لفصل الثامن طبیعة الدول الآرامیة
الثاني عشر
الملكية عند الآراميين
ملكیة وراثیة
إن الدول الآرامية التي نعرف شيئًا عن تركيبتها الداخلية غوزان،
سمأل أرپاد، حماة، دمشق كانت كلها أنظمة ملكية وراثية.
وأصحاب
الكتابات، غالبًا ما يسمّون الملك أباهم ويقولون إنه يجلس على عرش أبيهم
.
ويحدث لهم أنهم يشكرون الآلهة على أنها اعطتهم ذرية.
وهناك نصب من
"زنجرلي"
قد يمّثل الملك "كولاموا" يتبعه وريثه.
وبعد قرن، نلاحظ أن
الغامضة ومملكة أرپاد
(K T K)
معاهدات "سفيرة" التي تنظم العلاقات بين
الآرامية، تكرر دون انقطاع انها تلزم ليس الملك وحده، بل ابنه أيضًا
وحفيده وأعقابه.
وهناك معاهدة آشورية مع المملكة نفسها تمتد هي أيضًا،
بنوع صريح، إلى أولاد الملك وأحفاده.
أما "زكور"، المغامر الذي استولى على السلطة في حماة في نحو
سنة ٨٠٠ ق.م، على حساب السلالة القديمة، فهو القائد الآرامي الرئيس الذي
نجهل روابطه العائلية جهلاً تامًا.
فلا كتابته الشهيرة، ولا أي نص آخر،
يذكر سوابقه. فثمة فجوة في الوثائق بينه وبين الملك "ايني ايلو" الذي كان
يحكم في عهد تغلاثفلاصر الثالث.
ومع ذلك فليس ما يدعو للشك في ان
زكور نفسه قد بحث، وربما أفلح في بحثه عن تأسيس سلالة، وان ملوكيته قد
شابهت ملوكية الرؤساء الآراميين المعروفين أكثر.
إن سوابق "أحوني" أيضًا غير معروفة. وقد رأينا انه أمضى بعض
الوقت في سبيل توحيد "بيث أديني" تحت سلطته.
وربما أن هذا الزعيم من النصف
الأول من القرن التاسع لم يكن يمّثل سوى فترة إنتقال، فيها كانت
المملكة تتكوّن من كيانات صغيرة عديدة، من القبائل ومن الإمارات القبلية.
وقد لاحظنا أيضًا أن الملكين الأولين لسمأل لم يخلفهما أبناؤهما على العرش.
ويبدو أن نظام الخلافة لم يكن قد تم تحديده بدقة داخل الأسر الملكية.
فكان
الأخ يخلف أخاه، وكانت الاحتجاجات قد تثور بين أبناء ملك متوفى.
فيبدو
أن الملكية الوراثية لم تفرض ذاتها على الدول الآرامية إلا في سياق يعتوره
بعض الصعوبة.
جلالة الملك
تمجید الملك في الفن
كما هو الشأن لدى جيرانهم الآشوريين والحثيين الحديثين، كان
شخص الملك يحتلُّ مكانًا متميزًا في فن الآراميين.
ففي السياق الديني،
يُمثَّل
الملك واقفًا في الغالب، سواءً
أمام الآلهة أسياده، أو لكي يتلقى الإكرام الذي
يقدمه له خلفاؤه. وأحد النقوش البارزة يرينا "بر ركيب" ملك سمأل على
عرشه، وهو يتحدث مع وزيره.
وفي مواضع أخرى، نرى ملوكًا وهم
يصطادون الأسد أو الأرخُص (ثور بري) وهم على مركباتهم. وهناك مشهد
للبلاط أُعيد تكوينه من قطع كثيرة من متاحف إسطنبول وبرلين، قد تكون له
سمات جنائزية.
هذا المشهد يرسم ملك سمأل وهو جالس في وليمة، وحرس
مسلحون يقفون وراء عرشه، وموكب من الموسيقاريين يعزفون بآلاتهم
ويدنون منه.
في النصوص
يشغل الملك أيضًا مقدمة المشهد في مجموعة نقوش الدول الآرامية.
وأقدم مصدر، وهو تمثال "تل فخيرية" محبط للآمال قليلاً في شأن موضوعنا
هذا.
فان التأثير الآشوري سائد فيه، والرخاء الشخصي لصاحبه يهيمن على
الطلبات المصوغة في السطور ٧- ١٠ و ١٣-١٥
.
وتطلعنا كتابات سمأل بنوع أفضل، وتأتي كتابات زكور و"سفيرة" لتؤكد شهادتها
وتغنيها.
لا شيء يشير إلى أن الملوك الآراميين أُّلهوا وهم أحياء، ولا تحتوي
كتاباتهم على أيّ لائحة من الألقاب المجيدة، شأن ما كان يجري لملوك ما
بين النهرين، أو لدى الملوك الحثيين الحديثين، وإن
على درجة أقل.
وحتى لقب "الرب" (مري) لا يرد كلقب ملوكي آرامي سوى في دمشق.
إن أوضح الوثائق الصورية التي تزودّنا بها سمأل لا تنسب إلى
الملوك الآراميين زيًا أو زينة مختلفة جدًا عما لدى عظماء المملكة.
فإن
شال بر ركيب وغطاء رأسه يشبهان ما يحمله أشراف مملكته. وكذلك
كراسي (عروش) الملوك شبيهة بما لدى العظماء الذين تمّثلهم الأنصاب
الجنائزية الحثية الحديثة والآرامية. وانه لَمِن الالتباس التكلم عن
"العروش"
في شأنهم ٤.
إلا أن النصوص الآرامية تعظّم، مثل البلدان المجاورة، شأن الملكية،
وتُطري عظمتها. فحوليات أدد نراري الثاني حفظت لنا وثيقة نادرة
ونفيسة عن الملكية الآرامية في مطلع القرن التاسع، في مقطع صعب يستحق
دراسة عميقة.
فإن أدد نراري يذكر باختصار إحتفالاً به يكرم نور أدد،
وهو أمير تيماني من "نصيبينا" (نصيبين)، ذاك الذي انتصر عليه.
فالآرامي يقدّم ذبائح وسكائب، وتُرتَّل أُنشودة فيها يذ ّ كر الشرح الآشوري
الموجز "بإنشودة صهيون".
ونحو قرنين بعد ذلك، نلاحظ أيضًا الطابع
الإجلالي للملكية في أمثال أحيقار التي يبدو أن نواتها ترقى إلى أزمنة
سابقة
للعهد الآشوري. وإليكم حكمتين من هذه المجموعة:
مهذّبٌ هو كلام الملك
ولكنه يقطع أكثر من شفرة ذات حدّين.
كيف يمكن للحطب أن يقاوم النار، وأن يقاوم اللحمُ
السكين والإنسان
الملكَ؟
الملك
وآلهته
إذا كانت الايدولوجيا الملكية الآرامية لا تضع الملك على منتصف
الطريق بين الآلهة والمائتين، فإنها، مع ذلك، كانت تنسب إليه علاقة خاصة
بالألوهة.
فإن الملوك الآراميين، مثل أبناء أعمامهم الآشوريين والحثيين
الحديثين والموآبيين والعمّونيين كانوا يشرحون ارتقاءَهم السلطة ونجاحاتهم
بحظوة من الآلهة.
فالآلهة هي التي تُجلس على العرش "ملكًا" على عرش
أبيه، وهي التي "تضع الصولجان بيده" أو ببساطة "تجعله ملكًا". وكانت الآلهة
هي التي "تقوم بجانب" الملك في الوقت المناسب، أو "كانت تسير أمامه" في
حملاته.
وبالمقابل، كان من واجب الملك "أن يجلس على العرش" "في بيوت"
(معابد). وكان رخاء الدولة منوطًا بعلاقات الملك الحسنة
مع الألوهة. وكانت
الآلهة تتقبل الذبائح "من يديه". أما رفضها، فكان يعني حدوث كارثة قومية.
وبالطبع كان الملك نفسه يتلقى كل شيء من آلهته.
ولا عجب أن يسمي
"پاناموا"
إبن "قوريل" هذه العلاقات المتبادلة "حلفًا" أو "عهدًا".
ولقد خصص الملوك الآراميون آثارهم بآلهة عديدة ومختلفة، ولكن يبدو ان بعضًا
منهم استندوا إلى ألوهة خاصة، يقولون إنها قامت إلى جانبهم
أو إنها سارت أمامهم.
فكان "هدد" الإله الحامي للملك "پاناموا" ابن " قوريل"
ولصاحب نصب تل دان.
أما الملك "زكور"، فكان "بعل شماين" هو إلهه
الحامي.
ونعلم ان هذين الإلهين كانا يحظيان بالدرجة الأولى من العظمة في
العالم السامي من الشمال الغربي، وان "هدد" كان يتصدر دومًا لائحة أهم
آلهة سمأل.
إن الموضع الأول الذي يحتله الإله هدد في كتابة "پاناموا" ابن
قوريل، وفي نتف تل دان ليس لأن هدد كان الإله الشخصي للملوك أصحاب
هذه الكتابات، إنما يعكس بالأحرى شأن إله العاصفة في رأس مجمع آلهة
سمأل ودمشق أيضًا.
فما وراء الإله الشخصي، كان الملك مسؤولاً تجاه الإله
الرئيسي للمملكة، وبالطبع هذه العلاقة هي التي تبرز في رواية ذات طابع
سياسي.
إن هذا الشرح لا يحلّ جميع المعضلات. ومن الغريب أن "پاناموا"
أمر بأن يُحتفل بعبادته الجنائزية أمام تمثال هدد وليس أمام أثر شخصي
أكثر.
ثم ان ثنائية "بعل شماين" الذي يقدم له زكور الإكرام على انه أنقذ
"حزرك"،
و"ايلو وير" الذي يخصص به كتابته، لأمرٌ
مدهش حقًا.
ربما
نشك بأن يكون "ايلو وير" الإله الرئيسي لحزرك أو لعش، وكان لهذه
الألوهة أصول قديمة وقوية في بلاد الفرات الأوسط التي منها كان أصل
زكور.
أما حماة فان ألوهتها الرئيسية لم تكن "بعل شماين"، بل "بعلت"
(سيدة) التي حُفظ لقبها في شكل "ياخالا تيس" في بعض الكتابات.
فهل كان
الناس يلتفتون نحو "بعل شماين" حينما كانوا يحتاجون إلى إله محارب؟
ماذا كان الملوك یطلبون ؟
إن ما كان الملوك الآراميون ينتظرونه من آلهتهم لا يختلف عن
تطلعات ملوك سوريا الآخرين المعاصرين لهم.
فإضافة إلى الصحة وطول
العمر اللذين تشدّد عليهما كتابة تل فخيرية، تسّلط المصادر الأضواء على
الحاجة إلى الحماية التي يشعر بها هؤلاء الملوك ذوو السلطة المحدودة
والمحاطون بجيران رهيبين ومهدَّدين بالتحالفات، وهم غير متأكدين من أمانة
رعاياهم.
وتكشف لنا النصوص عن الأحلام بالتوسع والشوق إلى القصور
المدهشة المليئة بالذهب والفضة. وموجز القول، إن جهود الملوك الآراميين
مثل صلواتهم كانت كلها تهدف إلى هذه الأمور التي تدفع الحكمة سليمان إلى
عدم إلتماسها من إله إسرائيل ٥.
الملك الحاكم
مسؤولیات اجتماعیة – اقتصادیة
إضافة إلى أحلام العظمة والغنى، تفتح نصوص زنجرلي سمأل
أمامنا منظورات حول مسؤوليات الملك في ممارسة واقعية لسلطاته الإدارية.
وهذه المعطيات مهِمّة بخاصة لأنها، وإن كانت مذكورة عند الأمم المجاورة،
نادرة بالأحرى في النصوص الآرامية الأخرى. فبين انشغالات الملك، تعطي
كتابات زنجرلي الأولوية للسلام بين المواطنين والازدهار الاقتصادي.
في
مواضع أخرى، بالعكس (تل فخيرية سفيرة) فإن هذه القيم لا تُمثَّل سوى بنوع
غير مباشر، باللغات الشرطية التي تحوم حولها.
إن التقدم الاقتصادي والاجتماعي لطبقة
MSKBMالمحرومة
هو
في قلب النصف الثاني من كتابة "كولاموا"، ويُشار إلى أهميتها بالمكان الذي
يحتله التهديد بالخلافات بين
MSKBM
و
BRRM
في اللغات الشرطية التي
ترمي إلى حماية هذا الأثر.
أما الكتابات الكبيرة لملوك سمأل في القرن
الثامن فتُبرز من جهتها دور المبادرة الملكية في تأسيس مجّمعات جديدة
وتنظيم كوادرها، في سمأل كما في المجتمعات المعاصرة
٦.
تقلّبات السوق
تحتوي الكتابات أيضًا على مقاطع تتناول صعود أو هبوط الاقتصاد
القومي. بحسب "كولاموا"، سبَّبت تصفية خلافة مع "ادانا" في خفض قيمة
سوق العبيد.
فيمكنهم من الآن أن يشتروا شابة بسعر خروف، ورجلاً بسعر
ثوب. ويُطري "پاناموا" بن قوريل النشاط الزراعي في عهده في مقطع
مخروم جدًا، ثم يسّلط الأضواء على ازدهار "يعدي سمأل" بكثافة الشغل
في الأراضي.
هناك عبارات كثيرة أستُخدمت في هذه النصوص، ولكنها لم تُحفظ
جيدًا.
وما تبّقى منها يكفي لكي يتسنى لنا مقارنتها مع لغة الشعوب الشرقية
الأخرى للعصر الحديدي الثاني.
فنلاحظ ان الأمر يتوقف على عبارات
مقولبة تعكس مُثلاً اعتيادية جدًا في ذلك الزمان. فإن سبب تقّلب الأسعار
أمر اعتيادي قديم في الشرق الأدنى.
والمثل الوارد في كتابة "كولاموا" قصير
٢١٥
(كتابات كنعانية وآرامية) مخرومة إلى
KAI
جدًا.
والأمثلة الواردة في
حد كبير، ومفرداتها غامضة لا تساعدنا لإعادة تكوين الظروف الاقتصادية
التي ترويها.
ولكن من وجهة نظر الاحتكاكات بين الثقافات، تكشف لنا عن
خلفية حّثية خاصة اندمجت بمقوّمات بينهرية وآرامية.
الملوك الخاضعون لآشور
تابعون ولكنهم ملوك
إن الملوك الآراميين، بعد قبولهم بأداء الجزية للإمبراطورية
الآشورية، كانوا يحتفظون بلقبهم. فكانوا دومًا يعتبرون أنفسهم ملوكًا في
كتاباتهم.
ولم يكن جيرانهم يرفضون عليهم هذا الشرف.
وعديدة هي الأمثلة
على ذلك في كتابات القرن الثامن في منطقة غربي الفرات.
وفي زمان أقدم،
في الجزيرة.
نرى أن "هدد يتعي" من غوزان، الذي لم يكن سوى حاكم،
بحسب نصه الأكدي، كان "ملكًا" في النقل الآرامي.
وثمة أمر ذو دلالة، لأن
ملوك آشور، مثل الفراعنة في عهد العمارنة، كانوا يميلون إلى الاحتفاظ
بلقب الملك لذواتهم ولعدد قليل من العظماء من صنفهم.
عند الغزاة النيو آشوريين الأوائل، نلاحظ أنهم يميلون إلى تسمية
ذواتهم بــ "شيخ نزيكو"، حتى عظماء الدول الآرامية الذين لهم بعض
الأهمية.
وخير مثال هو "بيت زماني" حيث قّلد آشور ناصربال "إيلانو"
منصب الرئيس، بعد مقتل أخيه "عمي – بعلي".
وكانت "بيت زماني" مع ذلك
دولة صغيرة ولكنها مزدهرة جدًا، ومنها حصل ملك آشور في هذه المناسبة
على غنيمة دسمة جدًا.
وحينما يمنح الآشوريون لقب الملك لمرؤوسين،
ويفعلون
ذلك للآراميين أكثر مما يفعلونه للحثيين الحديثين، فانهم يميلون إلى
استعماله في شأن فئه بكاملها أكثر مما يفعلون ذلك لأمراء أفراد.
فالملكية
لا
عُترف بها غالبًا إلا عن طريق الاشتراك. إذ يذكرون، مثلاً، أسر الطبقة
الملكية لفلان، ضمن لائحة الغنائم.
حماس بر ركیب
إن العلاقة بين ملك آشور وأمير يؤدي الجزية يُرمَز إليها بعلاقة
"السيد"
و"العبد" في نصوص زنجرلي (سمأل).
وليس ثمة ما يحملنا على
الشك في أن تكون الحالة مختلفة في الأماكن الأخرى.
ونلاحظ أن بر ركيب
يتواضع، في أحد نصوصه، حتى أمام الكوادر العليا في الإدارة الآشورية،
"خدام
البلاط" عند سيده.
وهذا الأمير نفسه يعترف بما هو مدين به نحو
تغلاثفلاصر الثالث.
انه يفتخر بالإكرامات الخاصة التي منحها الآشوري
لأبيه بعد موته، كما في حياته، مكافأة على خدماته المخلصة، وهو يشكر
تغلاثفلاصر على قدم المساواة مع الإله "ركيب ايل" لأجل ارتقائه إلى
العرش.
ويعلن سعادته لكونه استطاع أن يركض بجانب مركبة سيده ملك
آشور.
لقد أثارت هذه العبارة الكثير من الفضولية، وأعطت المجال لشروح
مختلفة جدًا، ليس فيها ما يفرض ذاته حقًا بدون نقاش. ويرى البعض أن هذه
العبارة قد تعني أن هذا المليك كان له امتياز وهو أن يقود مركبته جنبًا إلى
جنب مع مركبة سيده.
ويمكن العودة، في هذا الصدد، إلى كودوروّ للملك نبوخذ
نصر الأول ( ١١٢٥
-
١١٠٤
ق.م) الذي كان يكرم زعيمًا كشيٍا كانت مركبته واقفة إلى الجانب الأيمن من
مركبة سيده، ولم يكن يظل في الأخير.
إلا إن التساوي مع عبارة "بر ركيب" ليست واضحة تمامًا.
وإذا أردنا أن
نمّثل الحالة واقعيًا، وجَبَ أن نتذكر أن "بر ركيب" قال إنه قاسَمَ هذا
الحظ مع
"ملوك
قديرين" كثيرين.
وهناك شرح تقليدي يقول إن بر ركيب وأقرانه كانوا يركضون
ماشين بجانب المركبة الإمبراطورية أو أمامها. ولكن هل يجب النظر إلى
هذه المَهَمَّة مثل شرف أو مثل مذّلة ؟ وفي الحالة الثانية، سيكون حماس بر
ركيب غير مفهوم.
ربما أن القبول الحماسي،
الذي أبداه بر ركيب تجاه السيطرة
الآشورية، كان أمرًا وحيدًا في
الدول الخاضعة. ولكن منذ عهد
-
توگولتي نينورتا الثاني ( ٨٩٠ الآشورية أيضًا أمثلة عن متعاونين٨٨١
ق.م)، تروي لنا الحوليات
غيورين، مستعدين أن يكشفوا للملك
جميع المؤامرات التي يطّلعون
عليها. كما أننا نعرف أن هناك أمراء غير راضين ٧
وعصابات من
المتمردين ٨ الذين لم يترددوا في طلب تدخل
الآشوريين في بلدانهم.
الشكل ( ٤) بر ركيب يعلم كاتبه |
ولكننا لا ننفي من حيث المبدأ، إمكانية تفاهم ومبادلات نزيهة بين
رجال الدولة من
أمثال
تغلاثفلاصر الثالث والملوك الخاضعين له. إن كتابة
بر ركيب على تمثال "پاناموا" ابن بر صور تسرد حالات نفي قام بها هذا
الملك، ويوحي السياق بأن هذه الأمور جرت لخدمة الإمبراطورية الآشورية.
فإن "پاناموا"هذا خدم في الجيش الكبير لتغلاثفلاصر مع ملوك آخرين
خاضعين، ومات خلال الحملة التي وضعت حدًا لمملكة دمشق
٩ ويكون جزء
من مكافأته توسيع أراضيه على حساب "كركم".
إن هذه العلاقات التي نعرفها
بفضل كتابات زنجرلي يكون لها ما يعاكسها في تاريخ مملكة "كوموخ" الحثية
الحديثة.
فإن ملوك "كوموخ" ظلوا أمناء تجاه الإمبراطورية الآشوريه جيلاً
بعد جيل، واستفادوا بالمقابل من حمايتها ومن الأراضي الجديدة التي أُضيفت
إلى مملكتهم.
وطأة السلطة الآشوریة
إن دخول دولة صغيرة في النظام الإمبريالي واشتراكها في مشاريعه
كان يعرّض ملكها لمعاداة حلقة من "الملوك اخوته" الذين كانوا يعتمدون على
أمانتهم وعلى الجهد المثابر للتميّز بين زملائهم في سبيل الوصول إلى
تصنيفهم في الدرجة الأولى.
ولكن لم يكن في وسع الجميع أن يحتملوا هذه
المنافسة المستمرة.
إن سيطرة الملك الآشوري وضغط خدامه الآخرين لم يكونا سوى
جزء من ثمن "السلام الآشوري".
وبغضّ النظر عن المجازر والإجتياحات التي
كانت ترافق غالبًا دمجًا إجباريًا في الإمبراطورية، فإن الإسهامات
الإعتيادية، في المناسبات التي يطالب النظام بها كانت ترهق كثيرًا اقتصاد
الخاضعين.
والجبايات لم تكن تقتصر على الجزية وعلى التأديات الأخرى
التي كانت معتدلة والتي كانت تقتضيها الجزية، بل كان عليهم أيضًا أن
يزوّدوا الإمبراطورية الآشورية بالجيوش الضرورية لحملاتها العسكرية.
وبالعمال لأجل مشاريعها الصيانية.
وهكذا لم يكن في وسع أمير أن يُرضي
الإمبراطورية الآشورية بسهولة دون التعّرض لحقد شعبه الخاص.
وكانت الثورات متواترة في البلدان الآرامية، فتبتدئ غالبًا بانقلاب
ضد زعيم يرونه مواليًا بإفراط للإمبراطورية الآشورية، وكانت نتيجتها القمع
الشديد.
فان موضوع "الثورة – القمع" من المواضيع الاعتيادية لتبرير
الحروب الإمبريالية.
ويشير الواقع إلى أن المتعاونين مع الإمبراطورية
أنفسهم، الذين وضعتهم هذه الإمبراطورية في موضع الثوار المغلوبين، قد
تجاسروا غالبًا وخاضوا مغامرات خطرة، إذ أشهروا السلاح بوجه المحسنين
إليهم.
وهذا من شأنه أن يشير إلى أن السلطة الآشورية كانت تَظهر وكأنها
لاتُحتمل ١٠.
الملك المتوفى
الرتبة الجنائزیة في زنجرلي
إن كتابات زنجرلي التي تكشف لنا عن الانشغالات اليومية لدى
ملوك سمأل، هي لنا أيضًا مصدر رئيسي للمعلومات عن مصيرهم في ما وراء هذه
الحياة.
فواجبات الأحياء نحو الملك المتوفى لم تكن تتوقف على
حِداد منظَّم، مثل ذلك الذي يتبع موت "پاناموا" ابن بر صور.
ونتائج
الرتبة الجنائزية كانت تتعدى أيضًا البركة التي وزّعها المتوفى الذي قد
تكون
حالته وسلطاته الخيّرة مرموز إليها بهذا اللوتس (نيلوفر) المنحني الذي يضعه
الفنانون غالبًا في يده.
الشكل ( ٦) مسلة جنائزية "نيرب" |
الشكل( ٥) مسلة جنائزية "نيرب"
|
الأكل والشرب مع
هدد
إن هدد، الذي يعتقد إن ملوك سمأل مدينون له بسلطتهم، كان يُظن
انه يسهر عليهم حتى بعد وفاتهم.
فكان "پاناموا" ابن قوريل يصرّ على أن
يذكره خَلفُه باحتفال، وأن يكون له حصة في التقادم التي يأتي بها إلى هدد.
وقد نقش أوامره هذه في هذا الشأن على تمثال ضخم لهدد كان قد أقامه
بالقرب من موضع دفنه.
وبعض من تعابيره الأساسية ما تزال تُقرأ، وكان
لها تأثيرها الدائم في الشرّاح.
فان خلف پاناموا، عند تقدمة ذبيحته "لهدد"،
كان عليه أن يعلن اسم الإله، وأن يضيف:
لتأكل معك روح (نفس) پاناموا
ولتشرب معك روح (نفس) پاناموا
وكل إهمال في هذا الموضوع يكون كارثة، إذ يضع حدًا للعلاقات
الحسنة بين الملك الجديد وبين الإله هدد.
العبادة التي تؤَدَّى للتماثیل الملكیة
تجدر الإشارة إلى أن العبادة الجنائزية لپاناموا توجهت إلى تمثال
هدد وليس إلى تمثال الملك نفسه. ومع ذلك، فان مثل هذه التماثيل كانت
موجودة.
فتمثال ملكي لزنجرلي محفوظ في اسطنبول غير مكتوب وبأسلوب
ما يزال قريبًا جدًا من الأسلوب المتَّبَع في كركميش، ولا بد انه يرقى إلى
الأجيال الأولى من السلالة، قبل الاسلوب المائل إلى الطريقة الآشورية، كما
نلاحظ ذلك في عهد "كولاموا".
ومنذ اكتشاف هذا التمثال، لاحظ الآثاريون
انه كان قد دُفن باعتناء واحترام.
إن
كتابة بر - ركيب المخصصة لپاناموا ابن بر صور منقوشة
على تمثال لهذا الملك. وتنتهي هذه الكتابة برتبة جنائزية لم تُحفظ جيدًا.
وتذكر هذه الرتبة بين أمور أخرى كبشًا يترتب على الملك الحاكم أن
"يخرجه"
نحو قبر پاناموا. ولا يسعنا أن نوضح العلاقات بين القبر والتمثال
في هذه الرتبة، ولا العلاقات بين الكبش والذكر الاحتفالي للمتوفى.
وعلينا هنا أن نقبل بأن هذه المعلومات المقت َ طفة بين آثار ترقى من
نحو سنة ٨٦٠ إلى نحو سنة ٧٣٠ لا يسهل جمعها في حصيلة متناسقة.
إنها
تطرح أكثر من سؤال.
الأجداد الملكیّون وغیرهم
علينا أن نتساءَل أولاً هل ثمة ما يشير إلى تأليه حقيقي للملوك
المتوفين، وهل كان الناس ينظرون إلى مصير الملوك الآراميين على صورة
ملوك "حتي" القدماء الذين كان الموت لديهم أن يصيروا آلهة.
فهل كان
الآراميون يتقاسمون في هذا الموضوع معتقدات الأوغاريتيين الذين، على
النقيض من الحثيين، كانوا يستطيعون أن يُسموّا بلقب إلهي أسماءَ الملوك
القدامى، وأن يقدّموا لهم الولائم التعبدية أيضًا؟
أو أن معتقداتهم كانت
تشبه ما
لدى أهالي "ايمار" الذين يبدو إنهم استخدموا هذه العبارة "آلهتي وأمواتي"
عند
كلامهم عن أقاربهم المتوفين؟
في عالم حيث المعتقدات والممارسات المحيطة بالأناس الاعتياديين
ليست معروفة لدينا معرفة جيدة، يمكننا أن نتساءل هل أن واجبات التقوى
نحو الملوك المتوفين لم تكن مجرَّد تكثيف لما كان يجب على كل إنسان تجاه
موتاه.
وهكذا فالحداد العظيم للملوك كان يّتسم بعنصر "البكاء"، شأنه في ذلك
شأن الأناس الاعتياديين.
ويسعنا أن نتصور أن الطعام مع "هدد" كان له أيضًا
ما يقابله في الممارسات الجنائزية لكل إنسان، وأن روح كل غائب كانت تريد أن
تأكل وتشرب مع الألوهة، أقل شأنًا من هدد دون شك، التي كانت
تسهر عليه وعلى ذريته.
إلا أن إله أجداد پاناموا، إله سلالته، لم يكن "هدد"، بل "ركبعل".
لا بدَّ
أن هناك ما حدا الملك إلى مقاسمة التقادم المقَّربة لتمثال "هدد".
فأن يكون
الملك المتوفى هكذا مشتركًا مع رئيس الآلهة بالأحرى من اشتراكه مع إله
سلالته الخاص، فهذا أمر قد يشير إلى أنه، حتى بعد موته، تبقى رتبته أرفع
من سائر المائتين.
تقلید آرامي أو حثّي؟
السؤال الرئيسي الآخر الذي يطرحه موضوع زنجرلي هو طابعه
الممّثل تجاه سائر العالم الآراميٍ.
فسمأل كانت شاذة في لهجتها، وشاذة
أيضًا
في موقعها الجغرافي، لكونها داخل مثل زاوية بين الممالك الحثية الحديثة.
وكانت "تل حلف"، مثل زنجرلي، مدينةً كثيرًا للحثيين الذين حُفظت
بعض تقاليدهم لدى الحثيين الحديثيين ومقّلديهم.
إذ كانت "كركميش" المدينة
الحثية المُثلى في سوريا العصر الحديدي، ربما تؤّله الرؤساء المتوفين. فإن
"جدار
النحت الكبير" الذي أُنجز في القرن العاشر، يقدّم لنا إشارة جديرة
بالاهتمام، وإن لم تكن مقنعة تمامًا.
إنه يمّثل مشهدًا فيه تجلس الملكة على
العرش في نهاية سلسلة من الصور الإلهية، ولا شيء يفصل الملكة عنها
ظاهريًا.
لا شك أن معطيات "زنجرلي" عن حالة الملوك المتوفين مهِمة،
ولكنها قد لا تكون سوى نقطة من جبل جليدي عائم، إذ تتيح لنا أن نكتشف
ظاهرة منتشرة جدًا في ممالك مماثلة.
ولكن يبقى من الصعب أن نحدًد إلى
أي مدى تمثل الأوضاع العامة، وذلك ليس لِما في النصوص من الغموض
فحسبُ، بل لأن هذه المعطيات قد تكون نتيجة التأثير الحّثي الحديث
وموجودة في أعلى المنطقة الشمالية من العالم الآرامي.
(يتبع الثالث عشر)
٤
قد نتساءَل هل تكون هذه الحشمة في الثياب الملكية في القرن الثامن نتيجة
السيطرة الآشورية. فأقل من قرن قبل ذلك كان "كولاموا" لا يكتفي بالثياب
والمظاهر البسيطة، بل كان لا يتردد في الإقتداء بزي الملوك الآشوريين.
٥- حياة طويلة، والغنى، ورأس أعدائه - راجع (١ملوك ٧/
٣
(
.
٦
تصف لنا نصوص سوحو على الفرات الأوسط تأسيس مركز حدودي في السهب، وتأسيس
مدينة على الفرات، زوَّدها الملك بآلهة وبحكومة ومستوطنين.
٧
مثل "پاناموا" ابن بر - صور والد بر ركيب.
٨
مثل رعايا "جيعمو" في وادي البليخ الذين تخلصوا من سيدهم، حينما بدأ
شلمناصر الثالث زحفه إلى سوريا الغربية سنة ٨٥٣ ، ومثل مواطني "عناة" على
الفرات، حينما رفضوا سلالات سوحو التقليدية في نحو نهاية القرن التاسع.
٩
وفي وقت أسبق من هذا القرن، كان العهد الذي قطعه "متي – ايلو" مع آشور -
نراري الخامس يلزم ملك أرپاد بالخروج مع قواته الخاصة والعمل مع الجيش
الآشوري... وفي نهاية الإمبراطورية الآشورية، سينظم آشور بانيپال لائحة
الملوك الإثني عشر من الغرب، يكونون قد رافقوه في حملته على مصر.
١٠
في التاريخ حالات عديدة لهذه الانتفاضات على السلطة الآشورية. وبين أمثلة
عديدة، يمكننا التفكير فيهوشع ملك إسرائيل الذي تم تعيينه بموافقة
تغلاثفلاصر الثالث، ولكنه ثار بعد ذلك على شلمناصر الخامس."
|