عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

ثانياــ معتقدات الآراميين

(الديانة)

تأليف

أ. دوبون سومر

    لا نملك اية معلومات عن معتقدات الآراميين وعن دياناتهم، قبل مجيئهم الى الهلال الخصيب، واية افكار اسطورية (ميتولوجية) تتعلق بهم، عنما كانوا يعيشون حياة البداوة، ليست الاّ من قبيل الفرضيات والتكهنات، التي يحتمل فيها الخطأ والصواب.

  ومما لا جدال فيه، انهم بعد استيطانهم الهلال الخصيب، تبنوا مختلف العقائد، التي كانت فيه وعبدوا كل الآلهة التي كانت معروفة آنذاك وهي : آلهة بلاد ما بين النهرين، وآلهة الكنعانيين والفينيقيين والحثيين والحوريين.
   والحقيقة ان الكلام عن هذا الموضوع يجب ان يكون موثقا، وفي حالة عجم توفر الوثائق الميتولوجية والدينية، تبقى معلوماتنا عن معتقدات الآراميين القديمة، غير صحيحة أو غير كافية، فهي كما قلنا من قبيل الفرضيات والتخمينات لا أكثر ولا أقل.

***

    ان اهم معبد يشير بوضوح الى المعتقدات الآرامية الأساسية، هو ذلك المعبد الكائن في مدينة ((منبج)) (هيرابوليس)، التي تقع شمال مدينة ((حلب)) على مسافة عشرين كيلو مترا الى الغرب من نهر الفرات، والى الاسفل قليلا" من مدينة ((كركميش)). ومثلما رأينا فان هذه البلاد بقيت راضخة فترة طويلة لنفوذ الآراميين وسلطانهم. ونجد شرحا مفصلا" له في كتّيب للعالم اليوناني ((لوسيان ساموزات)) تحت عنوان ((الربة السورية)) 6  يعود تاريخه الى القرن الثاني الميلادي. وفيه يصف هذا المعبد، الذي سبق له زاره وشارك في بعض المراسيم الدينية، التي اقيمت فيه. ومن وصفه لها يتبين لنا ان الطقوس والمراسيم المقامة، بالرغم من انها جرت في تاريخ متأخر، هي في الغالب، استمرار للعبادات والطقوس القديمة، التي بقيت متوارثة دونما تغيير يذكر حتى عهده.

  ونجد ان الاله ((حدد))، اله العواطف والاعاصير، هو أكثر الآلهة تقديرا واجلالا، ويسميه ((لوسيان)) هنا الاله ((زويس)). ولهذا الاله تقدير خاص عند الآراميين على الرغم من انه ليس آرامي الاصول، وما ذلك الاّ لان عبادته كانت منتشرة في بلاد ما بين النهرين. وبدأ في الظهور منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد. هذا ما اكدته وبرهنت عليه النصوص، التي اكتشفت في ((رأس شمرا)). ويقابله الاله ((تيشوب)) عند الحوريين والاله ((بعل)) عند الفينيقيين 7.

   وكان لرب ((منبج)) هذا قرينة هي الربة ((اتارجاتيس)). ومثلما نرى فان اسمها مؤلف من كلمتين ((اتار)) وتعني ربة الخصب يقابلها ((عشتارات)) عند الفينيقيين و((عشتار)) عند اهالي بلاد ما بين النهرين و((جاتيس)) هي تحريف بسيط للكلمة اليونانية ((تّا))، التي تعني ربة الكنعانيين القديمة ((آنات)) (أو عنات، المراجع ــ المدقق). وهكذا فان الاسم المركب ((آتار جاتيس) مؤلف من اتحاد اسمي ربتين كبيرتين عبدهما الساميون القدماء 8. وانتشرت عبادة ربة منبج (هيرابوليس) فيما بعد في كل ارجاء الامبراطورية الرومانية 9. وعلى كل قطعة نقدية من النقود من المضروبة باسم هذه المدينة، نقشت صورة لهذه الربة وهي جالسة على عرش مع اسمها وبالقرب منها اسدان وصورة اخرى للإله ((حدد))، يبدو فيها جالسا على عرش ايضا معتمرا قلنسوة وبالقرب منه ثوران، وبينهما معبد خاص تقف في اعلاه يمامة، مع راية ترفرف عليه. وفي اسفله نقشت صورة لسبع يجري:

   ان السبع واليمامة هما من الحيوانات، التي اعتادت الربات على تملكها واقتنائها والثيران من حيوانات الاله ((الاله))، والتي اختص بملكيتها. وفي هذه المدينة (هيرابوليس)، كانت تتم عبادة الاله الشاب ((سيميوس)) الى جانب عبادة الاله ((حدد واتارجاتيس)) بحيث يكتمل الثالوث الالهي 10 . والاله ((سيميوس)) هو امتداد للاله ((اسكليبيوس)) الوارد في نقش ل ((دولوس)) وقريب الشبه بالإله الفينيقي ((اشمون)) 11.

    وغير بعيد من مدينة ((منبج)) على الضفة الاخرى لنهر الفرات عثر في موقعي ((تل احمر)) و ((ارسلان طاش)) على صور وتماثيل ل ((حدد ـ تيشوب))، تشهد على ان الاله ((حدد)) كان معبودا منذ القديم في هذه المناطق (الشكل ـ 15). والى الشرق قليلا" في مدينة ((حرّان)) الواقعة على نهر ((البليخ)) عثر على وثيقة أشّورية هامة يعود تاريخها الى القرن السابع قبل الميلاد، هي نوع من سجلات المساحة، واهميتها تكمن في كونها تساعد على اكتشاف اسماء سكان هذه المنطقة وتمييزهم. فالآراميون تبتدئ اسماؤهم بالمقطعين: ((آتّار)) و ((أتّار)) وهما ـ كما قلنا ـ ربتان عبدوهما ومنهما جرى اشتاق اسم اربة ((آتّارجاتيس)).

   والاسماء الكنعانية تنتهي باسم الاله ((ال)) والبابلية تتضمن عادة اسم اله ((بابل)) الكبير ((نيبو))، وكلا من الالهين ((شمش))، اله الشمس و ((سن)) اله القمر، الذي اقيم له ولابنه ((نوسكو)) 12 في مدينة ((حرّان)) معبد خاص غارق في القدم.

 وفي المجتمع الربّاني لمملكة ((سمأل)) (زنجيرلي)، وجدت كتابات منقوشة تتضمن اسماء مرطبة تحضن الملوك والآلهة، شبيهة بتلك التي عثر عليها في مدينة ((حرّان)).

  وعلى تمثال ((حدد)) المكتشف في ((زنجيرلي))، وجدت كتابات منقوشة تتضمن مركبة تخص الملوك والآلهة، شبيهة بتلك التي عثر عليها في مدينة ((حرّان)).

    وعلى تمثال ((حدد)) المكتشف في ((زنجيرلي)) كتابة آرامية واهم ما يرد فيها: منذ صباي صنفت مع الآلهة وفق الترتيب التالي: حدد ـ ال ـ ريشيف ـ ريكوب ال ـ شمش . . . واسندت الي السيادة، يؤازرني فيها ريشيف.  ان اسماء الآلهة، التي ترد في هذا النص لا تختلف من حيث الترتيب الاذ قليلا" عن تلك التي وجدت منقوشة على تمثال ((باناموا)) الثاني وهي : حدد ـ ال ـ ريكوب ال ـ رب البيت ـ شمش ـ وباقي آلهة يؤودي. ومهما يكن فأننا نجد دوما اسم ((حدد)) في رأس القائمة، وبعده يرد اسم ((ال)) اله الكنعانيين، الذي يضاف مباشرة الى كلمة ((ريكوب)) (ريكوب ال)، التي تعني عربة الاله ال 13.

   ومهما بدا لنا الاله ((ريكوب ال)) فانه يشغل في مملكة ((سمأل)) مقاما ممتازا، اكثر مما يشغله ((رب البيت)) المؤسس.

   ان تسمية ((رب لبيت)) وردت في الكتابة الفينيقية المنقوشة على تمثال ((كيلاموا)) 14 . واما اسم الملك ((بار يكوب)) فيعني لغة ((ابن ريكوب))، وتسميته هي ترخيم للاسم ((ريكوب ال))، وفي ذلك اشارة الى شدة التعليق والتمسك بالإله ((ريكوب ال)) . ( انظر ايضا صفحة : 72 و177). ونلاحظ اثناء دراستنا للنصوص المنقوشة على تمثال ((حدد)) ميلا" الى الأخذ بأفكار الالهين: ((ريشيف)) و ((ريكوب ال)). وكما هو معروف فان ((ريشيف)) هو اله الكنعانيين، المشهور ب ((اله النور))، يقابله عند المصريين الاله ((سيت)) وعند الاغريق ((آبولّون))، مع ترك المجال للأخذ بأفكار ((اله العواصف))، ليكون فيما بعد سنده الدائم وليحل محله عند اللزوم. واخيراً يرد في الترتيب ((شمش))، اله الشمس والعدالة، والذي تستمد من عقيدته وافكاره معظم العقائد المنتشرة في بلاد الشرق القديم 15.

    والملفت للنظر خلّو اللوائح السابقة من اسماء الربّات المعاصرات ، وعدم ورود ذكر ((اله القمر))  مع بقية الآلهة. غير انه عثر على ((نقيشة)) تخص الملك ((بار ريكوب)) تظهر عليها صورته وفوقها صورة للهلال القمري مذيلة بالشعار التالي: الهي بعل حرّان. وبعل حرّان هذا، اله مدينة حرّان هو في الحقيقة سن اله القمر الذي شيد باسمه معبد مشهور في مدينة حرّان، كما رأينا.

    ومن جهة اخرى، فان الكتابات المنقوشة على نصب تذكاري، عائد للملك ((كيلاموا)) تدلنا على ما يلي:
    ان ((جبار)) المؤسس الأول لأسرة ((كيلاموا)) الحاكمة هو نفسه الاله ((بعل سميد)) 16، وان لخلفه ((باماخ)) اله خاص به هو ((بعل حمان)) 17. ومع هذين الالهين الرئيسين وجد عدد من الآلهة الصغار المليين، يحمل كل منها اسم الاله ((بعل)). والجدير بالذكر ان اسميهما ((بعل سميد وبعل حمان)) اقتبسا من الطبيعة (من اصل زراعي) ويرمزان في نفس الوقت الى الاله ((بعل)) نفسه. ومن هنا تتوضح اسباب هيمنة ((اله العواصف)) على غيره من الآلهة الأخرى، لدى الآراميين في مملكة ((سمأل)) 18.

  وفي ((دوليشه)) من اعمال ((كومّاجين)) الواقعة الى الشمال قليلا" من ((سمأل))، كانت منتشرة عبادة ((اله العواصف))، الذي اصبح يعرف في العصر الروماني باسم ((جوبيتر دوليشونوس)) وصار له اتباع اتقياء كثر منتشرون في كافة انحاء الامبراطورية. . . وهنا عدد كبير من النقوش والوثائق الاثرية تقف شاهدا على مدى انتشار عبادة هذا الاله في هذه المناطق، التي منها انتقلت الى افريقيا وحتى الى ايطاليا 19 .

وفي  مملكة ((بيت آجوشي)) القديمة اكتسبت مدينة ((حلب)) شهرتها من معبد ((حدد)) القديم الموجود فيها. اننا لا نعلم إلاّ القليل عن ملوك وعن آلهة ((آرباد)) عاصمة هذه المملكة. ولكن هذا القليل قد يوصلنا من خلال معرفته إلى حقائق ثابتة، اذ بمجرد استعراض اسم احد ملومها ((متي-إيل)) نجد الدليل القاطع على تمسك المملكة بالإله ((إل)). وكذلك فان اسم والده ((آتار- سماك)) يستدل منه ايضاً تعلق هذه المملكة بالرية الكبرى (آتار)) نظراً لإضافة اسم الاله أو الربة إلى اسمي الملكين. وبذلك اصبح الاحتمال القائل: ان عبادة الاله ((حدد)) والربه ((آتّار)) كانت منتشرة في كل من ((آباد)) و ((منبج)) (هيرابوليس) قويا وقريبا من الصحة.

     واما في ((النيرب)) الواقعة الى الجنوب الشرقي من ((حلب)) فكانت عبادة ((اله القمر)) هي الغالبة. فالمسلتان، اللتان اكتشفتا فيها (الصفحة : 144)،تضمان لوحة تظهر فيها بجلاء صورة كاهني الاله ((ساهار)) 20 (الشكلان 12 و 13). ان النقوش والكتابات الآرامية المنحوتة على هاتين المسلمين، اتت على ذكر الآلهة وفق الترتيب التالي : ساهار ـ نيكّال ـ نوسكو. ونشير هنا الى ان ((نيكّال)) هي عقيلة اله القمر وان ((نوسكو)) هو ابنهما، وكتب على احدى المسلتين اسم الاله ((شمس)) اله الشمس.

    وفي ((السفيرة)) الكائنة بين حلب والنيرب، تم عقد حلف رسمي بين ملكي ((كاكتا)) و ((آباد)) واشهد عليه موقعاه الآلهة مدونة وفق الترتيب التالي: مردوك ـ زارابانيت ـ نيبو ـ تاشميت 21 ـ نورجال ـ لات ـ شمش ـ وير 22 ـ سن 23 ـ نيكّال 24 ـ ناكار  ـ كاديا ـ حدد (اله حلب) وجميع آلهة الرحبا 25 ـ سيبيتي ـ ال ـ ايليون ـ كما اشهدا عليه السماء والارض 26 والينابيع والانهار والليل. وباستثناء كل من ((ناكار)) و ((كاديا)) فان جميع الآلهة الواردة في اللائحة اياها اسماؤها معروفة في كل بلاد ما بين النهرين 27 . وقد ورد زوجا زوجا وذكر ((حدد)) (اله حلب) لقرب معبده من المكان ((سفيرة صوجان)) ، ثم ((سيبيتي)) الاله السابع، الذي خلفه الالهان ((ال)) و ((ايليون)) 28 . وهما الهان كنعانيان كبيران ومهمان. واخيرا تختتم اللائحة: بالسماء والارض والينابيع والنهار والليل، وفي ذلك دليل على خضوع الانسان آنذاك لبعض قوى الطبيعة، التي يؤلهها جريا على مذهب الحثيين. ويعكس مدى تأثر الآراميين بالمعتقدات والديانات، التي كانت سائدة في تلك الاوساط، التي كانوا على تماس بها.

***

واذا ما انتقلنا من ((حلب)) باتجاه ((حماه)) الواقعة على نهر العاصي نمر ونحن في طريقنا اليها في ((آفيس))، التي عثر فيها على المسلة المشهورة، التي اقامها ((زاكير)) ملك ((حماه)) و ((لعج)) (انظر الصفحة : 80). وهناك تم اكتشاف معبد قديم للإله ((وير)) (وتكتب ايضا مير)، اله العواصف الكبير، الذي تقمص الاله ((حدد)). ولعل الملك ((زاكير)) قد ناله الشرف بتشييده هذه المسلة باسم الاله ((وير)). والملفت للنظر هو ان الكتابات المنقوشة على المعبد، لا تقتصر في تمجيدها للإله ((وير)) وانما تمجد الرب ((بعل شماين)) (أي ل\اله السماء) وتسبحه. وهذا ما يجعلنا نقبل التفسير القائل: ان ((بعل شماين)) هو نفسه ((وير)) وان كلاهما يعني الاله ((حدد ـ بعل))، وان الاله ((بعل شماين)) المعبود في مدينة ((جبيل)) الفينيقية ليس بالحقيقة سوى اله السماء هذا، الذي وجد في نقش يعود تاريخه الى ما يقرب من الف عام قبل الميلاد. ولذلك فانه يرجح ان عبادته قد انتقلت في ذلك التاريخ من ((جبيل)) الفينيقية الى ((حماه)) ثم انتشرت عبادته بعدئذ في كل البلاد السورية. وقد تميز التمسك به أكثر من غيره، لاسيما في العهود الهيللينيستية والرومانية اللاحقة، ان هذا الاله، وعلى ما يبدو، قد تقمص اله العواصف ((حدد)) أو الاله ((بعل)).

واخيرا،  فان الكتابات المنقوشة على مسلة ((زاكير)) تحوي لائحة بأسماء الآلهة. ورغم ان بعضا منها وجد ممحيا، فأنها تبقى ذات قيمة اثرية وعليمة. وقد تم توضيح الاسماء الواردة فيها في ضوء اللائحة المنقوشة على المسلة المكتشفة في مدينة ((السفيرة)) مرتبة كما يلي : بعل شمائين ـ ال ـ عليون (اليون) ـ شمش ـ ساهار،. . . وآلهة السماء ـ آلهة الأرض ـ بعل الينابيع (؟).

 والتحقيقات اثبتت، ان ملوك ((حماه)) هم الذين نشروا عبادة الاله الى اسمائهم، مثل: الملك ((ايلو ـ بئدي)) والملك ((ايني ـ ايلو)) 29.

 وكذلك فان اسماء العلم، التي وجدت منقوشة على بعض الاثريات وانصب المكتشفة في مدينة ((حماه)) الآرامية مثل: ((العبد بعلات)) و ((آدوني الآرامي)) توحي لنا ان هذه العاصمة الكبيرة، المبنية على ضفتي نهر العاصي، كانت في الغالب، تشكل مركزا" مهما" لنشر الديانات الفينيقية وطقوسها المتعلقة بالإلهة ((بعلات)) والربة العظمى ((عشتارت)) والاله ((آدونيس)) ابن هذه الربة وحبيبها، بحيث كانت تقام له الاحتفالات كل في ذكرى وفاته وبعثه من جديد تخليدا" له 30 .

واما في مدينة ((بعلبك)) الواقعة بالقرب من منابع نهر العاصي، بين السلسلتين الغربية والشرقية لجبال لبنان، كانت عبادة الاله ((حدد ـ بعل)) منتشرة على نطاق واسع في العصور الهيللينيستية والرومانية. ولكن يلاحظ، برغم ذلك ، ان مذهب التوفيق بين اله العواصف القديم واله الشمس كان معمولا" به في هذه المدينة. . . ففي الماضي كان اسم المدينة ((هيلوبوليس)) أي ((مدينة الشمس)) ومن ثم اطلقت التسمية ((جوبيتر هوليوبوليتانوس)) على اسماء آلهة السوريين القدامى، التي كانت تعبد في كافة انحاء العالم الروماني (انظر الشكل : 16).

 و((بعلبك)) هو الاسم الحديث لهذه المدينة، ومعناه ((اله البقاع)) أو ((اله كل البلاد السورية))، الذي على شرفه قام الامبراطور الورع ((انطونان)) بتشييد معبد هائل له، من حجارة ضخمة جدا"، لاتزال بقاياه الماثلة لليوم، مثار اعجاب كل زواره من السواح.

والى جانب عبادة الاله ((جوبيتير)) كانت تتم عبادة كل من الربة ((فينوس)) و ((مركور)) (عطارد). واذا كان ((جوبيتير)) هو نفسه الاله القديم ((بعل))، فان فينوس (ربة الجمال والحب) قد تقمصت الربة السامية ((آتار)) وتقمص الاله ((موركور)) الاله ((سيميوس)) أو ((ايشمان)). وبذلك يكون الثالوث المقدس في بعلبك، نسخة عن الثالوث الالهي في مدينة ((منبج)) (هيرابوليس).

وفوق مدينة ((حمص)) الواقعة بين ((بعلبك)) و ((حماه))، كان الناس يعبدون في العهود الرومانية ((الحجر الاسود)) وهو حجر قديم يرمز للإله المحلي المسمى ((اله الجبل)). وقد امتزجت عبادته مع عبادة ((اله الشمس)) تماما" كما حصل في ((بعلبك))، جريا على مذهب التوفيق بين المذهبين وسمي بعدئذ ((اله الشمس والجبل)). والى هذا الاله انتمى الامبراطور ((ايلا جبل)) السوري الاصل معتبرا نفسه ((كاتم سره وخادمه)). وبعد ان كرّس عبادته مع اله الشمس ، اطلق على نفسه اسم ((هيليو جبل)) الذي يبدو فيه جليا التوفيق بين المذهبين، كما قلنا، وضرب اسمه هذا على النقود المسكوكة في عهده. وكما نعلم، فان هذا الامبراطور الشاب، نقل معه من حمص الى ((روما)) في عام 217 م الحجر الاسود المقدس. ورتب عبادات وطقوس امتزج بها التطواف بالصلاة على شرف هذا الاله. وبذلك يكون قد ادخل شعائر دينية غريبة عن واقع ((روما)) الى جانب العبادات القديمة المألوفة وكانت هذه موضع استنكار من قبل الشعب الروماني، الذي قاوم بعنف اجراءات هذا الامبراطور، الذي اغتيل في عام 222 م، وبعدئذ اعيد ((الحجر الاسود)) الى حمص. وفي حمص قرر الامبراطور الروماني ((اورليان)) اعادة الاعتبار اليه، بعد عودته من تدمر اثر حملته العسكرية، التي شنها على ملكتها ((زنوبيا)).

 وفي مملكة ((دمشق)) الآرامية، كان الاله ((حدد)) هو المعبود الوحيد بلا منازع والدليل على ذلك، هو ان ثلاثة من ملوك هذه المملكة سموا باسم ((حدد)) 31 أي ((ابن حدد))، وكان والد ((بار حدد)) الأول يدعى ((طاب ريمّون)) أي ((ريمّون الطيب)). وكلمة ((ريمّون)) نفسها تعني ((العاصفة أو الرعد))، وهو نفس الاله ((حدد)) اله العاصفة وبالنتيجة اله الرعد والصاعقة. لقد قدسته ((دمشق)) كثيرا، وفيها بني له معبد مشهور ذكرته التوراة تحت اسم ((بيت رمون)) 32 . وفي داخله هيكل عجيب الطراز صارت له شهرة واسعة. وتأكيدا لذلك يروى عن ((احاز)) ملك يهودا، انه في احدى زياراته لدمشق، بغية وضع نفسه تحت تصرف الملك الأشّوري ((تيغلات ـ بيليزر)) الثالث، اقتبس طراز الهيكل وهندسة بنائه. وحين عودته الى القدس، بنى هيكلا" مشابها له تماما، في معبد القدس المشهور، مكان الهيكل القديم. انه حسب الاعراف والتقاليد المتوارثة تم بناء معبد ((حدد)) في قلب مدينة دمشق، مكان الجامع الكبير الحالي (الجامع الاموي) كما ذكرنا سابقا. وفي عهد الرومان اعيد تشييده وتحسينه فاصبح اكثر جمالا" وابهة. والى جانب عبادة الاله ((حدد)) كانت تعبد الربة ((آتّار))، ولقد ذكر ان مدفن آلهة وملوك دمشق، كان يضم اسماء آلهة آخرين، على رأسها الاله الكنعاني ((ال)) بدليل اضافة اسم ((ال))، الذي يعني : ((الاله ال الصالح (الطيب)))، وهذا الاخير ((طاب ال)) هو الذي اختاره ملكا ((دمشق)) و ((اسرائيل)) لتنصيبه ملكا على عرش مملكة ((يهودا)) مكان الملك ((احاز)) (انظر الصفحة: 109).

 ومن جهة اخرى فان المسلة، التي شيدها ((بار حدد)) الأول على شرف الاله ((ميلقارت)) (انظر الصفحة: 54)، تعطي الدليل على ان هذا الاله الفينيقي، الموصوف بانه اله مدينة صور جرى نقل افكار مذهبه الى ((دمشق)).

وفوق ذلك تفيدنا ((التوراة)) نفسها انه في عصر ((اليشع)) أي في القرن التاسع قيل الميلاد، سمي قائد جيوش ملك دمشق ب ((النّعمان))، تيمنا" بالإله ((آدونيس)) وتقربا منه، لكونه من خصاله. . . ولأنه كان معبودا في كل من ((دمشق)) و ((حماه)) ايضا.

   ان اله ((اسرائيل)) نفسه المسمى ((يهوه)) كلن معروفا في ((دمشق)) ايضاً، وله بعض الحظوة فيها. وحوله تروي التوراة ان القائد ((النعمان)) شفي من مرض الجذام بعد ان استحم سبع مرات في مياه نهر الاردن المقدس تحت اشراف نبي اليهود ((اليشع)) الذي تولى معالجته. ان هذا الضابط السوري، اعترف بعدئذ بقدرة ((يهوه)) الخارقة حين خاطب (اليشع)) بقوله: فرجع الى الله هو وكل جيشه ودخل ووقف امامه وقال هوذا قد عرفت انه ليس اله في الارض الاّ في اسرائيل. والآن فخذ بركة من عبدك. فقال حي هو الرب الذي انا واقف امامه اني لا آخذ. والح عليه ان يأخذ فأبى. فقال نعمان اما يعطى لعبدك حمل بغلين من التراب لأنه لا يقرب بعد عبدك محرقة ولا ذبيحة لآلهة اخرى بل للرب 33. وبالرغم من ان هذه الرواية لا تخرج عن كونها اسطورة، فأنها لا تتعارض مع الرأي القائل: ان عبادة هذا الاله دخلت دمشق بتأثير عوامل الجوار وغيرها. ولنتذكر هنا ان ملك ((حماه)) ((يوبيدي)) 34، الذي كان من اتباع الامبراطور (سرجون))، جاء اسمه، حسب الوثائق الأشّورية، متضمنا اسم الاله ((يهوه)) (انظر الصفحة: 115) أو دالا" عليه بالمقطع ((يو)). ونلفت النظر الى انه يدعى في اللغة العبرية ((ياهو))، وقبلئذ، أي في القرن العاشر قبل الميلاد، كان لملك حماه ((تو اي)) ابن يدعى ((يهورام))، وهذا الاسم هو بالتأكيد يهودي الاصل (لنظر الصفحة : 36).

     وفي مملكة ((سمأل)) في الشمال كان الملك ((آزروا)) احد اتباع ((تيغلات بيليزر)) الثالث، ومغتصب السلطة في هذه المملكة بعد قتله ملكها السابق ((بارسو)) يحمل اسما عبريا (انظر الصفحة: 105)

    واخيرا فانه كان لملك ((كاتكا)). المذكور في النقوش المكتشفة في ((السفيرة)) والد اسمه ((جأياه)). وبتحليل اسمه نجد ان المقطع ((ياه)) المضاف اليه، فيه رمز للإله (يهوه)).

    وهكذا نرى ان كل اسم العلم العبرية، قد اضيف اليه بالضرورة اسم ((يهوا)) وان بعضا من هذه الاسماء، ان لم يكن كلها، سمى به الآراميون امجادهم، ونظرا لما عرف عن هؤلاء مقدار حبهم وتمسكهم بالآلهة الاجانب، لذلك لا نستغرب ايمانهم باله ((اسرائيل))، وممارستهم بعض الطقوس العائدة له، خاصة وانهم بحكم عوامل الجوار معهم، اقتبسوا الكثير من تقاليدهم وعبادتهم 35.

        لقد اشرنا فيما سبق الى ديانة الآراميين القدامى ومعتقداتهم المتعلقة باليوم الآخر، والى بعض الشعائر الدينية، التي كانوا يمارسونها حيال موتاهم، وزيادة في الايضاح، لابد من الاشارة الى الكتابات الجنائزية المنقوشة على المسلتين المكتشفتين في ((النيرب))، اللتين مر ذكرها عدة مرات (الشكلان 12 و 13).

    وبدراسة هذه الكتابات يتبين ان ايمان الآراميين باليوم الآخر لا يختلف في شيء عما كان يؤمن به الأشّوريون والبابليون والفينيقيون والعبريون. فالجميع متفقون على ان الفقيد، بعد موته، سيخلد في القبر الذي يورى فيه وسينضم خفية الى قافلة الموتى في العالم السفلي، الذي تتجمع فيه هكذا ارواح الموتى، انه المقر الاخير للنفوس، قد تعيش حياة غامضة دون ان يتوفر لها السعادة والفرح. العبريون يسمونه ((شيؤول))، والأشّوريون والبابليون يسمونه ((آرالّو)) ويعتقد الآراميون ايضا ان الافعال اللاحقة من أي"، الرامية الى المساس برفاة الفقيد والى سلب ما في قبره من محتويات، تعتبر من الآثام الكبيرة، ويتعرض مرتكبوها الى أشد اللعنات.

     فعلى المسلة الأولى وجد النص التالي: انه سن ـ زير ـ ابني كاهن الرب ساهار في النيرب. لقد مات وها هي صورته وهذا مرقده، اياك ان تمسها بسوء أو ان تقدم على ازالتها أو نقلها من هذا المكان، فاذا فعلت ذلك فان الالهة: ساهار وشمش ونيكّال ونوسكو سيقبضون على روحك بعد ان يميتوك شر ميتة، وستنقرض ذريتك من بعدك جزاء. لكن اذا جهدت في المحافظة عليهما فانك ستنجو من العذاب الاليم مع اهلك في الحياتين الدنيا والآخرة. وعلى المسلة الثانية وجد النص التالي: انها صورة اجبار كاهن الرب ساهار في النيرب. نظرا للعدالة، التي حققتها في حياتي، كافني ساهار بان وهبني شهرة واسعة ومدّ في عمري. وفي اليوم الذي مت فيه، توقف فمي عن النطق، غير اني كنت ارى بعيني كيف بكاني الجميع وناحوا علي كثيرا بما فيهم الاطفال، الذين انحدروا من صليبي حتى الدرجة الرابعة، ومع ذلك لم يضعوا معي في القبر اية اشياء لازمة مثل النقود والبرونز والطعام، عدا ثوبي الذي البسوني اياه قبل وفاتي، حتى لا يفسد مرقدي الاخير. وليعلم الجميع، ان كل من يسيء الى ولسمعتي فان الآلهة: ساهار ونيكّال ونوسكو له بالمرصاد وسيميتونه شر ميتة مع ذريته.

      ان النصوص المنقوشة على المسلة الثانية تبدو، برغم بساطتها اكثر وضوحا من حيث تعرضها لقيمة الحياة، التي نعيشها ونطلبها على هذه اليابسة، ونسعى الى اطالة امدها، بالتوسل الى الآلهة لتحقيق امانينا. اما اشد قصاص ينزله الله بنا فينحصر في الموت المبكر، والحرمان من كل سيء حتى من القبر، وكم نتمنى ان نعيش حتى سن الشيخوخة، مع تمتعنا بنظر ثاقب وبمقدرة على النطق، محاطين بأطفالنا واحفادنا.

    ان ((اجبار)) يتباهى ويفخر بذلك العويل والنواح، اللذين يرافقان جنازته مع المراسيم الرسمية، حسب الطقوس القديمة. وصورته المنقوشة على المسلة يظهر فيها جالسا وامامه منصة جميلة في صنعها وزخرفتها، وهو يتعاطى الشراب بينما يقف امامه احد ابنائه وهو يقدم اليه القرابين الجنائزية، التي اليها يرجع الفضل في تخليد الفقيد في الحياة الآخرة المكتنفة بالأسرار والغموض.

    ونجد في مملكة ((سمأل)) الكثير من النقوش التي خلفها لنا ((باناموا الأول)) وبها نرى ما يحملنا على الاعتقاد، ان الآراميين، كغيرهم، يبنون احلاما وآمالا" رائعة على حياتهم فيما بعد الموت. لذلك عمد هذا الملك وهو على قيد الحياة الى تشييد معبد جنائزي، نقشت عليه كتابات جاء فيها: لقد سيدت هذا المعبد ونصبت في داخله تمثالا" للإله حدد، قام بكل ذلك باناموا بن قرل ملك يؤودي. واصدر تعليماته الى من سيخلفه على العرش من ابنائه بعد موته ان يصلّي في هذا المعبد من اجله وان يقدم القرابين ‘إلى الرب حدد وان يقر بمقدرته على قبض روح باناموا...

    وبفضل تلك الصلاة، التي سيمارسها خلفه في هذا المعبد الملكي، تأخذ روح الفقيد (الملك) طريقها بيسر الى العالم الآخر، لتكون قربانا للعلي الاعلى. وحينئذ يتحقق حلم الوصول الى السعادة الابدية. ويستشف من هذه الفكرة ان ثمة اتحادا بين الملك والاله. وانه بالرغم من ان الملك، كانسان قابل للفناء، الاّ انه يبدو دوما شخصية خاصة مميزة ومقدسة.

    وعند الحثيين كان الملك يؤله بعد وفاته، لذلك كان يقال عنه بعد مماته عندما رحل ابونا. . . وكان يطلق على خليفته دوما: الرب أو الاب، كالقول : عندما يرتفع مقام ابي الى مستوى الشمس، يصبح اله. وفي مملكة ((سمأل)) كان الذي يعتنقه الملك الراحل، هو المذهب الرسمي للدولة وللمجتمع، ويصبح بديلا" للمذاهب السابقة، التي قام بنشرها الحثيون. . . ومن هنا نرى: ان الآراميين بعد ان تحضرا واستقروا في هذه البلاد اقتبسوا الكثير من مذاهب الشعوب التي احتكوا بها وتقاليدها. واصبحت بالتالي حضارتهم مزيجا من حضارات الشعوب، التي كانوا على تماس بها بشكل مباشر أو غير مباشر 36.

القسم الاخير الفنون الآرامية

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها