الفصل الرابع الآرامیون في الشمال الغربي من الشرق الأوسط
الجزء السادس
الآرامِيّون في الشمال الغربي من الشرق الأوسط
ألقينا
نظرةً سريعة على الآراميين، فتناولنا أصوَلهم وانتشارهم السريع في مختلف
المناطق السورية، وفي أجزاء عديدة من بلاد الرافدين.
ثم تكلمنا عن وجودهم في المنطقة الشرقية، وفي منطقَتي الجزيرة والفرات
الأوسط.
فنسّلط الآن الأضواء على بعض الأماكن التي تمركز
فيها الآراميّون في القسم الشمالي من بين النهرين، وتمكنوا من تشكيل دويلات
أو إمارات تنعم ببعض الاستقلالية، وشرعت تسّبب شيئاً من الإزعاج للبلدان
الكبيرة المجاورة.
الظهورات الأولى
إن المسيرة التي اتّبعها التغلغل الآرامي في شمال سوريا بعد كارثة القرن
الثاني عشر مسيرة غامضة.
فأقدم شهادة أكيدة، وهي شهادة الملك الآشوري
تغلاثفلاصر الأول (١١١٦-١٠٩٠
ق.م.) تفترض حضوراً آرامياًعلى طول المنحنى الغربي للفرات الأوسط حتى
كركميش، وكذلك على سبل جبل بشري نحو سوريا الوسطى، عبوراً بتدمر.
إن هذه
النصوص التي تلقى إجمالاً تأييداً قوياً في المقاطع التي جاءتنا من عهد
الملك آشور بل كالا( ١٠٨٧-١٠٧٠
ق.م.) تطلعنا، منذ القرن الحادي عشر، على ضغط - الأول متواصل يُمارسَ على
هذه الجبهة الواسعة، وعلى إمكانية تغلغلات متفرقة في المناطق السورية
الواقعة غربي الفرات.
إلا أن المَثل الأفضل قد يكون الذكر- الذي احتفظ به
الملك الآشوري شلمناصر الثالث (٨٥٩-٨٢٤
ق.م.) عن الاستيلاء على بيترو وموتكينو، الذي حققه "ملكٌ
لآرام" في عهد الملك الآشوري آشور - رابي - الثاني ( ١٠١٢ - ٩٧٢
ق.م.).
ويُعتقد أن بيترو" كان موضعًا يقع على الجهة الغربية من الفرات، غير
بعيد عن تل برسيب.
وقليلاً نحو الجنوب وقد وردتنا علامات تحدونا إلى التفكير في أن فئات
آرامية استطاعت أن تجتاح بلاد "اشتاتا"، فتضع حداً للعهد البرونزي.
إلا أن
هناك ختمًا لكوزي - تشوب من كركميش يحملنا على الاعتقاد بوجود فترة من
الصراع وعدم الاستقرار في هذه المنطقة.
وإذا
استثنينا ما جاء في نصوص العهد القديم، علينا أن ننتظر القرن التاسع لكي
نلقى شهادات جديدة مكتوبة تتعلق باستيطان الآراميين في الشمال الغربي من
سوريا، ولائحة السلالات المستخدمة في كتابة "كولاموا" تشير إلى أن "جًبار"
(كبار)، وهو الملك الأول لسمأل، يرتقي إلى نهاية القرن العاشر.
وتظهر "بيث
أديني" للمرة الأولى بصورة أكيدة في سنة ٨٩٩ ، حينما تفاوضت "بلاد أبناء
أديني" مع الملك أدد - نيراري الثاني. و"غوش"
الياحاني الذي سيعطي اسمه لبيث أغوشي المتمركزة على أرباد، يمثُل أمام آشور
ناصربال الثاني ( ٨٨٤-٨٥٩
ق.م.) في عاصمة "باتينا" المجاورة، وذلك في حدود سنة ٨٧٠.
وبالمناسبة
نفسها، نطلّع للمرة الأولى على بلاد"لوخوتي"،
وهي بدون شك "لعُش" نفسها التي سيُلحقها "زكور" بمملكة حماة في مطلع القرن
التالي.
بيث
أديني
إنها
مقاطعة تقع عند مدخل العالم الحثي - الحديث والبلاد الآرامية الشمالية.
