عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الأب المؤرخ ألبير أبونا  

أنا بكل صراحة أميل الى أختيار القومية الآرامية

الأب المؤرخ ألبير أبونا

أستاذ اللغة الآرامية وآدابها في معهد مار يوحنا الحبيب.


 الرها مهد الأدب الآرامي

لا بدّ لنا من أن نقول كلمة عن الرها التي كانت مهد اللغة والأدب الآراميين ، ثمّ نتطرّق إلى نشأة الأدب الآرامي ومختلف الأطوار التي اجتازتها .

شيّد سلوقس نيقاطور مدينة الرها سنة 304 ق.م . وفي سنة 132 ق .م انتهزت قبيلة آراميَّة أو نبطيَّة (؟)

فرصة ضعف الحكم السلوقي فأسّست مملكة مستقلّة في مقاطعة أسرونيا الواقعة في الشمال الغربي من إقليم ما بين النهرين . واتخذ رؤساء هذه القبيلة لأنفسهم لقب الملـوك واتخذوا مدينة الرها عاصمة لهم

 أمّا " أديسا " فكان لقب عاصمة مقدونية اليونانيَّة ، وقد أطلق السلوقيون هذا اللقب على الرها ، كما يظنّ البعض ، نظـراً إلى موقعها ومناخها المماثلين لمنـاخ أديسا الأصليَّة وموقعها .

وسمّيت أحياناً " كاليرهوي " وتأويله الينبوع الحسن ، لكثرة المياه والينابيع التي فيها .

 فاختصر الآراميون هذا اللقب وقالوا " أورهاي " وأخذه منهم العرب وقالوا " الرها " .

 وكانت المياه فعلاً غزيرة في هذه المدينة . فهناك نهر " ديصان " ومعناه بالآرامية " الرقص " يمرّ في المدينة .

ونحو عشرين ساقية أو جدولاً تتجمّع وتصبّ في النهر الذي يدعوه الأتراك الآن " قره قويون " ، فيعظم شأنه ويمرّ في المدينة من شمالها الغربي إلى جنوبها الشرقي ، حيث يلتقي نهركولاب " الذي يمرّ بـ\"حرّان" فيصبّان كلاهما في نهر " البليخ " أحد روافد الفرات . وفي وسط الرها بركتان مشهورتان ، إحداهما تسمّى بركة إبراهيم أو " عين الخليل " والأخرى " عين زليخة "، وتخرج منها ساقيتان متوازيتان تؤدّيان إلى نهر ديصان .

لقد كان نهر ديصان الهادئ الصغير في الصيف يتحوّل إلى نهر صاخب عارم الأمواج في الشتاء ، فيهدّد سلامة المدينة ، وقد طغى عليها مرّات عديدة وأحدث فيها أضراراً بالغة.

ولذا ، اضطرّ "يوستنيانس" ( 565 – 578 ) إلى تغيير مجرى هذا النهر لكي يمرّ بجانب المدينة في سفح الجبل الواقع في غربيها .

وكانت في هذا الجبل مغاور عديدة لدفن الموتى ولسكنى النسّاك .

وقد قضى القديس " أفرام " مدّة في أحدى هذه الكهوف منصرفاً إلى الصوم والصلاة .

أمّا السهل الواقع شرقي المدينة وجنوبها فكان خصباً تتخلّله القرى الكثيرة .

كانت الرها مدينة مسوّرة محصّنة لا يمكن الولوج إليها إلاّ بستّة أبواب .

ولم يكن للمسيحيين فيها حتى سنة 201 م - وهي سنة الفيضان الكبير الشهير الذي فيه دمّر نهر ديصان مباني كثيرة من جملتها كنيسة للمسيحيين - إلاّ كنيسة واحدة أصابها الفيضان مرّتين في السنتين 201 و 303 ، ثمّ جُدّدت في سنة 313 في عهد " قونا " مطران المدينة ، ثمّ في عهد خلفه "سعد" سنة  .324 

وقيل إنّها حصلت على ذخائر القديس " توما الرسول " سنة 394 .

وبعد أن دمّرها فيضان سنة 525 مرّة ثانية ، عاد "يوستنيانس الثاني" فأقامها وجعل منها تحفة رائعة .

غير أنّ الزلازل عادت ودمّرتها سنة 679 و 718 .

وقد تسرّب التأثير الفرثي إلى العادات الرهاوية منذ الأزمنة الأولى فنسي الرهاويون أصلهم الآرامي أو النبطي ، وكانوا كثيراً ما يطلقون على مدينتهم اسـم " مدينة الفرثيين" أو " ابنة الفرثيين" .

كما امتزجوا بالأقوام الأرمنية المتاخمة لهم في الشمال . وقيل إنّ ملوكهم الأولين كانوا من أصل أرمني (؟( .

تاريخ الرها السياسي:

لم تنعم هذه المدينة باستقلالها مدّة طويلة . لأنّ جيرانها فرضـوا سـيطرتهم عليها .

فقبل انتصارات " لوقولوس " و " بومبيوس" كانت الرها خاضعة تارة لحكم الفرثيين وطوراً متحالفة معهم .

وكانت تميل إليهم في حروبهم المستمرّة ضدّ الإمبراطورية الرومانية .

 لكنّ النصر كان حليف روما في النهاية ، فدخلت الكتائب الرومانية الرها سنة 116 وأعملت فيها السيف والدمار . وخلع الإمبراطور "ترايانس" ملكها (98 – 117م) .

وأعاد إليها الإمبراطور " أدريانس " (117 – 138) عرشها وجعله خاضعاً لسلطة الإمبراطورية الرومانية .

فحافظت عليه وعلى نوع من الاستقلال الذاتي مدّة قرن تقريباً ، إلى أن ألغى الإمبراطور " كراكلا " الملوكية من الرها سنة 216 وأحلّ فيها جالية رومانية .

وهكذا أضحت هذه المقاطعة مدة أربعة قرون جزءاً من الإمبراطورية الكبرى .

ثمّ استولى عليها كسرى الثاني " ابرويز " سنة 608 ، واستعادها "هرقل" سنة 625 ولم تبقَ في حوزته أكثر من 12 سنة .

وأخيراً فتحها المسلمون مع بلاد ما بين النهرين سنة 637 ولم يتخلّوا عنها إلاّ مدّة قصيرة ( 1097-1146 ) ، حينما جعلها الصليبيون عاصمة لمملكتهم في الشرق .

نشأة الأدب الآرامي:

نشأ الأدب الآرامي وازدهر في ما بين النهرين تحت تأثير المسيحيَّة ومن هنا طابعه المسيحي ونسبته إلى علماء وأدباء مسيحيين لا غير .

وقد اشتهر العلماء الآراميون الذين عكفوا على درس الفلسفة اليونانيَّة ، كأساتذة مدرسة الرها في القرن الخامس ، أو على العلوم الطبيعيَّة أو الطبيَّة أمثال " سرجيوس الراسعيني " في القرن السادس والأطباء المسيحيين الذين اشتهروا في بغداد على عهد الخلفاء العباسيين .

كان كلّ هؤلاء لاهوتيين ، وكانت كلمة الفلسفة تحوي جميع العلوم ، وفي مقدّمتها علم معرفة الله والوقوف على الحياة الروحيَّة ومعتقدات الديانة المسيحيَّة .

 والساميّون يميلون طبعاً إلى التديّن .

قلنا إنّ الأدب الآرامي مرتبط بالديانة المسيحيَّة ، وبما أنّ هذه الديانة بدأت تتغلغل في ما بين النهرين انطلاقاً من الرها. كان من الطبيعي أن تزدهر هذه المدينة وتتفوّق على غيرها بالآداب والعلوم ، وقد نشأت من جراء ذلك روابط قويّة بينها وبين أورشليم منطلق المسيحيَّة .

ولمّا ظهر الإسلام جاءت معه لغته العربيَّة فزاحمت اللغة الآرامية ، وحلّت حيثما حلّ ، فاعتصمت الآراميَّة بالأرياف والجبال .

وكانت الحقبة السابقة للفتح الإسلامي ( 637 ) العصر الذهبي للأدب الآرامي .

وما أن دخلت اللغة العربية المناطق الآرامية حتى بدأت اللغة المذكورة بالتقلّص .

وبالرغم من أنّها قاومت مدّة طويلة في الرها ، فقد فقدت كثيراً من نفوذهـا في المناطق الأخرى .

ولم يتردّد "نولدكه" في الكتابة:

كانت اللغة الآرامية في حوالي سنة 800 م تعدّ لغةً مائتةً ، رغم أنّ الطبقة المثقّفة ظلّت تتكلّم بها مدّة طويلة بعد هذا  التاريخ" . ثمّ انحدر الأدب الآرامي إلى أحطّ درجة في القرنين العاشر والحادي عشر ، في حين بدأت الآداب العربيَّة تزدهر تحت رعاية الخلفاء العباسيين في بغداد .

وربّما كان هذا الازدهار حافزاً لنهضة اللغة الآراميَّة أيضاً ، فصَحَت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر عن يد عـدد من الكتّـاب المشهورين أمثال " ابن الصليبي " و " ميخائيل الكبير " و " ابن العبري " و " عبد يشوع الصوباوي " وغيرهم من الذين لم يكتفوا بالتأليف بل أخذوا ينقلون إلى الآراميَّة مؤلّفات الفلاسفة العرب أمثال " ابن سينا " و " فخر الدين الرازي " وغيرهما .

عاد الشرقيون والمستشرقون إلى دراسة الأدب الآرامي دراسة منظّمة منذ القرن الثامن عشر ، حين بدأ " يوسف سمعان السمعاني" ( 1768 ) يكشف عن أهميّة هذا الأدب بما نشره في كتابه النفيس "المكتبة الشرقية" واستقاه من مخطوطات حازها من " دير السريان " بوادي " النطرون " في مصر .

الأدب الآرامي الوثني:

إنّ المؤلّفات الأولى التي وصلتنا باللغة الآراميَّة هي من الجودة اللغويَّة بحيث نلاحظ فيها تطوّراً كبيراً لم تصل إليه إلاّ خلال سنين طويلة ، إن لم نقل خلال قرون . وقد عثر على بعض بقايا من اللغة الآراميَّة في دورها الانتقالي ، وهي آثار وثنية أفلتت من يد الدمار الذي أتى على كلّ ما لم يكن مسيحياً . وبقيت لنا من هذه الآثار كتابات قليلة متفرّقة ، منها " كتابات المدافن " وبعض كتابات مطوّلة اشتملت عليها " المحفوظات الملكية " في الرها ، وخطاب " مار سرابيون " إلى ابنه " سرابيون " وقصّة " أحيقار " وغيرها . .

 بالإضافة إلى الكتابات الآراميَّة الكثيرة التي اكتشفت في هذه السنين الأخيرة في مدينة الحضر الأثرية حيث كانت هذه اللغة مزدهرة وسائدة .


1-
كتابات المدافن:

لقد عثر على هذه الكتابات في إقليم الرها ، وهي تعود إلى العهد السابق لدخول المسيحيَّة إليها وإبان دخولها .

غير أنّها لا تشمل عادة إلاّ على نصوص نثريَّة قصيرة لا تضيف كثيراً إلى تاريخ الأدب الآرامي .

 2-كتابات ملوك الرها:

تأثّرت الرها عاصمة القسم الشمالي من بلاد ما بين النهرين بالحضارة والعادات الآراميَّة لأنّ سلالة آراميَّة حكمتها من سنة 132 ق .م إلى سنة 216 م .

ودوّنت أعمالها بهذه اللغة .

ومن جملة هذه الأعمال المحفوظة في الخزانة الملكيَّة في الرها تسجيل كارثة فيضان نهر ديصان الذي اجتاح مدينة الرها في شهر تشرين الثاني سنة 201 م في عهد " أبجر التاسع " ملكها ، وتصدّع من جرائه كثير من المباني في المدينة ، ومن بينها " كنيسة للمسيحيين " .

وقد سُجّلت هذه الكارثـة سنة 206م  ونُقلت في مـا بعـد إلى سجلاّت أساقفـة مدينـة الرها التي أُنشئت حوالي سنة 313م .

3-خطاب مارا ابن سرابيون:

أثّرت الثقافة اليونانيَّة على الآراميَّة في سورية الغربيَّة ، لا سيّما في الطبقة المثقّفة فيها ، فاستعمل الآراميون من جراء ذلك المصطلحات اليونانيَّة في كتاباتهم .

 إنّ هذا التأثير يبدو واضحاً في الخطاب الذي أرسله " سرابيون " .

ويظهر من هذه الرسالة أنّ " مارا " كان من مدينة "شميشاط" وأنّه كان وثنيّاً من أصحاب الفلسفة الرواقيَّة ومن أتباع "زينون" ، وقد زجّ به الرومان في السجن بتهمة اشتراكه في حركة مناوئة لحكمهم .

ويرى العالم " كيورتون " أنّ " مارا " كتب رسالته بالآراميَّة في فترة تتراوح ما بين نهاية القرن الأول ونهايـة القرن الثاني الميلادي . وقد قُدّر لهذه الرسالة البقاء ، لأنّ فيها إشارة إلى المسيح الذي يسمّيه الكاتب " الملك الحكيم " ويذكره إلى جانب سقراط وفيثاغورث ويقول في سياق حديثه: " . . .

ماذا جنى اليهود من قتل مليكهم الحكيم؟ لقد ضاع ملكهم منذ ذلك الزمان نفسه ، وحلّ الخراب بهم وطُردوا من مملكتهم وشُتّتوا في كلّ مكان . . لم يمت الملك الحكيم من أجل الشرائع الجديدة التي وضعها . . " . 

من أقـواله المأثـورة :

-        حيـاة الناس زائلة من العالم ، أمّـا مجدهم وفضائلهم فباقيـة إلى الأبد . همّ الناس تكبير بطونهم ، وهي الرذيلة التي بها يتمّ الفساد

-        إنّي أضحـك على الزمن الذي يردّ إليّ سوءاً لم يستعره منّي من قبل .

-        وُلِد الناس لكي يتقبّلوا ظروف الزمـن ، وكلّ الأرض عند الحكمـاء سواء ، لأنّ للصـالحين في كلّ مدينة كثيراً من الآباء والأمّهات .

الأب البير أبونا استاذ اللغة الآرامية وآداتها “ أدب اللغة الآرامية “ مطبعة ستاركو بيروت 1970

       

       

       

       

       

       

       

       

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها