الرها مهد الأدب الآرامي
لا بدّ لنا من أن نقول كلمة عن الرها التي كانت مهد اللغة والأدب الآراميين
، ثمّ نتطرّق إلى نشأة الأدب الآرامي ومختلف الأطوار التي اجتازتها
.
شيّد سلوقس نيقاطور مدينة الرها سنة 304 ق.م . وفي سنة
132
ق .م انتهزت قبيلة آراميَّة أو نبطيَّة (؟)
فرصة ضعف الحكم السلوقي فأسّست
مملكة مستقلّة في مقاطعة أسرونيا الواقعة في الشمال الغربي من إقليم ما بين
النهرين
.
واتخذ رؤساء هذه القبيلة لأنفسهم لقب الملـوك واتخذوا مدينة الرها عاصمة
لهم.
أمّا " أديسا " فكان لقب عاصمة مقدونية اليونانيَّة ، وقد أطلق السلوقيون
هذا اللقب على الرها ، كما يظنّ البعض ، نظـراً إلى موقعها ومناخها
المماثلين لمنـاخ أديسا الأصليَّة وموقعها .
وسمّيت أحياناً " كاليرهوي "
وتأويله الينبوع الحسن ، لكثرة المياه والينابيع التي فيها .
فاختصر
الآراميون هذا اللقب وقالوا " أورهاي
"
وأخذه منهم العرب وقالوا " الرها " .
وكانت المياه فعلاً غزيرة في هذه
المدينة
.
فهناك نهر " ديصان " ومعناه بالآرامية " الرقص " يمرّ في المدينة .
ونحو
عشرين ساقية أو جدولاً تتجمّع وتصبّ في النهر الذي يدعوه الأتراك الآن "
قره قويون
"
، فيعظم شأنه ويمرّ في المدينة من شمالها الغربي إلى جنوبها الشرقي ، حيث
يلتقي نهركولاب
" الذي يمرّ بـ\"حرّان" فيصبّان كلاهما في نهر " البليخ " أحد روافد الفرات
. وفي وسط الرها بركتان مشهورتان ، إحداهما تسمّى بركة إبراهيم أو " عين
الخليل " والأخرى " عين زليخة "، وتخرج منها ساقيتان متوازيتان تؤدّيان إلى
نهر ديصان
.
لقد كان نهر ديصان الهادئ الصغير في الصيف يتحوّل إلى نهر صاخب عارم
الأمواج في الشتاء ، فيهدّد سلامة المدينة ، وقد طغى عليها مرّات عديدة
وأحدث فيها أضراراً بالغة.
ولذا ، اضطرّ "يوستنيانس" ( 565 – 578 ) إلى
تغيير مجرى هذا النهر لكي يمرّ بجانب المدينة في سفح الجبل الواقع في
غربيها .
وكانت في هذا الجبل مغاور عديدة لدفن الموتى ولسكنى النسّاك .
وقد
قضى القديس " أفرام " مدّة في أحدى هذه الكهوف منصرفاً إلى الصوم والصلاة .
أمّا السهل الواقع شرقي المدينة وجنوبها فكان خصباً تتخلّله القرى الكثيرة
.
كانت الرها مدينة مسوّرة محصّنة لا يمكن الولوج إليها إلاّ بستّة أبواب .
ولم يكن للمسيحيين فيها حتى سنة 201 م - وهي سنة الفيضان الكبير الشهير
الذي فيه دمّر نهر ديصان مباني كثيرة من جملتها كنيسة للمسيحيين - إلاّ
كنيسة واحدة أصابها الفيضان مرّتين في السنتين 201 و 303 ، ثمّ جُدّدت في
سنة 313 في عهد " قونا " مطران المدينة ، ثمّ في عهد خلفه "سعد" سنة
.324
وقيل إنّها حصلت على ذخائر القديس " توما الرسول " سنة 394 .
وبعد أن
دمّرها فيضان سنة 525 مرّة ثانية ، عاد "يوستنيانس الثاني" فأقامها وجعل
منها تحفة رائعة .
غير أنّ الزلازل عادت ودمّرتها سنة 679 و 718
.
وقد تسرّب التأثير الفرثي إلى العادات الرهاوية منذ الأزمنة الأولى فنسي
الرهاويون أصلهم الآرامي أو النبطي ، وكانوا كثيراً ما يطلقون على مدينتهم
اسـم " مدينة الفرثيين"
أو " ابنة الفرثيين" .
كما امتزجوا بالأقوام الأرمنية المتاخمة لهم في
الشمال
.
وقيل إنّ ملوكهم الأولين كانوا من أصل أرمني (؟(
.
تاريخ الرها السياسي:
لم تنعم هذه المدينة باستقلالها مدّة طويلة
.
لأنّ جيرانها فرضـوا سـيطرتهم عليها .
فقبل انتصارات " لوقولوس " و
"
بومبيوس" كانت الرها خاضعة تارة لحكم الفرثيين وطوراً متحالفة معهم .
وكانت
تميل إليهم في حروبهم المستمرّة ضدّ الإمبراطورية الرومانية .
لكنّ النصر
كان حليف روما في النهاية ، فدخلت الكتائب الرومانية الرها سنة 116 وأعملت
فيها السيف والدمار
.
وخلع الإمبراطور "ترايانس" ملكها (98 – 117م) .
وأعاد إليها الإمبراطور
"
أدريانس " (117 – 138) عرشها وجعله خاضعاً لسلطة الإمبراطورية الرومانية .
فحافظت عليه وعلى نوع من الاستقلال الذاتي مدّة قرن تقريباً ، إلى أن ألغى
الإمبراطور
"
كراكلا " الملوكية من الرها سنة 216 وأحلّ فيها جالية رومانية .
وهكذا أضحت
هذه المقاطعة مدة أربعة قرون جزءاً من الإمبراطورية الكبرى .
ثمّ استولى
عليها كسرى الثاني " ابرويز " سنة 608 ، واستعادها "هرقل" سنة 625 ولم تبقَ
في حوزته أكثر من 12 سنة .
وأخيراً فتحها المسلمون مع بلاد ما بين النهرين
سنة 637 ولم يتخلّوا عنها إلاّ مدّة قصيرة ( 1097-1146 ) ، حينما جعلها
الصليبيون عاصمة لمملكتهم في الشرق
.
نشأة الأدب الآرامي:
نشأ الأدب الآرامي وازدهر في ما بين النهرين تحت تأثير المسيحيَّة ومن هنا
طابعه المسيحي ونسبته إلى علماء وأدباء مسيحيين لا غير .
وقد اشتهر العلماء
الآراميون الذين عكفوا على درس الفلسفة اليونانيَّة ، كأساتذة مدرسة الرها
في القرن الخامس ، أو على العلوم الطبيعيَّة أو الطبيَّة أمثال " سرجيوس
الراسعيني " في القرن السادس والأطباء المسيحيين الذين اشتهروا في بغداد
على عهد الخلفاء العباسيين .
كان كلّ هؤلاء لاهوتيين ، وكانت كلمة الفلسفة
تحوي جميع العلوم ، وفي مقدّمتها علم معرفة الله والوقوف على الحياة
الروحيَّة ومعتقدات الديانة المسيحيَّة .
والساميّون يميلون طبعاً إلى
التديّن
.
قلنا إنّ الأدب الآرامي مرتبط بالديانة المسيحيَّة ، وبما أنّ هذه الديانة
بدأت تتغلغل في ما بين النهرين انطلاقاً من الرها. كان من الطبيعي أن تزدهر
هذه المدينة وتتفوّق على غيرها بالآداب والعلوم ، وقد نشأت من جراء ذلك
روابط قويّة بينها وبين أورشليم منطلق المسيحيَّة
.
ولمّا ظهر الإسلام جاءت معه لغته العربيَّة فزاحمت اللغة الآرامية ، وحلّت
حيثما حلّ ، فاعتصمت الآراميَّة بالأرياف والجبال .
وكانت الحقبة السابقة
للفتح الإسلامي ( 637 ) العصر الذهبي للأدب الآرامي .
وما أن دخلت اللغة
العربية المناطق الآرامية حتى بدأت اللغة المذكورة بالتقلّص .
وبالرغم من
أنّها قاومت مدّة طويلة في الرها ، فقد فقدت كثيراً من نفوذهـا في المناطق
الأخرى .
ولم يتردّد
"نولدكه"
في الكتابة:
كانت اللغة الآرامية في حوالي سنة 800 م تعدّ لغةً مائتةً ،
رغم أنّ الطبقة المثقّفة ظلّت تتكلّم بها مدّة طويلة بعد هذا التاريخ" .
ثمّ انحدر الأدب الآرامي إلى أحطّ درجة في القرنين العاشر والحادي عشر ، في
حين بدأت الآداب العربيَّة تزدهر تحت رعاية الخلفاء العباسيين في بغداد .
وربّما كان هذا الازدهار حافزاً لنهضة اللغة الآراميَّة أيضاً ، فصَحَت في
القرنين الثاني عشر والثالث عشر عن يد عـدد من الكتّـاب المشهورين أمثال "
ابن الصليبي " و
"
ميخائيل الكبير " و " ابن العبري " و " عبد يشوع الصوباوي " وغيرهم من
الذين لم يكتفوا بالتأليف بل أخذوا ينقلون إلى الآراميَّة مؤلّفات الفلاسفة
العرب أمثال
"
ابن سينا " و " فخر الدين الرازي " وغيرهما
.
عاد الشرقيون والمستشرقون إلى دراسة الأدب الآرامي دراسة منظّمة منذ القرن
الثامن عشر ، حين بدأ
"
يوسف سمعان السمعاني" ( 1768 ) يكشف عن أهميّة هذا الأدب بما نشره في كتابه
النفيس "المكتبة الشرقية" واستقاه من مخطوطات حازها من " دير السريان "
بوادي
"
النطرون " في مصر
.
الأدب الآرامي الوثني:
إنّ المؤلّفات الأولى التي وصلتنا باللغة الآراميَّة هي من الجودة
اللغويَّة بحيث نلاحظ فيها تطوّراً كبيراً لم تصل إليه إلاّ خلال سنين
طويلة ، إن لم نقل خلال قرون . وقد عثر على بعض بقايا من اللغة الآراميَّة
في دورها الانتقالي ، وهي آثار وثنية أفلتت من يد الدمار الذي أتى على كلّ
ما لم يكن مسيحياً
.
وبقيت لنا من هذه الآثار كتابات قليلة متفرّقة ، منها " كتابات المدافن "
وبعض كتابات مطوّلة اشتملت عليها " المحفوظات الملكية " في الرها ، وخطاب "
مار سرابيون " إلى ابنه " سرابيون " وقصّة " أحيقار " وغيرها . .
بالإضافة
إلى الكتابات الآراميَّة الكثيرة التي اكتشفت في هذه السنين الأخيرة في
مدينة الحضر الأثرية حيث كانت هذه اللغة مزدهرة وسائدة
.
1-كتابات
المدافن:
لقد عثر على هذه الكتابات في إقليم الرها ، وهي تعود إلى العهد السابق
لدخول المسيحيَّة إليها وإبان دخولها .
غير أنّها لا تشمل عادة إلاّ على
نصوص نثريَّة قصيرة لا تضيف كثيراً إلى تاريخ الأدب الآرامي
.
2-كتابات
ملوك الرها:
تأثّرت الرها عاصمة القسم الشمالي من بلاد ما بين النهرين بالحضارة
والعادات الآراميَّة لأنّ سلالة آراميَّة حكمتها من سنة 132 ق .م إلى سنة
216 م .
ودوّنت أعمالها بهذه اللغة .
ومن جملة هذه الأعمال المحفوظة في
الخزانة الملكيَّة في الرها تسجيل كارثة فيضان نهر ديصان الذي اجتاح مدينة
الرها في شهر تشرين الثاني سنة 201 م في عهد " أبجر التاسع
"
ملكها ، وتصدّع من جرائه كثير من المباني في المدينة ، ومن بينها " كنيسة
للمسيحيين " .
وقد سُجّلت هذه الكارثـة سنة 206م ونُقلت في مـا بعـد إلى
سجلاّت أساقفـة مدينـة الرها التي أُنشئت حوالي سنة
313م
.
3-خطاب
مارا ابن سرابيون:
أثّرت الثقافة اليونانيَّة على الآراميَّة في سورية الغربيَّة ، لا سيّما
في الطبقة المثقّفة فيها ، فاستعمل الآراميون من جراء ذلك المصطلحات
اليونانيَّة في كتاباتهم .
إنّ هذا التأثير يبدو واضحاً في الخطاب الذي
أرسله " سرابيون " .
ويظهر من هذه الرسالة أنّ " مارا " كان من مدينة
"شميشاط"
وأنّه كان وثنيّاً من أصحاب الفلسفة الرواقيَّة ومن أتباع "زينون"
، وقد زجّ به الرومان في السجن بتهمة اشتراكه في حركة مناوئة لحكمهم .
ويرى
العالم
"
كيورتون " أنّ " مارا " كتب رسالته بالآراميَّة في فترة تتراوح ما بين
نهاية القرن الأول ونهايـة القرن الثاني الميلادي . وقد قُدّر لهذه الرسالة
البقاء ، لأنّ فيها إشارة إلى المسيح الذي يسمّيه الكاتب " الملك الحكيم "
ويذكره إلى جانب سقراط وفيثاغورث ويقول في سياق حديثه: " . . .
ماذا جنى
اليهود من قتل مليكهم الحكيم؟ لقد ضاع ملكهم منذ ذلك الزمان نفسه ، وحلّ
الخراب بهم وطُردوا من مملكتهم وشُتّتوا في كلّ مكان . . لم يمت الملك
الحكيم من أجل الشرائع الجديدة التي وضعها
. . " .
من أقـواله المأثـورة
:
-
حيـاة الناس زائلة من العالم ، أمّـا مجدهم وفضائلهم فباقيـة إلى الأبد .
همّ الناس تكبير بطونهم ، وهي الرذيلة التي بها يتمّ الفساد
-
إنّي أضحـك على الزمن الذي يردّ إليّ سوءاً لم يستعره منّي من قبل
.
-
وُلِد الناس لكي يتقبّلوا ظروف الزمـن ، وكلّ الأرض عند الحكمـاء سواء ،
لأنّ للصـالحين في كلّ مدينة كثيراً من الآباء والأمّهات
.
الأب البير أبونا استاذ اللغة الآرامية وآداتها “ أدب اللغة الآرامية “
مطبعة ستاركو بيروت 1970
|