ونستقي معلوماتنا عن "بيث أديني" من نشرات تروي انتصارات شلمناصر الثالث في
السنوات ٨٥٨-٨٥٥
ق.م، ومن التنقيبات التي قامت بها البعثات الآثارية الفرنسية في "تل
برسيب"(١٩٢٩-١٩٣١)، وتلك التي أجرتها في ارسلان تاش سنة ١٩٢٨ ، يضاف
إليها منذ سنة ١٩٨٧ التنقيبات التي أجرتها جامعة مالبورن الاسترالية.
تحالف
قدیم ضعیف الارتباط
ظهرت "بيث أديني" للمرة الأولى في حوليات الملك أدد - نيراري الثاني سنة
٨٩٩ ق.م، حيث يرسم النص مجملَ حدودها ويكشف عن طبيعتها.
فيروي أدد - نيراري
انه بينما كان في جوار "حوزيرينا"، "تلّقى قردَتين، إحداهما كبيرة والأخرى
صغيرة، من بلاد أبناء أديني الواقعة على طول الفرات".
وتجدر الإشارة هنا
إلى ان النصوص الآشورية لا تسمي أي أمير من هذا الشعب، إلى تاريخ ما بعد
سنة ٨٧٦ .
ومن الأحداث ذات الدلالة انه، في سنة ٨٨٣ ، حينما قام ثوار بقتل
"حمتايا" من "بيث حالوبي"،
واستبدلوه برجل "أتوا به من بلاد بيث أديني"، لم يجد آشور ناصربال
الثاني(٨٨٤-٨٥٩
ق.م.) أي زعيم لهذه الأمة ليُنحي عليه باللائمة على هذه الجريمة.
وحينما
ظهر "أحوني" "ابن أديني" بُعَيد سنة ٨٧٦ ، نلاحظ من السياق انه ليس ملكاً
وريثًا لدولة موحّدة.
ويروي آشور ناصربال أولاً كيف زحف إلى "بيث أديني"
ودمّرَ
مدينتهم "كبرابو"، ثم يشير إلى أن أحوني ابن أديني أدّى له الجزية. ويظهر
أن أحوني هذا وقف على الحياد في النضال اليائس الذي خاضه أدينيو كبرابو.
كما انه لم يتحرك في السنة السابقة أيضاً حينما دمّرَ
الآشوريون موقعَين آخرين من بلاده حيث كان عصاة من "لوقو" قد وجدوا لهم
ملاذًا.
فإن حادث "كبرابو" اضطرّ أحوني إلى أداء الجزية لكي يظلَّ في حمى
من النقمة الآشورية.
إلا أن النص لا يزودّنا بأرقام واضحة، ويبدو أن
الأموال التي سُلمت إلى الآشوري لم تكن طائلة.
وقد يشير ذلك إلى أن "بيث
أديني" لم تخرج من الحالة الاجتماعية القبلية إلا ببطء.
وكان
"أحوني"
يتوخّى تطوير شعبه تطويراً سريعاً، إلا انه في السنوات الأولى من حكمه، لم
يتميّز بشيء عن أمثاله، حتى انه كان في وسع مركز مثل "كبرابو"
أن يقرّر الحرب أو السلام، بدون الرجوع إليه.
ولم تكن المبادرات التي تقوم
بها مختلف القبائل أو المقاطعات لتلزم مسؤوليته أمام أقرانه ولا أمام
الغرباء.
لم يكن لبيث أديني ترابط أقوى من "لاقو" حيث كانت "بيث حالوبي"
-وهي
عضو مهم في التحالف- قد استطاعت في وقت سابق أن تقف على الحياد من انتفاضة
عامة ضد آشور ناصربال الثاني.
معضلة
مسواري تل برسیب
إن
هذه اللامركزية المستمرة تساعدنا لنفهم كيف استطاعت مدينة مسواري (وهي تل
برسيب وتُدعى اليوم تل أحمر) أن تحتفظ بملوكها وبثقافتها الحثية - الحديثة
إلى وقت يسبق بقليل الغزو الذي قام به الملك الآشوري شلمناصر الثالث
(٨٥٩-٨٢٤
ق.م.) لبيث أديني.
فهذه الدولة، الواقعة على الشاطئ الشرقي من نهر الفرات،
على بعد نحو ٢٠ كم جنوبي كركميش، كانت محاطة بممتلكات تعود إلى بيث أديني.
ولدى دنو الخطر، توصلَ "أحوني" إلى جمع البلاد كلها تحت سيطرته المباشرة.
وإذ ذاك فقط، بدأت النصوص تسمي تل برسيب "مدينته الحصينة" أو "مدينته
الملوكية".
ولا يمكننا أن نقول هل ظلت مسواري مستقلة إلى مبادرة أحوني هذه،
أو هل كانت من قبل تش ّ كل جزءاً من بيث أديني، سواء بصفتها عضواً كاملاً
أو بصفة نوع من الحماية.
ويبدو من غير المرجّح أن يكون "أحوني" قد استولى
بسهولة على مسواري، لأن دويلات حثية - حديثة عديدة ساعدته ضد آشور ناصربال،
من ضمنها كركميش التي كانت قريبة من مسواري وفي الوقت نفسه لا تميل إلى
مجابهة الإمبراطورية الآشورية.
وتجدر الملاحظة إلى أن اسم "مسواري" القديم
لم يختفِ
سريعًا.
فهناك كتابة من العهد الآشوري على الأسود القائمة على حراسة الباب
الشرقي من "ارسلان تاش" تذكر هذا الاسم في صدد أمير أو حاكم تتعذر قراءة
اسمه.
جغرافیة
بیث أدیني
يبدو
أن "بيث أديني" كانت تمتدّ على شكل قوس، وتغطي أكبر جزء من منعطف الفرات.
أما في الجهة الجنوبية الشرقية فكانت تدنو من مصب الخابور، بحيث استطاع
آشور ناصربال الثاني، بُعيَد
سنة ٨٧٨ ق.م.، أن يدخل إليها مباشرة، في ملاحقته المتمرد اللاقي "أزي –
ايلو".
وكانت في الشرق مفصولة عن وادي البليخ بدول صغيرة، مثل "تل أبني" و
"أشو وإمرّينو" و "سروج "، وهي دول تدور في فلكها. وكان جزء كبير من
أراضيها يقع غربي الفرات، كما يصرّح بذلك الملك الآشوري شلمناصر الثالث.
ولكن حتى الآن لم يتّم تشخيص الكثير من المواقع في تلك المنطقة
.
ولكننا نظن ان "نبّيجي" تتناسب مع مدينة منبج، وهي هيرابوليس الشهيرة بـ
"آلهتها
السورية"، وتقع على بعد أقل من ٢٠ كم في الجنوب الغربي من تل برسيب. وقد
قلنا أيضاً ان "بيترو" كانت على شاطئ الفرات الغربي، غير بعيدة عن تل
برسيب.
أما "باكاراهوبوني" فكانت موضع الخلاف الدائم بين الدول المجاورة
لها، وكانت في ذلك الزمان تعود إلى بيث أديني، وتقع أيضاً على الضفة اليمنى
من نهر الفرات، بالقرب من "كومّوح" و "كركم"، في موضع "غازي عنتاب" الحالية
أو قليلاً إلى شماليها.
إن
هذه التشخيصات وغيرها تحدونا إلى الاعتقاد أن معظم المواقع الأدينية كانت
تقريباً على مستوى موقع "تل برسيب"، وقليلاً نحو الشمال حيث نجد حوض كركميش
المهم. وهناك اكتشاف حديث من شأنه أن يسّلط بعض الأضواء على المنطقة
الكائنة شرقي الفرات.
فقد عُثر في "تل شيوخ فوقاني" شمالي تل برسيب (تل
أحمر)، وعلى مستوى قريب من كركميش، على لوحين يذكران اسم "بر مارن" قد يكون
الاسم القديم لهذا الموقع.
ويقال أن شلمناصر الثالث، في تقدّمه نحو الشمال
سنة ٨٥٨ ، وبعد محاولة أولى ضد تل برسيب، استولى على موقع "بر - مار - إي –
نا" وهي مدينة ذات اسم آرامي قد تكون في علاقة مع بيث أديني.
ويعني هذا
الاسم "ابن ربنا أو سيدنا". وقد يكون هذا السيد المذكور هو "أفلاداد" الذي
ظهرت أهميته في الفرات الأوسط من جديد في وثائق "سوحو".
فنرى أن "بيث أديني" كانت تمتد إلى مناطق واسعة، يختلف المناخ فيها
اختلافًا كبيرًا، ابتداءً
من المناطق الخصبة والمروية في الشمال، حتى السهب والبراري القاحلة في
الجنوب.
وفي الوقت نفسه، كانت هذه البلاد تّتسم بسعة تضاهي ما ستبلغه مملكة
"أرباد"، ولكن أقل من "حماة - لُعُش"
الكبيرة في القرن الثامن.
ولا شك أنها لم تكن تتفوّق على سعة مملكة دمشق في
عهد "أحوني".
ولا يسعنا إلا أن نندهش أمام الصلابة التي بها جابه هذا
الكيان السياسي، الذي ما كاد أن يحقق وحدته، الضربات الآشورية العنيفة.
الغزو الآشوري
لقد روى مؤرخو ذلك الزمان وحّللوا تلك الهجمات المتلاحقة والناجحة التي
شنها الملك الآشوري شلمناصر الثالث.
ويظهر ما أبداه الملك الآشوري من
الإصرار ضد "أحوني" وبلاده، على ضوء مشاريعه اللاحقة في سوريا الغربية وفي
الأناضول.
فما عدا كركميش التي كانت تساند "أحوني"،
والتي لم يكن الغازي يريد أن يستنزف فيها قواه وطاقاته العسكرية، كانت بيث
أديني تسيطر على بيرسيك وتل أحمر على أفضل المواقع لعبور الفرات، وذلك
بإتجاه الفرائس الأبعد التي كان يشتهيها.
وتروي أخبار شلمناصر انه بعدما
استولى على مدينة "بر مارن"، لم يعبر الفرات إلا ليدخل إلى "كومّوح".
ولا
بد انه سار على طول الشاطئ الشرقي من النهر بإتجاه الشمال، متجّنبّا هجوماً
مباشراً على كركميش.
وفي سنة ٨٥٨ ، عند دنوّ شلمناصر الثالث، اتفق معظم جيران"أحوني"
على رفض الخضوع للامبراطورية الآشورية، واتحدوا للدفاع عن خط الفرات.
ولم
يجابه شلمناصر بيث أديني وحدَها، بل سمأل أيضًا وباتينا وكركميش، وقد انضمّ
إليها في وقت لاحق كلتا القيليقيتين (قوِي وهيلاكّو) وياحان، وحتى شعب
"يزبوك" الصغير.
ولم يستطع الملك الآشوري أن يستولي على تل برسيب، ولكنه
أحرز انتصارات باهرة على مسرح أوسع بكثير، من سمأل إلى باتينا، ومن أمانوس
إلى ساحل البحر المتوسط.
وفي السنة التالية، وجدت بيث أديني نفسها معزولة، وفقدت كركميش مدينة
"شازابي"، وستؤدي الجزية قريباً شأن معظم حلفاء سنة ٨٥٨ . ولم يفلح الآشوري
بعد في اقتحام تل برسيب.
إلا أن "أحوني" يشاهد بيأس عميق خراب مئتين من
مدنه، ومن ضمنها ستة مواقع حصينة، ولا سيما "دابيكو"
قلعة "حطي"، التي جاءت قصة احتلالها ونهبها مرسومة على أبواب"بلاوات".
وتجدر الملاحظة أن هذا اللقب الذي أُعطيَ
لدابيكو
يظهر
التداخل الآرامي والحثي - الحديث. وكذا الشأن مع اسم "شازابي"، وهي مدينة
عائدة إلى ملك كركميش، ولكن اسمها يبدو ساميَّا.
وفي
سنة ٨٥٦ ، أعاد شلمناصر الثالث الكرة على تل برسيب. فتخّلى عنها "أحوني" مع
القسم الأكبر من جيشه، وهربوا إلى ما وراء الفرات.
ولما استولى شلمناصر على
تل برسيب، غيّرَ
اسمها وأطل َ ق عليها اسم "كار شلمناصر".
وهكذا فعل أيضًا لمدن أخرى
احتّلها وأقام فيها قصوراً ملكية فخمة. وفي سنة ٨٥٥ ، اضطر "أحوني" إلى
المراهنة على آخر معركة، في"شيتامرات"،
وهو موضع يوصف مثل جبل وعر على شاطئ الفرات، ومثل مدينة حصينة، ولكننا نجهل
موقعها.
وقد ورد ذكر هذا الحادث مرات عديدة في كتابات شلمناصر، التي تعلن
ان المناضل العنيد "أحوني" سُبيَ مع ما تبقى من قواته، ودُمجَ
في الشعب الآشوري.
بیث أدیني في الإمبراطوریة الآشوریة
إذا كانت بعض المدن الواقعة ما وراء الفرات قد أصبحت مستعمرات آشورية، فلا
يبدو شلمناصر لا يبدو انه احتلَّ الجزء الغربي من بيث أديني.
وفي "كار
شلمناصر" وفي "حداتو" شرقيها (وهي أرسلان تاش) عُثر على آثار مهمة تشير إلى
الحضور الآشوري.
كار – شلمناصر
لقد عثرت البعثة الآثارية الاسترالية في كار شلمناصر على آثار آرامية.
وجاءت الكتابة الكبيرة للقائد الأعلى الآشوري "تورتانو" المسمى "شمشي –
ايلو" التي تروي حملة ضد "أرغيشتي" الأول ملك أورارتو (٧٦٦-٧٨٩
ق.م.)، منحوتة على أسدين ضخمين من النموذج الحثي - الحديث.
إلا أن الأثر
الرئيسي لا يكشف شيئًا متميزًا عن الآراميين تحت النظام الآشوري. فالأمر
يتعلق ببلاط آشوري نموذجي مثل بلاط "ارسلان تاش"، يرقى إلى النصف الثاني من
القرن الثامن، وهو شهير لاسيما لأجل جدرانياته.
إلا أن "شمشي – ايلو"، وهو
المحتل الأشهر لكار - شلمناصر، عانى الكثير من العالم الآرامي. فطوال فترة
أولى من وظيفة "تورتانو" التي
(٨١٠-٧٨٣
ق.م.) وتواصلت في الأقل - بدأت منذ عهد أدد نيراري الثالث حتى سنة ٧٥٢
ق.م.، كان شمشي ايلو مسؤولاً، من الشمال الشرقي حتى الشمال الغربي، عن
القطاع المتقدم من الإمبراطورية.
وبعد سنة ٧٩٦ بفترة وجيزة، تدخل، بجانب
ملكه، في شؤون مملكتي أرباد وحماة المهمتين، وقادته حملةٌ أخرى إلى دمشق
سنة ٧٧٣ ق.م.
حَداتو
يظن الآثاريون انها ارسلان تاش الواقعة على مسافة ٩ كم في الجنوب الشرقي من
"عين عرب" التي هي محطة يمرُّ بها القطار القادم من بغداد.
ولقد وُجد شيء
من تراث حَداتو الآثاري في "تل حجّيب" الواقعة على مسافة كيلومترين شرقيها.
كانت
مدينة "حداتو" تقع على خط عرض كركميش، على مسافة ٣٠ كم في الشمال الشرقي من
"كار شلمناصر".
وكان موقعها مؤاتياً لتكون مرحلة بين هذين المركزين وبين
حران. وتُظهر النقوش انها كانت تدور في الفلك الإداري لكار شلمناصر.
ولدينا
نص جاء بلغتين، فيه يقدّم مؤلفُه نفسَه كحاكم لكار شلمناصر و"خصي" الملك
شمشي أدد الخامس (٨٢٣-٨١١ ق.م.).
وهو يفتخر بأنه بنى أسوار "حداتو". وهو،
مثل "حدو – يتعي" في غوزانو، يستخدم الآرامية، بالإضافة إلى الأكدية.
وهو
عابد للإله الصاعقة، ويذكر "مدينة بيث أبي".
ويمكننا الاعتقاد انه من
المنطقة وانه من أصل آرامي. والاستشهاد بشمشي أدد الخامس يجعل المؤلف
سابقاً لشمشي
ايلو، ويتيح لنا تحديد تاريخ بناء أسوار مدينة "حداتو" بالقرن التاسع قبل
الميلاد.
وهذا ما يساعد على إدراك حضور آثار حثية - حديثة.
مملكة
سَمأَل
الموقع الجغرافي وأسماء المملكة
كانت سَمأل الدولة الأولى التي قاومت الملك الآشوري شلمناصر الثالث عند
قيامه بحملته ضد بيث أديني سنة ٨٥٨ . فبعد ان تلّقى الملك الآشوري هدايا
"كركم" (وهو بلد يتمحور حول مرعش، شمالي أمانوس)، توجّه نحو "لوتيبو"
المدينة المحصنة في "حيانو" (حيّا الآرامية) في بلاد سمأل، وقد تلقت مساندة
في مقاومتها من "أحوني" ومن مل َ كي "باتينا"
و"كركميش". ويزودّنا هذا الحدث بأقدم معطيات عن حالة سمأل الجغرافية.
فهو يظهرها متاخمة لكركم.
وهذا ما سيتأكد بعد قرن بامتداد سمأل على حساب
هذا الجار نفسه.
وهناك نص آخر لشلمناصر يعود إلى سنة ٨٥٧ يضع "حيّا" في سفح
جبل أمانوس.
وبعد نحو ثلاثين سنة، يفتخر الملك
"كولاموا"
بأنه وضع حدّا لضغط جار آخر كان يملك على مدينة "أدنه"
وقيليقية السفلى.
وتُطلق النصوص على "حيّا" لقبين مختلفين:
فهو من "سمأل"، وفي الوقت نفسه
"دومو كبّاري".
أما سمأل فهو اسم سامي يعني "الشمال"،
وسيشير إلى هذه الدولة في الكتابات الآرامية من القرن الثامن.
أما ” كبّاري“
فلفظة آرامية تعني "الجبّار، البطل".
والكتابات بالفينيقية وباللهجة
الآرامية تضيف صفة أخرى:
إنها تدعو المملكة باسم "يعدي".
ولكن يبدو أن سمأل
كان في الوقت نفسه اسم البلاد واسم مدينتها الرئيسية، كما هو الشأن مع رباد
وحماة أو دمشق.
زنجرلي
والمواقع المجاورة لها
على ضوء الكتابات، توصلت التنقيبات الألمانية التي أُجريت في المنطقة في
نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، إلى تأكيد هوية
"زنجرلي"
التي تقع شمالي "إصلاحية" وشرقي أبواب أمانوس، وعاصمة بلاد سَمأل التي
تمّثل حقًا "الشمال" وأقصى تقدّم الآراميين نحو الشمال الغربي من الفرات،
في منطقة رطبة وذات أدغال، مختلفة جداً عن المناطق الأخرى التي سكنها
الآراميّون الآخرون.
وهناك علامات تتيح لنا أن نلحق بها مواقع أخرى عديدة.
زنجرلي
وآثارها
لقد عُثر في زنجرلي على أشياء قديمة جداً. إلا أن التنقيبات تركزت على حقبة
العصر الحديدي.
وما نعرفه عن تاريخ هذا الموقع يستند بصورة رئيسية إلى فن
البناء والنقوش وتاريخ الفن، وهو يتمحور حول القلعة الملكية.
في العصر الحديدي الثاني، كانت المدينة محاطة بسور دائري قطره٧٢٠
متراً.
وكانت القلعة تشغل خمسة من هكتاراتها السبعة والثلاثين.
وكان في
الجهة الجنوبية من السور باب يرقى إلى القرن التاسع.
أما الآثار الأخرى،
فكان "كولاموا" وخلفاؤه قد أقاموها، وكانت مجموعة في الشمال وفي الشمال
الغربي.
وتجدر الإشارة إلى انه لم يكت
َ شف أي معبد في قلعة سَمأل.
وهناك لوح بالخط المسماري يشير إلى أن هذه المجموعة من الآثار كانت ما تزال
قائمة حتى سنة ٦٧٦ ق.م. إلا أن سَمأل دُمّرت بعد زمان قصير، وأعاد
الآشوريون بناء القلعة بحسب تصميم مختلف جدًا.
وما عدا هذا اللوح، لدينا بعض التواريخ التي تنقلها إلينا نقوش
"كولاموا"
و"بر ركيب". وعلى هذا الأساس، علينا أن ننسب إلى الملك
"كولاموا"
بلاطاً يقع في شمال القلعة، وإلى بر ركيب بلاطاً آخر مرتبطًا بالأول،
والجزء الشمالي من الرواق الكبير الواقع في الشمال الغربي.
تاريخ بيث كّباري
الأصل والملوك الأوائل
إن أصول سَمأل غير معروفة جيدًا، وكذلك نهايتها. وكانت محاطة بفروع من
الإمبراطورية الحثية ومتأثرة بعمق بالتقاليد الفنية الحثية
-الحديثة.
ولا ندري كيف تسّنى للآراميين أن يستولوا على السلطة فيها، ولا متى تمّت
لهم هذه السيطرة.
ولا يُستبعَد أن تكون المدينة قد حظيت بتحصيناتها
وبناياتها الأولى قبل مجيء الآراميين إليها.
إن كتابات كولاموا وبر ركيب لأبيه "باناموا" والتزامنات التاريخية مع
الإمبراطورية الآشورية تتيح لنا إعادة تكوين لائحة ملكية آرامية بدون أخطاء
كبيرة، وتسلسلاً تاريخياً تقريبياً.
فالسلف الأول الذي يحتفظ كولاموا باسمه
هو "كبّار"، ومكانه في رأس اللائحة مثبت بلقب "ابن كبّار" الذي تعطيه نصوص
شلمناصر الثالث ل "حيّا".
وبين "كبّار" و"حيّا" يسمي كولاموا شخصاً آخر ليس
اسمه واضحاً.
وإذ كان "حيّا" يملك في سنة ٨٥٨ ق.م.،
فيمكن أن يكون "كبّار" قد شغلَ منصب الزعامة على سَمأل بعد سنة ٩٠٠ ق.م.،
في زمان كان فيه شعب أديني موجوداً على طول ضفاف نهر الفرات.
وبالنظر إلى
شهادة أقدم عن هذه الأمة الأكبر عدداً، وقرب حدودها، وتعاون الشعبين في وقت
اجتياح شلمناصر لبيث أديني وهذا هو المثل الوحيد للخصومات بين سَمأل
والبلاد الآشورية - فإن شعب سَمأل يستمدُّ أصوَله من بيث أديني التي قد
يكون "كبّار" أحد الفروع المنفصلة عنها.
وإذا أسس "حيّا" أمة، فهو لم يؤسس سلالة. وبعد جهوده الحربية سنة٨٥٨ ، خضع
وأدّى الجزية للإمبراطورية الآشورية.
وقد خل َ ف "حيّا" ولداه بالتتابع،
ويسمى أحدهما "شئِل"، والآخر "كولاموا".
كولاموا
لا نعرف شيئاً عن "شئِل". أما كولاموا فمعروف أكثر، بفضل كتابته الفينيقية.
فهو يفتخر بأنه حطّم
قبضة ملك "أدنه"، إذ دفع عن خدمات ملك آشور، وانه غيّرَ
شقاءَ
بلاده إلى الرخاء والازدهار.
وتجدر الملاحظة أن لهذا الأمر ما يوازيه في
العصر الحديدي.
وهناك شهادات كثيرة مماثلة وردت في العهد القديم، نخص
بالذكر منها: ٢صم ٦/١٠،١ملوك١٨/١٠،
٢ملوك ٦/٧ ،٧/١٦...
لا شك أن عهد كولاموا كان الذروة لسَمأل. وقد عرف هذا الملك أن يجني أكبر
فائدة من خضوعه للإمبراطورية الآشورية الذي كان والده قد رضي به.
ولا يسعنا
أن نحدّد نهاية عهد كولاموا، إنما نفترض بصورة مبهمة انها ربما كانت بين
سنة ٨٣٠ وسنة ٨٢٠ ق.م.
حقبة
من الحكم الذاتي النسبي
تظهر سَمأل من جديد في بعض النصوص، ولاسيما في كتابة
"زكور"،
حيث نلاحظ أن ملكاً من سَمأل لا يُذكر اسمه الصريح قد شكّل جزءاً من
التحالف الكبير الذي حاصر "حزرك" بدون جدوى سنة ٧٩٦ ق.م.
فنرى هنا سَمأل في صحبة "أرباد" و"قوِي" وغيرهما من
البلدان المتمردة على الإمبراطورية الآشورية.
وقد يكون التد ّ خل الآشوري
المفاجئ هو الذي أفشلَ تحالَفهم وبدّدَ
شملهم.
ومع ذلك فليس لدينا أي إشارة إلى حدوث خلاف بين سَمأل والإمبراطورية
طوال هذه الحقبة.
فإذا كان ملوكها يستمروّن على أداء الجزية أم لا، فإن
سَمأل تبدو لنا وكأنها متروكة وشأنها حتى بعد سنة ٧٥٠ ق.م.
ولا نعرف شيئًا عن والد "باناموا".
ويبدو أن عهدَيهما كانا غير كافيين
لمَلء فترة دامت أكثر من ٧٠ سنة.
والعلامة الوحيدة لاستمرارية هذه السلالة
قد نراها في بقاء إلههم "ركبعل" بصفة شفيع السلالة.
عودة قوة السیطرة الآشوریة
في هذه الظروف، لا عجب أن يحدث انقلاب أو أن تنشب حروب أهلية طوال الربع
الثالث من القرن.
هناك كتابة نحتها "بر ركيب" على تمثال كبير تخليدًا لذكرى
أبيه "باناموا" ابن "برصور".
إلا أن النص مخروم جداً، ومعطيات كثيرة فيه
غير واضحة.
إنما تعبّد ملوك سَمأل المتواصل لركبعل يشير إلى استمرارية
السلالة، بالرغم من الاضطرابات والانتفاضات الكثيرة.
وحدثت ثورة في البلاط أطاحت ببرصور وبإخوته "السبعين"، وأدّت إلى مجزرة
رهيبة عامة أفضت إلى الدمار والشقاء في البلاد.
وقد نجا "باناموا"
الشاب من المجزرة، وحضر أمام الملك الآشوري الذي ساعده لاستعادة سلطته.
وبحسب "بر ركيب"، أعاد هذا التجديد رخاءً
كبيراً إلى البلاد كلها.
وظل باناموا أميناً تجاه الملك تغلاثفلاصر الثالث، حتى انه مات في خدمته،
خلال حملة ضد دمشق.
وقد أكرمَه سيدُه بعد موته، كما كان قد فعل طوال حياته.
ويتيح لنا هذا الحدث الأخير تحديد تاريخ مجيء "بر ركيب" إلى الحكم في سنة
٧٣٢/٧٣٣ ق.م. إلا أن تاريخ الانقلاب الذي أ
دّى إلى هذه الأحداث يبقى مجهولاً.
إنما نعرف أن "باناموا سَمأل" يُذ كَر
بين التابعين الذين أدوا الجزية لتغلاثفلاصر سنة ٧٣٨ .
وقد يكون هذا الحدث
سابقاً لتنصيبه ملكاً.
وكل ما نضيفه يدخل في نطاق الحدس والتخمين، منها
العلاقات الممكنة للأزمة السَمألية بخلافات سنة ٧٤٣-
٧٤٠
أو٧٣٩-٧٣٨.
ان كتابات بر ركيب والآثار المنسوبة إليه تُطري عهدّا من الازدهار الداخلي
ومن العلاقات الحسنة بين السلالات المحلية الأخيرة وتغلاثفلاصر الثالث
(٧٤٥-٧٢٧ق.م.).
ومع ذلك فإن نصًا جزئيًا يعود إلى السنة الثالثة عشرة للملك
سرجون الثاني (٧٢٢-٧٠٥)
يذكر سَمأل في لائحة مقاطعات.
وهنا أيضاً لا نعرف متى أو لماذا أُجريَ
هذا التغيير.
ربما كانت الإمبراطورية الآشورية ترمي إلى تأكيد هيمنتها
حيثما كان الأمر ما يزال ممكنًا، إزاء التهديد المتفاقم الآتي من شعوب
الأناضول الجديدة.
خراب ونهضة مؤقتة
في تاريخ متأخر عن عهد بر ركيب، صارت سَمأل ضحية هجوم مدمرّ لم تنهض منه
إلا بثمن تغييرات مهمة جدًا.
وهناك لوح يرقى إلى سنة٦٧٩
ق.م.، اكتُشف فيه موقع البلاط القديم لكولاموا، وخزفية للقرن السابع وُجِدت
في إحدى طبقات الخرائب، يساعداننا لنتصور الأحداث بحسب تسلسلها.
فبعد إعادة
بناء سَمأل، لا بد أن المنطقة استمرت في الوجود حتى سقوط الإمبراطورية
الآشورية.
ثم عاد الصمت فخيم على سَمأل، وما يزال!...
منذ
قبل منتصف القرن التاسع كانت الإمبراطورية الآشورية قد أخضعت نهائيًا
البلاد الآرامية الغربية الأقرب إلى العالم الحثي الحديث، منها بيث أديني
وبيث كبّاري اللتان أصبحتا بمثابة رأس جسر نحو بلاد الأناضول وسوريا،
وستختلف الحال مع الممالك التي سنذكرها لاحقاً.
فإن الضعف الأصلي لبيث
أهوشي ولُعُش أمام الإمبراطورية الآشورية لم يمنعهما من النمو والازدهار
والاحتفاظ بحكمهما الذاتي مع الدويلات التي كانت تعاديهما مثل حماة ودمشق،
وذلك طوال أكثر من قرن بعد سقوط دول الشرق والشمال.
(يتبع الجزء السابع) |