عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

"سبعون" البنت السريانية التي جاءت من ماردينفيروز

 النهار: الاربعاء 30 تشرين الثاني 2005 - السنة 73 - العدد 22499

بقلم سمير عطاالله

انشأ راوي الرواة ورائد الهجرات ميخائيل نعيمة تقليد الاحتفاء "بالسبعين". فعندما بلغها في اعالي بسكنتا بين روائح التفاح والوان الكرز، وضع "سبعون"، المذكرات التي تحكي حكاية اب مجتهد طيب عرّاق مثل الصخر، وام لجوجة طموحة مقاتلة، واما حكاية الابن فمن مدرسة بسكنتا حيث تعلم تصريف فعل être في كل صيغه، الى دير في فلسطين، فالى دير في الام الارثوذكسية الكبرى، الروسيا، فالى نيويورك والرابطة القلمية وولادة عصر جبران في الحي الغربي من المدينة. واذ كان بعد صبيا فوق حصى بسكنتا وفي سفح سيدها الاعلى صنين، "كان لي وقفة مع السحر. فقد عاد احد انسبائنا من البرازيل، وانتشر الخبر في البلدة انه جلب معه آلة عجيبة تغني من تلقائها.

وتغني كما يغني الناس بالتمام ميجانا وعتابا وابو الزلف واغاني غيرها لا عهد لنا بها.

كان ذلك اول عهدي بالفونوغراف، الذي لم يكن هو الآخر قد تجاوز زمن الطفولة".

عندما حلت طفولة فيروز، الاورثوذكسية الاخرى، كان السحر هو الراديو. لقد حل الاثير المغني محل تجارب اديسون العظيم في تدوين الصوت البشري. قبل ايام، كانت "سبعون" نهاد حداد.

سبعونها جميلة ولها في اعمار كل منا عمر. مثلها مثل ضوء القنديل على البيادر في حزيران. اواخر حزيران. مثلها مثل صوت الينابيع عندما يلتقي آذار بنيسان على الحفافي والمنعرجات وتحت شجر الجوز. وكلاهما يغني لما ذهب ولما يشتهي ان يأتي. مثلها مثل زهرة شقيق، وحيدة في البرية، فرحة بقيام نفسها وحزينة بوحدتها والعمر الذي مر حزينا من زقاق البلاط، في قعر الفقر، الى العرش في مملكة الحناجر، وديار الحب والهوى والشعر.

جاء اهل البنت السريانية الحزينة من ماردين.

كانت تلك احدى الهجرات الى لبنان، هذا الملتقى الغريب، لمضطهدي المنطقة وعواصف الامبراطوريات:

من مجازر تركيا الى فظاعة الوطن القومي اليهودي الى الاكراد والسريان والكلدان.

هي، نهاد حداد، جاء والدها من ماردين في تركيا الآفلة. جاء فقيراً مثل الموت، ومثل الشرد. وتزوج من فقر آخر. صبية لبنانية "تضع خبزها على عجينه". ولا خبز، ولا عجين. حتى الفران الجنوبي في زقاق البلاط، كان يعرف في قرارته ان هناك من جاء الى الحي من حقول بعيدة اكثر فقراً، وقد تقاسم آل حداد، بيتاً عتيقاً، مع مستأجرين آخرين، على زاوية مار يوسف الظهور، لا يزال قائماً الى الآن. بفقره. ورطوبته، والدخنجي الذي يبيع ذات الرئة لمن يشاء.

كان عالم زقاق البلاط جميلاً ومختلطاً وملوناً. ففي هذه المساحة المحدودة، تحمل الشوارع الصغيرة اسماء تركية وفرنسية، اشهرها موريس بارس في حي المسجد. والى هنا جاء اول جنوبي مشيا وسوف يصبح اشهر فران في بيروت، المعلم ابو عفيف رضوان، وسوف يكسب ابو عفيف كسباً حقاً، فيشتري، اول ما يشتري، طقم الكنبايات الذي ارادت ان تبيعه الدونا ماريا سرسق. وفي هذه الاحياء التي نصفها بسيط ومعتّرـ ونصفها ذوات آل فريج وآل نمور وآل ديبولا ووزراء البلد ووجهائها، في هذه الاحياء كان التجار البيارتة  يتزوجون ثلاثا في غالب الاحيان، لأن الزوجة يد تساعد في الكسب. وتاجر اكياس الورق كان يوزع اعمال التوليف والتلزيق والجمع، على هذه الشركة الجميلة من السيدات المليئات، الفرحات. فاذا حان دور احداهن ان تخرج الى الفرن او الى البقال، غطت وجهها بمنديل كحلي  شفاف يؤكد شيئا واحدا: ان المعلم صاحب شركة الاكياس، رجل متعدد الذوق ومتنوع السعادة. كان مغبوطا  من جميع الذين لا يتاجرون بأكياس الورق.

تلك، كانت بيروت في الاربعينات. والقادمون يأتون من قريب ومن بعيد. ويغنون. ويعشقون، ويحلمون بيوم يصبحون  ابطالا صغارا، قادرين على رغيف غير صعب، وعلى مذياع، طراز "غرونديك" او "باي"،  يغني لهم من داخل البيت، لا من خارجه. في بيت نهاد حداد، كان المذياع عند الجيران. وكان اقرب الى شباك المطبخ. وكانت تمضي اكثر الوقت، على ذلك الشباك الاخضر العتيق، في بيت رطب الجدران، من اجل ان تسمع ما يحب اصحاب الراديو من اغان. وفي الواحدة كانت تعطي دور الاستماع الى الاب، يريد ان يسمع من غنطوس الرامي اخبار الدنيا. ولم يكن يهمه او يعنيه من اخبارها الكثير.

الاذاعة نفسها،  "الاذاعة اللبنانية"، كانت  على بعد مائتي متر نزولا من بيت البنت السريانية التي جاء اهلها من ماردين. وسوف تغامر ذات يوم، هي، وضفيرتها، وشعور الغريب، بالنزول الى الاذاعة. وتطلب من حليم الرومي ان تغني في الكورس.  وكم كان عدد الكورس؟ نحن هنا في الاذاعة اللبنانية، طلعة سامي الصلح ولسنا في سكالا دي ميلانو. حليم الرومي  كان قادما ايضا من فلسطين. وكل غريب للغريب نسيب. فنان متقشف، منضبط، حزين المعالم من آثار النكبة.  وبرد التشرد. وفي هذه البيروت التي يأتي اليها الفازعون والحالمون والفقراء  من الجنوب ومن ماردين ومن ارمينيا ومن كردستان ، يصنع الغرباء  لها مجدا لا يعرفون  انهم يطرزونه حول عنقها  الجميل مثل عقد من الخرز الازرق. يصغي حليم الرومي الى البنت السريانية الكئيبة  الملامح،  ويقول لها،  باسلوبه المتقشف الجامد المكتئب بالدوار من وطن الى ملجأ،  يقول لها، دون شيء من ابتسامة: "نهاد حداد اسم لا يعني شيئا لأحد. سوف تسمين فيروز وسوف تكونين فيروز وسوف تخرجين من الكورس من اجل ان تكوني النغم الجديد في هذه الامة".

بأمر من الرجل الناحل، المعتل اللون، المخطوف الفرح، بدأت فيروز الرحلة نحو الاسطورة. كان ذلك قبل اعوام كثيرة، وكانت في الرابعة عشرة من العمر، وكانت تخشى ان تقول انها بنت سريانية، لانها لم تكن تدرك انها سوف تصبح ذات يوم شمس لبنان. ونجمة من نجوم الامة. واكثر اكثر من ذلك بكثير، سوف تصبح نوعاً لا يقلّد من الفيروز. لا قبل ولا بعد. فمعها، ومع الاغنيات القصيرة البسيطة التي يكتبها ويلحنها "الاخوين رحباني"، سوف يتغير جوهر الاغنية العربية، وسوف يأتي اليها عبد الوهاب الذي كانت تتوله صوته من الشباك المقابل، سوف يأتي ليسألها: هل تقبلين ان تغني لي؟

غنت له ما كان قد كتبه له شوقي قبل ولادة نهاد حداد: "يا جارة الوادي". وفي حنجرتها التقى عبقر شوقي وشيطان عبد الوهاب. وأحيت البنت السريانية بالصوت الذي يشبه الفجر الاول، قديم المغنى العربي، وأعمرت ديار سيد درويش، وصار لها في كل بيت مذياع. او نافذة مقابلة، يصغي الناس الى الاغاني الآتية منها.

مع "سبعين" فيروز، يتغير العصر مرة اخرى. اننا ندخل زمناً آخر: نانسي عجرم تشرب "الكولا" بعينيها القاضيتين، و"أليسا" تشرب "البيبسي" بعينيها الحاضنتين. والناس تقوم الى الرقص وتظل ترقص الى الصبح. لقد ولّى زمن السمع. ولّى زمن الخدر السماعي. وولى الزمن الذي فيه "زجل" ميشال طراد أَنغَم من شعر رامبو واعذب واحنّ واعمق، بكثير اعمق وأحنّ، من شعر هوغو. ولّى زمن النشوة باخدار الاثير.

العرش باق. ولا مطالبون. وليس هناك حتى انستازيا مزيفة، تدعي انه تسري في دمائها دماء ملكية من سلالة فيروز، بل ليس هناك من يحمل الحق الطبيعي للتشابه: يخلق من الشبه أربعين، لا شبه الى اليوم. يكون الشبه ممكناً عندما يكون النموذج عادياً. ويصبح مستحيلاً عندما يكون هذه البنت السريانية الناحلة التي جاء اهلها من ماردين وأوكلوا اليها، مع الرحابنة، ان توسّع رقعة لبنان.

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها