تأليف الأب البير أبونا
أستاذ اللغة الآرامية وآدابها
في معهد مار يوحنا الحبيب.
الموصل
الطبعة الأولى – بيروت-1970
أدب اللغة الآرامية
مقدّمة
ظهر الآراميون في التاريخ منذ الألف الثالث قبل الميلاد كأقوام رحل ثم أخذت
تتوضح معالهم وتترسخ قدمهم، لا سيما منذ منتصف الألف الثاني، واذا بهم شعوب
شكلوا دويلات صغيرة انتشرت في أعالي سورية وما بين النهرين، ونزحت فئات
منها الى جنوب البلاد البابلية-الكلدانية. وبلغت هذه الدويلات ذروة مجدها
وقوتها السياسية في القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد، حينما دب
الخمول في الامبراطورية الاشورية. إلا ان القرنين التاسع والثامن شهدا
انتقاص قوتهم السياسية، إذ استعاد الاشوريون قوتهم وراحوا يدكون معاقل
الآراميين الواحد تلو الآخر، ويبددون شملهم ويقضون على أحلافهم.
ولكن ما يدعو الى الدهشة هو ان نهاية استقلال الدويلات الآرامية السياسي
كانت بداية انطلاقة جديدة للغتهم. إذ أخذت تنتشر اننتشاراً سريعاً بين
المستعمرين أنفسهم، وتبنتها أقوام كثيرة، وتسربت وتغلغلت حيثما انتشرت
الأقوام الآرامية المغلوبة وصارت تحتل المكانة الأولى بين سائر اللغات في
العلاقات الدولية، وذلك لسهولة أبجديتها. ثم حققت انتصاراً باهراً منذ
الغزو الفارسي، فامتدت من البلاد الفارسية الى ضفاف البحر المتوسط، حتى
أصبحت اللغة الرسمية في المناطق الواقعة بين الفرات والبلدان المصرية،
وتراجعت أمامها اللغات الأخرى كالكنعانية والعبرية، وواصلت زحفها شطر نواحي
آسيا الصغرى وشمالي الجزيرة العربية. إلا أنها عرفت فترة ركود وتراجع في
عهد الاحتلال اليوناني ذي الثقافة الراقية والحضارة العريقة. ولكنها
استعادت مكانتها المرموقة في عهد الاحتلال الروماني، لا سيما منذ انتشار
المسيحية. وظهرت فيها فئتان كبريان: الفئة الغربية وكانت تشمل فروعاً عديدة
هي النبطية والتدمرية والآرامية اليهودية (تلمود أورشليم) والسامرة
والآرامية المسيحية وهي لهجة فلسطين، والفئة الشرقية: وهي تشمل اللغة
السريانية الرهاوية ولغة التلمود البابلي واللهجة الماندية. واذا كانت هذه
اللهجات قد انقرضت منذ القرون المسيحية الأولى، فقد كُتب البقاء للغة
الرهاوية التي اتخذها آباؤنا الأقدمون التعبير عن شعائرهم الدينية، فأضحت
كجزء من كيانهم، حملوها حيثما توجهوا ونشروها أينما حلوا، فشملت بلداناً
واسعة وعمت شعوباً برمتها، ونافست لغات عديدة وفازت بقصب السبق عليها، حتى
احتلت، في أوج مجدها وازدهارها، معظم أجزاء الشرق الأوسط، بل تعدته الى
الشرق الأقصى وبلغت بلاد الهند والصين.
وقد حافظت هذه اللغة على نفوذها زماناً طويلاً، فكانت كدرّة في جيد البشرية
تزهو بها ويتفاخر الناس بالانتساب اليها ويتسابق كتابها في التعبير عما
تمخضت عنه عبقرياتهم من شتى العلوم الدينية والطبية والفلكية وغيرها...،
الى أن جاءت اللغة العربية في القرن السابع وحلت محلها. فدب الخمول إذ ذاك
في اللغة الآرامية وفقدت نفوذها وسحرها رويداً رويداً. وما ان أتى القرن
الرابع عشر الميلادي حتى أَضحت لغة لا شأن لها في الحياة الاجتماعية
والعلمية، وانزوت في عزلة الكتب الدينية والمكتبات الأثرية. ويُعزى ذلك الى
تهاون أبنائها الذين انصرفوا الى كل جديد يخدم مصالحهم الشخصية، وتهافتوا
على كل ما يجيب الى مطاليبهم المادية، ناسين أو متناسين ما لهذه اللغة من
الفضل الكبير عليهم الى اليوم في حفظ ايمانهم وتغذية طقوسهم وتجسيد وحدتهم
والتعبير عن اصالة تاريخهم.
أما المستشرقون فقد عرفوا ما في هذه اللغة من الكنوز والنفائس، فاقبلوا
عليها يستطلعون معالمها ويستجلون خفاياها ويتذوقون روائعها، ثم يعرضونها
على أبنائها أنفسهم، حتى دبت الغيرة في قلوب هؤلاء فأخذوا يبذلون الجهود
الكبيرة في إحياء لغة آبائهم، فظهر منذ أواخر القرن الماضي نفر من العلماء
يشار اليهم بالبنان، أسفرت جهودهم عن نتائج مفيدة لإعلاء شأن هذه اللغة.
وإذ كان لكل لغة تاريخ يشير الى نشأتها وتطورها والى أهم مراحل حياتها، بات
لزاماً علينا أن نطلع على الأشواط التي قطعتها اللغة الآرامية هذه والحقبات
التي اجتازتها للبلوغ الينا، وما حظيت به من النجاح وما مُنيت به من
الاخفاق في سيرها الشاق.
هذا هو الهدف الذي نرمي اليه في هذا الكتاب.
لقد تطلب منا هذا العمل استقراءات دقيقة في بطون المخطوطات القديمة
وحواشيها واستقصاءات عميقة عبر نتاج المستشرقين والمستأرمين، فجاء تاريخاً
موجزاً للأدب الآرامي يشمل نشأته وتطوره وازدهاره ومراحله الشاقة ونهضته.
فلا عجب، والحالة هذه، أن يوجد فيه نقص أو غموض أحياناً، نظراً الى سعة
الموضوع والأهواء البشرية التي شوهت الحقائق خلال الأزمنة حتى بات من الصعب
على المؤرخ، مهما حاول أن يكون نزيهاً، أن يميز بين الحق والباطل. لذا فان
باب الاقتراحات يبقى مفتوحاً لكل من يروم ضم جهوده الى جهود السابقين في
خدمة اللغة الآرامية وآدابها.
ولا بد من كلمة شكر نوجهها الى كل الذين ساعدونا في هذه الدراسة بتشجيعهم
وتوجيهاتهم، وفي مقدمتهم العلامة الأب حنا فييّ الدومنيكي الذي لم يبخل
علينا بوقته ومعلوماته الواسعة في تاريخ الكنيسة الشرقية. ونخص بشكرنا
العميق كل الذين اهتموا في نشر هذا الكتاب، لا سيما القس هورنوس السكرتير
التنفيذي لرابطة الدراسات اللاهوتية في الشرق الأوسط.
والله نسأل أن يعود هذا الكتاب بالنفع على الجميع.
20/ 6/ 1970
ألموصل – العراق
(يتبع)
|