقوله :

"خيلٌ تخب ومركبات تقفز، وفرسان تنهض، ولهيب السيف وبريق الرمح، وكثرة جرحى ووفرة قتلى ولا نهاية للجثث، ويعثرون بجثثهم". ويسمي نينوى بعد سقوطها بانها اصبحت/ستصبح "مدينة الدماء"، ...

و ان ما بقي/سيبقى من نينوى بعد سقوطها على حد قوله هو " فراغٌ، وخلاءٌ، وخرابٌ، وقلبٌ ذائب".

فيتعجب هذا الكاتب من المصير المروع الذي تعرضت له هذه المدينة العظيمة الجميلة وما حل بشعبها من مجازر فظيعة فيقول:

 "أين مأوى الاسود ومرعى أشبال الاسود؟ اشبالكِ يأكلها السيف واقطع من الارض فرائسكِ (سفر ناحوم 3:1-3)"

وبعد سقوط دولة آشور عام 612 قبل الميلاد على يد تحالف الآراميين البابليين والميديين وانتهاء الدولة من الوجود، وزوال الشعب الاشوري بعد ان ذابت بقاياه ضمن الاراميين، استمر الاسم الاشوري مستمراً في الاستعمال لدى جيرانهم الفرس والارمن واليونان يطلقونه على المنطقة الجغرافية التي كانت تضم مدينة "آشور" القديمة، لذلك فان مدينة الموصل القديمة تسمى بالسريانية "آثور" ܐܬܘܪ. ويطلقون هذا الاسم احياناً على اشخاص انحدروا من ذلك الاقليم بغض النظر عن قوميتهم، لكن سكان جنوب ووسط العراق حينها كانوا يسمون انفسهم "آراميين" ويسمون معظم منطقة وسط العراق وجنوبه ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ "بيث آرامايى" (اي وطن الآراميين أو بلاد الآراميين).

ثم سقطت بابل الكلدانية الآرامية بدورها بيد الفرس الاخمينيين عام 539 قبل الميلاد، وكان الاخمينيون قد قسموا امبراطوريتهم الى ولايات واستعملوا الاسم الاشوري لتسمية احدى الولايات فأعطوا حياة جديدة لهذا الاسم.

وكان "العراق الحالي" قد أصبح جزءاً من الدول الفارسية التي تتالت على المنطقة لغاية مجيء العرب في القرن السابع الميلادي باستثاء بعض المراحل القليلة التي حكم فيها اليونانيون.

بينما تأسست بعض الدويلات والامارات الارامية في شمال العراق وجنوبه وعاشت في القرون الاولى قبل وبعد الميلاد.

وفي المرحلة المسيحية كان العراق يشكل جزأً من الدولة الفارسية، وكانت المنطقة حوالي مدينة الموصل المسماة بالسريانية ܐܬܘܪ "آثور" والواقعة الى الشمال من اقليم ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ "بيث آرامايى" (بلاد الآراميين) تضم إمارة فارسية اشتهرت لدى السريان بسبب قصة اعتناق ابناء حاكمها الفارسي، الامير بهنام واخته الاميرة سارة، الديانة المسيحية على أثر شفاء الاميرة سارة على يد القديس مار متى الشيخ، فأمر والدهما الملك الفارسي المدعو "سنحريب" بقتلهما في القرن الرابع الميلادي فاصبحا شهيدا الايمان المسيحي، (سنكتب لاحقاً عن سنحريب الفارسي المذكور في هذه الرواية بعد إخضاعها للنقد العلمي).

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها