اقرأ المزيد...

 

د. وفاء سلطان

 

 

الشيخ محمد ولسانه الداشر (6)

 29 إبريل 2005

 

نحن نعيش في زمن لم يعد فيه من الثوابت إلاّ التغيير نفسه!

في هذا الزمن وجد الرجل المسلم بثوابته، وجد نفسه بين كفيّ كمّاشة، ولم يبق من عمره سوى ثوان معدوادت كي يختار بين أن يتحرك، أو أن يواجه حكما بالفناء!

في هذا الزمن لم يعد بإمكان أبي هريرة أن يكون سيّد القرار!

لقد فسدت بضاعته، ولم يعد بإمكانها أن تنافس بضائع اليوم!

الأفكار القديمة لاتستطيع أن تقودنا إلى أوضاع جديدة.

السير باتجاه وضع جديد أكثر أمانا من البقاء في وضع قديم. إذا ثبت الإنسان ورفض أن يتفاعل مع التجديد ستتحكّم به كمّاشة التغيير، تلك الكمّاشة التي تحيل كلّ جامد يقع بين فكيّها عصفا مأكولا!!

يؤكّد علم السلوك: أنّ السلوك البشري، في أغلبه، عبارة عن عادات متأصّلة ترسّخت مع الزمن وصارت تتمّ بطريقة اتوماتيكيّة تقاوم التغيير.

الإنسان بطبعه يشعر بعدم الراحة عندما يجد نفسه في وسط يختلف عن الوسط المألوف. هذا الشعور يدفعه للتمسك بثوابته ورفض كلّ جديد!

السكون إلى الوضع المألوف قد يعطي إحساسا كاذبا بالأمان، ولكنّه يلغي كل فرصة للتحسين!

لقد وقعنا كمسلمين في تلك المصيدة! مصيدة العيش في الماضي الغابر الذي لن يعود!

لقد منحنا الوقوع فيها إحساسا كاذبا بأننا في مأمن من رياح التغيير، ذلك الإحساس الذي فوّت، ويفوّت علينا دائما، إمكانية السير نحو مستقبل أفضل.

ويتابع علم السلوك: كي يسير الإنسان باتجاه الأفضل عليه أن يتجاوز أتوماتيكيّة التكرار في سلوكه، وأن  يصبح هذا السلوك خيارا شخصيا يتخذه بكامل وعيه، دون أن يكرره بلا أدنى تفكير.

متى يصبح السلوك البشري خيارا شخصيا؟!

عندما يرتقي الإنسان بمستوى وعيه إلى الحد الذي يدرك عنده أن وضعه بحاجة إلى تغيير، وعندما يقبل أن يكون هو سيّد التغيير!

يترافق التغيير دائما مع الشعور بالخوف والقلق، الخوف من الجديد. ويتفاقم هذا الشعور كلّما ضعفت ثقة الإنسان بنفسه.

كلّما ازدادت ثقة الإنسان بنفسه كلّما ازدادت رغبته في اتخاذ مواقف جديدة.

كلّ موقف جديد هو مواجهة جديدة، وكلّ مواجهة جديدة هي عبارة عن تحدّ جديد!

ولكي يواجه الإنسان أيّ تحدّ عليه أن يتسلح بالمهارت اللازمة للمواجهة.

تسلحنا بالمهارات اللازمة لمواجهة التحديّات التي تفرضها رياح التغيير ترفع من ثقتنا بنفسنا، وبالتالي تزيد من فرص انتقالنا من اتوماتكيّة التكرار إلى حسن الخيار!

عندما نتجاوز اتوماتيكيّة  السلوك التي فرضتها مصيدة الوقوع في الماضي، سيعيد الطبيب المسلم النظر في رأيه عندما يُسأل عن فوائد الصيام.

 فبدلا من أن يكرّر كالببّغاء: عن أبي امامة عن حصين بن محصن عن قيس بن سعد عن أبي عيّاش عن عبد الله بن عمرو عن جابر بن سمرة عن أبي عمر عن أبي سعد الخدريّ عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: صوموا تصحوا!.. .. سيختار ماجاء في كتبه الطبيّة، فيقول: أفضل الأنظمة الغذائيّة تلك التي تعتمد نظام الوجبات اليوميّة الخمس، ثلاث وجبات رئيسيّة واثنتان خفيفتان تنظمان الزمن الفاصل بينهما.

وعندما يتسلّح الشيخ محمّد بمهارات جديدة ـ كأن يتعلّم أدب الحوارـ مهارات تؤهله لمواجهة تحديّاتي، سترتفع ثقته بنفسه إلى الحد الذي يسمح له أن يعيد النظر في لسانه الداشر، ذلك اللسان الذي لم يستطع أن يجد تفسيرا لاختلافي معه سوى اتهامه لي بأنني "محتضنة" من قبل أعداء العرب والمسلمين.

عند تلك النقطة، وعندها فقط، سيكون قادرا على أن يقرأني ويحاورني دون اتهامات، وقد يقودنا هذا الحوار إلى وضع جديد!

*************

لم يكن الشيخ محمّد الوحيد الذي أمطرني بوابل اتهاماته، ولم أكن الوحيدة التي نالها ما نالها من تلك الإتهامات. فلقد جرت العادة المتأصلة في سلوك المسلم أن يتّهم كلّ من يخالفه بالخيانة أو الكفر!

مواجهته لتحديّات الذين يختلفون معه تتمّ بطريقة اتوماتيكيّة، طريقة  فرضتها مصيدة الوقوع في الماضي، تلك المصيدة التي برمجت سلوكه وعلمته أن يواجه المتحديّن له عن طريق تكفيرهم وتخوينهم!

في عالم اليوم، المهارات الوحيدة التي تسمح للإنسان أن يواجه تحديّات العصر بنجاح، هي مهارات الحوار.

متى نستطيع أن نعلّم الشيخ محمّد فن الحوار ونقوده بسلام إلى طاولته؟!

عندما نستطيع أن نحرره من اتوماتكيّة السلوك ونرتقي به إلى مستوى التفكير!

عندما هاجرت إلى أمريكا لم أكن أقلّ شكا وريبة في الآخرين ممّا هو عليه اليوم الشيخ محمّد، فأنا لاأستطيع أن أنكر أنّ كلانا قد جاء من نفس الحيّ ونهل من نفس البئر.

المهارات التي اكتسبتها في أمريكا ساعدتني على أن أتجاوز الآلية الأتوماتكيّة التي اعتدت أن أقيّم بها الآخرين، ورفعت مستوى وعيي إلى الحدّ الذي ساعدني أن أعيد النظر في ثوابتي وأقرر التغيير!

ربطت لساني بدماغي وفتحت في جمجمتي نافذة  بعرض هذا الدماغ.

صار سلوكي خياراً أتخذه كلّ يوم بوعي وتفكير، وليس مجرّد عادة وجدت آبائي عليها عاكفين!

*************

عندما هاجرت إلى أمريكا، سكنت في بيت مجاور لعائلة أمريكيّة من العرق الأبيض.

أحد الأيام تقدّم مني جاري مصافحا ومعرفا بنفسه. سألني عن اسمي، ولم يكد ينهي سؤاله عن بلدي حتى كدت أبلل ثيابي!

تضاعف خوفي منه عندما أعلمني أنّه رجل بوليس، مضى على خدمته في سلك الشرطة ثلاثون عاما وسيستقيل العام المقبل.

صرت أفسّر كلّ حركة من حركاته وحركات زوجته وأولاده على أنها تهدف لمراقبتي ومراقبة أفراد اسرتي، وتولّدت لديّ قناعة مطلقة على أنّه يكتب تقريرا مفصّلا عن حياتي يسلّمه كلّ يوم للـ إف بي آي!

تنغّصت حياتي بجواره فبدأت البحث عن بيت آخر! وإذ بي أفاجأ به ذات يوم يطرق بابي:

ـ أسعدت صباحا ياجارتي العزيزة! أريد منك خدمة وأشكرك سلفا عليها. هل تستطيعين أن تقومي بالتحدّث إلى عامل الحديقة وتبلغيه بعض الإرشادات فإنكليزيّته محدودة وأنا لاأتكلّم الإسبانيّة!

ورددت بسرعة: وأنا لاأتكلّمها أيضا!

تحجّرت عيناه في مقلتيه: ألست من أمريكا الجنوبيّة؟!

تنفست الصعداء: بل أنا من سوريّا!

ـ أنا آسف! معلوماتي الجغرافيّة ضحلة للغاية! لقد ظننت أن سوريّا في أمريكا الجنوبيّة وبأنّك تتكلّمين الإسبانيّة!

الغالبيّة الساحقة من الشعب الأمريكي، إن لم أقل كلّه، لاتعرف أين تقع سوريّا على خارطة الكون، ناهيك عن فلسطين!

لكنّ صديقتي أمّ عمر ما زالت مصرّة على أن مدير المدرسة التي تشتغل فيها قد تخلّص من خدمتها عندما اكتشف أنّها فلسطينيّة الأصل!

قبيل عيد الشكر بيوم واحد دخلت أمّ عمر بيتي كي تسلّم عليّ، فوجدتني أحضّر الديك الرومي كوليمة لهذا العيد، نظرت اليّ مستغربة: لقد أفرطت في غسله!!

ـ أنت على حقّ، ولكنني قرأت مقالا البارحة في جريدة لوس أنجلوس تايمز يحذّر الناس من جرثومة الإيشريشيا التي تسبب عادة أمراض قاتلة قبيل هذا العيد. هذه الجرثومة تنمو بسرعة على اللحوم المثلّجة أثناء تذويبها وعلينا أن نتخّذ اجراءات النظافة المطلوبة.

وتردّ أم عمر، وهي سيّدة حاملة ماجستير في التعليم من جامعة أمريكيّة: خففي من قلقك! هذه الإجراءات لهم وليست لنا، فهم شعب لايعرف الطهارة من النجاسة!

وأتساءل: عجبا! هل طردها المدير لأنّها فعلا فلسطينيّة، أم لأنها تقيّم شعبا بكامله من خلال منظار أضيق من فتحة أنفها؟!!!

الشعب الأمريكي المهووس بنظافته حتّى الجنون لايعرف الطهارة من النجاسة!! يعرفها المسلمون في أحياء غزّة وأزقة القاهرة ودهاليز بنغلاديش والباكستان وسراديب الصومال حيث لاتستطيع أن تتبين ملامح وجه طفل رضيع من كثرة الذباب الذي يغفّ عليه!

سيّدة حاملة ماجستير في التعليم لا تستطيع أن تميّز بين نظافة محلات رالفس وسميث وألبرتسون وبين الصينيّة التي يحملها بائع الحلوى أمام أيّة مدرسة في عالمنا العربي أو الإسلامي!!

سيّدة حاملة ماجستير في التعليم تدفعها اتوماتيكيّة سلوكها إلى تقييم الآخرين وفق مقياس متحجّر ورثته بالتواتر دون أدنى تفكير!

المسلمون وحدهم يعرفون الطهارة من النجاسة، حتّى ولو شمّر الواحد منهم دشداشته وشخّ في مياه النيل!

مسح الرقبة أثناء الوضوء باليدين المبللّتين بالماء يكفي لتطهيرها، وقتل كلّ جراثيم الإشريشيا التي تعشعش عليها.

فما بالك بمسح الديك الرومي بتلك اليدين الطاهرتين؟!!

تقول الدراسات في علم السلوك بأنّ الإنسان لايستطيع أن يكون داخل حمّام بيته مختلفا كثيرا عنه عندما يكون على قمّة عمله في أرقى المستويات الوظيفيّة أو الإجتماعيّة!

فالإنسان أينما تواجد يكون عموما نفسه!

إذاً هل تستطيع السيّدة أم عمر أن تكبح جماح جهلها، وتسلك في مدرستها سلوكا مغايرا عن السلوك التي تسلكه داخل مطبخ صديقتها؟!!

هل تستطيع أن ترفع مستوى وعيها في عملها، لتتجنّب الآلية الأتوماتيكيّة التي تقيّم بها شعبا بكامله أمام صديقة ترتاح لها؟!!

لاأعتقد، فالإنسان نفسه مهما حاول أن يلّمع تلك النفس ويخفي حقيقة لونها!

قد يحاول ولكن لابدّ من زلة لسان تكشف يوما حقيقته!

إذاً يطرح السؤال نفسه: لماذا طرد مدير المدرسة السيّدة أم عمر؟! هل لأنه اكتشف أنّها فلسطينيّة، أم لأنها عبّرت بطريقة اتوماتيكيّة، متأصّلة في سلوكها، عن رأيها بقضيّة ما دون أن تعير المنطق والفكر أيّ انتباه؟!!

توارثنا طريقة تقييمنا للآخر كما ورثنا لون جلدنا وشكل عيوننا وطول قاماتنا. تبرمج عقل المسلم ونمط تفكيره بطريقة تناسب عقيدته، تلك العقيدة التي ترفض الآخر وتلغي وجوده وتكفّر من يتعامل معه!

يقفز المسلم، عندما يواجه الآخر، إلى الاستنتاج بأن هذا الآخر أدنى من مقياسه بكثير، وهو عندما يفعل ذلك يلغي كلّ فرصة قد تجبره للتعامل معه، ويحمي نفسه من أن يتهم بالخيانة أو الكفر!

عندما تدخل أمّ عمر قسم بيع اللحوم في أيّ محل تجاري هنا في أمريكا، يختلط عليها الأمر فتظنّ نفسها في محل لبيع الزهور، لكنّها تصر على أن تكذّب عينيها، فهم لايعرفون الطهارة من النجاسة!

وإذ كتبت لها الصدفة، أن تمرّ من جانب أيّ جامع في مدننا وقرانا الإسلاميّة ستقتلها رائحة مراحيضه، لكنّها ستصرّ على أن تكذّب انفها. فالمصلّون فيه، وحدهم، يعرفون الطهارة من النجاسة!

*************

لقد غيّرتني أمريكا، وأنا مدينة لها بهذا التغيير!

غيّرتني نحو الأفضل، رفعت ثقتي بنفسي عندما سلّحتني بالمهارات اللازمة لمواجهة أيّ تحد يفرضه التغيير.

لم أعد رهينة وضعٍ يفرض عليّ أن أفكر وأسلك واتكلّم بطريقة اتوماتيكيّة مبرمجة تفتقر إلى الوعي والتفكير.

حذفتُ من قاموسي طقوس الوضوء، لأنني اكتشفت أن جراثيم الإشريشيا لاتموت بالمسح، ونحتاج في مكافحتها لطرق التعقيم! واكتشفت أن ملايين الأطفال في بلادي تموت من الإصابة بالجراثيم رغم الإلتزام الاتوماتيكي بفريضة الوضوء!!

لقد تغيّرت، والسؤال: كيف استطيع أن أقنع صديقتي أمّ عمر بضرورة التغيير؟!

لقد تجاوزت ماض مقيت، ماض يضرّ الإلتزام به ولا ينفع. لقد تجاوزته إلى حاضر أفضل، أفضل لي ولعائلتي ولكلّ قرائي.

 والسؤال: كيف أستطيع أن أقنع أمّ عمر على أن تتجاوز هي الأخرى السكون إلى هذا الماضي المقيت؟!

*************

قام عالم نفس أمريكي بوضع مجموعة من البراغيث داخل قطرميز من الزجاج محكّم الإغلاق. حاولت البراغيث الهرب، فارتطمت بالغطاء ومات بعضها.

بعد مرور زمن على المحاولات اليائسة، تبنت البرغيث طريقة جديدة وهي القفز إلى مستوى أخفض من مستوى الغطاء بقليل كي تتجنّب الارتطام.

بعد أن تأكّد العالم من أن البراغيث يئست وتكيّفت مع وضعها الجديد قام برفع الغطاء وانتظر طويلا، لكن البراغيث اصرّت على القفز إلى المستوى الذي اعتادت عليه، أي أخفض من مستوى الغطاء بقليل، وامتنعت عن القفز خارج القطرميز رغم عدم وجود الغطاء.

يطلقون على الحالة النفسيّة التي وصلت إليها البراغيث Acquired helplessness أي الإحباط المكتسب. بمعنى أن البراغيث، وبعد محاولات عديدة باءت بالفشل، قد اكتسبت احساسا بالإحباط.

من الملاحظ أن السبب الرئيسي لحالة الإحباط تلك هو الألم الذي كانت تحسّ به كلّما ارتطمت بالغطاء. ولكي تتجنّب هذا الألم تبنت سلوكا يسمح لها بالقفز إلى تحت مستواه بقليل.

مع مرور الزمن ونتيجة للتكرار الأتوماتيكي لهذا السلوك، تكيّفت البراغيث مع وضعها داخل القطرميز رغم مرارته، ورفضت تجاوزه عندما رفع العالم الغطاء وأتاح لها أن تتجاوزه!

المسلمون اليوم يعيشون داخل هذا القطرميز!

حاول البعض منهم أن يقفز خارجه، ففرّ هاربا أو مات مرتطما بسيف التكفير. والبعض الآخر مازال إمّا قابعا في قاعه، وإمّا مراوحا في المسافة التي تفصل بين القاع وبين الغطاء متمثلا بسيف التكفير!

لاأحد فيهم يمتلك رؤية واضحة!

الكلّ محبط، والكلّ يرفض التغيير مقتنعا بحالة الموت البطيء التي يعيشها داخل حدود القطرميز!

*************

أبحر، كلّما سنحت لي الفرصة، في المواقع الالكترونيّة. أقرأ أحيانا لكاتب مسلم مقالة تثير إعجابي، لأنه اقترب في طرحه للفكرة من غطاء القطرميز، وصار قاب قوسين أو أدنى للقفز فوقه. أبرق له على الفور برسالة اشجّعه بها على جرأته وأطالب بالمزيد، لأفاجَأ به في مقالة أخرى وقد غاص عائدا إلى قاع القطرميز!

أقامت نقابة الصحفيّين العرب الأمريكيّين في لوس أنجلوس ندوة أحياها الدكتور ماهر حتحوت رئيس لجنة العلاقات الإسلاميّة الأمريكيّة والمتحدّث باسمها. في نهاية الندوة طرحت عليه سؤالا: دكتور حتحوت هل تعتقد أنّ كتب التفسير والأحاديث الدينيّة التي بين أيدينا مازالت صالحة لتربية النشء الجديد؟! ردّ برباطة جأش لم أعهدها من قبل: قطعا.. قطعا.. قطعا لا!

في نهاية الندوة وعلى باب قاعة المحاضرات ركض وراءه أحد الصحفيّين كي يأخذ رأيه في نشر عبارته تلك، فردّ الدكتور حتحوت: لا.. لا أرجوك ليس بالشكل الذي قلته!

غطّت كلّ الصحف الصادرة هنا باللغة العربيّة موضوع الندوة، ولم تشر أيّة منها إلى سؤالي أو جوابه!

أفتى الطنطاوي بقتل المدنيّين الأمريكيّين في العراق، وعاد بعد أسبوع ليكذّب فتواه الأولى ويلحقها بفتوى مغايرة!

لديّ نسخة للقرآن باللغة الإنكليزيّة عندما وصل المترجم إلى كلمة "واضربوهنّ" في الآية التي تقول: "واللاتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ.." قام بإضافة كلمة باللغة الإنكليزيّة وهي  lightly كي يعطي معنا آخر وهو: "اضربوهنّ ضربا خفيفا".

طبعا لا وجود للضرب الخفيف في المعنى الأصلي، لكنّ المترجم حاول أن يخفف من حدّة الأمر، مدركا أنه لا مكان للضرب في الأخلاق والقوانين الأمريكيّة، فلجأ إلى الإقتراب قليلا من غطاء القطرميز كي يوهم الأمريكان أنه لايعيش في القاع. لكن عندما يقوم هذا المترجم بقراءة الأية وشرحها لمجموعة من الرجال المسلمين سيقول: "اخبطوها والعنوا ابو لي خلّفها" فهي ناشز!

التذبذب بين القاع والغطاء الذي يقوم به المسلم يعطينا فكرة واضحة عن حالة الضياع والارتباك التي يعيشها.

هو حائر بين أن يصدّق حواسه وبين أن يلتزم بعقيدته التي لاتتطابق مع تلك الحواس!

الواقع شيء وتعاليمه شيء آخر لايمتّ لذلك الواقع بصلة!

لقد وقع في قطرميز، يبدو الخروج منه ضربا من المستحيل!

إذا من ينتشل هؤلاء البراغيث؟!

*************

عمليّة انتشال المسلمين من وضعهم المزري مسؤوليّة كلّ حرّ في العالم.

لايستطيع سجين في العالم أن يكسر جدران سجنه من داخله، وإن فعل قد يتكسّر معها. مسؤوليّة الأحرار خارجه أن يساهموا في كسرها وتحريره.

لا تقتصر مسؤوليّة الأحرار على رفع الغطاء، بل تتعداها إلى إقناعهم بأنه غير موجود وبأنّ عليهم أن يقفزوا خارجه كي ينتقلوا إلى وضع جديد وأفضل!

كنت، وحتى تاريخ مجزرة الحادي عشر من أيلول، على قناعة مطلقة بأنّ المسلمين في أمريكا والغرب هم الأحرار المعنيّون بتلك المسؤوليّة؛ لأكتشف بعد تلك المجزرة بأنّهم أكثر المسلمين التصاقا بقاع القطرميز، وأكثرهم رفضا، حتّى للاقتراب من غطائه!

الرسائل الإلكترونيّة التي تصلني من قرائي المسلمين في العالم العربي تبشّرني بالخير وتشجعني على التفاؤل بالمستقبل. بعكس الحملات الإرهابيّة التي يشنّها عليّ الشيخ محمّد وأمثاله هنا في أمريكا.

ولتلك الظاهرة تفسير واحد:

 الشيخ محمّد لايحسّ بضرورة التغيير، فهو في أمريكا أمريكيّ أكثر من مادونا!

يأكل الخنزير ويشرب الكحول ويتاجر بالربا ويرسل زوجته للتصيّد على أبواب السفارة السعوديّة كلّما أقامت تلك السفارة عشاء خيريا!!

الطاسة ضايعة! ولا من يسمع أو يدري!

لايستطيع المغتربون من أولاد حارته أن يقيّموه إلاّ من خلال صلاة الجمعة، ولذلك تراه وراء الإمام وأولّ المصلين!

أولاده يلتحقون بأفضل المدارس في العالم، وهو يسكن بيتا مجهّزا بكلّ وسائل الراحة، وقد تساهم الدولة في الكثير من نفقاته إذا ادّعى بأنّه من ذوي الدخل المحدود، وهذا الأرجح!

يطبّل للمنتحرين من الأطفال الفلسطينيين، ويزمّر لغيرهم من العراقيين الذين يسطّرون أروع آيات البطولة وهم يفجّرون سياراتهم المفخخة داخل مسجد للشيعة أو في سوق عام!

أولاده آمنون ومرفّهون، إذا لايضرّه أن يعيش أولاد غيره مسجونين منهكين داخل القطرميز!

هو بذلك يلعب على الحبلين!

هو مادونا بين الأمريكيين والشيخ محمّد بين المسلمين سواء هنا في الجالية أو هناك في الوطن!

ينافق كي يكسب رضى الطرفين!.. ولم لا؟.. أليس هو واحد من هؤلاء الذين قال ربه فيهم: "الأعراب أشدّ كفراً ونفاقاً"؟ (التوبة 79)

على المسلمين في أوطاننا أن يدركوا بأن أهلهم في المهجر أشدّ الأعراب نفاقا!

إذاً، والأسف يعتريني، لنغسل أيدينا من هؤلاء المنافقين!

*************

لقد عممتُ حالة الشيخ محمّد على عرب المهجر، وقد لا أكون على حق!

التعميم لايعني المطلق!

في علم الرياضيات يقرّون بوجود حالات إستثنائيّة نادرة ويطلقون عليها "الخطأ المرتكب"، وعندما يعمّمون الفرضيّة ويحوّلونها إلى قانون  يغضّون النظر عن تلك الحالات نظرا لندرتها.

هنا لا نستطيع أن نهمل تلك الحالات، رغم ندرتها، نظرا لأهمّيتها.

يتصل بي البعض من مسلمي المهجر، بعض نادر جدا لكنّه موجود، يتصلون بي من وراء الكواليس ويرجونني أن أبقيهم وراء الكواليس!

يتّصلون مصفّقين لي ومشجّعين ومهللين!

ورغم أنني لاأحترم هذا الاسلوب، لكنني أستطيع أن أفهم دوافعه!

إنّهم يخافون الألم الذي يسببه الإرتطام بغطاء القطرميز!

في هذا العالم الحرّ يُفترض أن لايكون هناك غطاء، ولكن مازال هذا الغطاء وهماً موجودا داخل عقولهم!

عندما يصاب الإنسان بحادث أو حالة مرضيّة ما، ويضّطر عندها الأطباء أن يبتروا أحد أطرافه. يشكو هذا الإنسان، ولفترة ليست قصيرة، من ألم مبرح في الطرف المبتور.

يطلق على هذه الحالة في الطبّ "الظاهرة الوهميّة" وتفسيرها أن الأعصاب التي كانت تنقل الحس من هذا العضو المبتور إلى الدماغ مازالت تقوم بإيصال بعض الإشارات إلى الدماغ، ويحتاج هذا الدماغ إلى فترة من الزمن كي يتأكد من عدم وجود هذا العضو ويقطع اتصاله به.

قد يتطلّب الأمر وقتا كي تدرك تلك القلّة الواعية، والتي تخاف من مواجهة أكثريّة ـ  في المهجر وفي الوطن ـ مسلمة غير واعية، أنها حرّة ولا وجود للغطاء إلاّ في أذهانها!

مسؤوليتي ككاتبة أن أصل إلى تلك الحالات النادرة، باعتبارهم أكثر من غيرهم ادراكا للوضع وأكثر قبولا للتغيير، كي أقنعهم بأن يفعلوا شيئا من أجل الاسراع بهذا التغيير!

وعندما أجد فيهم من يقبل أن يضمّ صوته إلى صوتي أكون قد حقّقت نصرا كبيرا، ولا أظنّ هذا النصر ببعيد!

*************

ماذا بإمكاننا كأقلية واعية، من أصل أكثريّة مسلمة غير واعية، تعيش في هذا البلد الحرّ أن نفعل كي ننتشل هؤلاء المنحوسين من داخل القطرميز؟!!

الطريق اليهم يمر من خلال كتبهم ووسائل اعلامهم ومناهج مدارسهم.

ولا أعتقد أن الأمر على أمريكا عسير، فكما استطاعت أن تبسط قواعدها العسكريّة بالقرب من مضجع حامي الحرمين الشريفين، تستطيع أن تبسط علومها النفسيّة والتربويّة والقانونيّة في كتبه وصحفه وعلى منابر مساجده!

يجب أن نضع، كأقليّة مسلمة واعية، أمريكا أمام مسؤولياتها. يجب أن نقنعها أننا في العالم الإسلامي بحاجة إلى قواعد مدرسيّة، وليس إلى قواعد عسكريّة!

قواعد مدرسيّة تحرم تدريس الكره والحقد ورفض الآخر والحض على قتله.

قواعد مدرسيّة تحترم المرأة وتخرجها من حظيرة البهائم والنجاسة، وتعتبرها انسانا له كافة الحقوق والواجبات.

قواعد مدرسيّة تشرح الحريّات الشخصيّة وتشجع الناس على ممارسة حقّهم لها.

قواعد مدرسيّة تحضّ على العمل الصالح والصدق والإخلاص والتفاني في خدمة الوطن والإنسانيّة جمعاء.

قواعد مدرسيّة تكافئ المحسن وتعاقب المسيء، لا فرق بين مواطن وآخر كان زيدا أم زياد!

قواعد مدرسيّة تعلم أصول التقييم ومبادئ الحوار ونبذ الألقاب والاتهامات التي تصدر بدون وعي أو تفكير!

*************

كانت أمريكا، للأسف الشديد، ولحقبة طويلة من الزمن تحارب المسلمين بالإسلام!

كان يهمّها الطنطاوي أكثر من أن تهمها وفاء سلطان!

حافظت على وضعهم وجهلهم بالحفاظ على تعاليمهم!

في الحادي عشر من أيلول عام 2001 انقلب السحر على الساحر، واكتشفت أمريكا الحقيقة الناصعة: عدو متعلم خير من صديق جاهل!

أعادت النظر في حساباتها، والأفضل أن تكون هذه المرّة صادقة في نواياها، وإلاّ لن يعلو برج بعد اليوم في سمائها!

علينا، كأقليّة واعية ضمن أكثريّة مسلمة غير واعية، أن نستغل هذا الظرف ونضع أمريكا، بلدنا الذي اخترناه كبديل لوطننا الأم، علينا أن نضعها أمام مسؤولياتها.

تلك المسؤوليّات التي حاولنا، وبجهد كبير، أن نحمّلها لأمريكا قبل مجزرة أيلول، لكنّها اصرّت وبغباء رهيب أن تدفع الثمن كي تعي مسؤولياتها!

مسؤوليّة امريكا الآن أن تنتشل المسلمين من داخل القطرميز وإلاّ جرّوها للوقوع فيه!!

*************

كيف ستتمّ عمليّة الانتشال هذه؟!

لاأعرف!

 قد أعرف المبدأ، لكنّني لست ملزمة بمعرفة التفاصيل!

أعرف أنّ الكلمة هي البدء، والكتاب هو الأصل. لكنّني لاأعرف الإجابة على سؤال: "وماذا بعد؟!."

لست الوحيدة في الساحة، ولست الأفضل أو الأكثر حكمة. فأهل العقل والعلم موجودون، والجميع معنيّون!

المهمّة ليست سهلة لكنّها ليست مستحيلة. تحتاج لتضافر جهود دوليّة ومحليّة! وعلى النوايا الصادقة من كلا الطرفين أن تأتي أولا.

أمريكا والغرب ملزمون بمساعدتنا. استمراريّة وجودهم تتطلّب تلك المساعدة كما تتطلّبها استمراريّة وجودنا.

ونحن ملزمون باستعادة الثقة "بالآخر". استمراريّة وجودنا تتطلّب تلك الثقة كما تتطلّبها استمراريّة وجودهم.

لاأحد فينا يستطيع أن يلغي الآخر! ولكن كل منّا يستطيع أن يساهم في تغيير الآخر عندما يبدأ بتغيير نفسه!

وعلينا جميعا أن لاننسى بأنّنا نعيش في بقعة صغيرة من هذا الكون اللامتناهي، بقعة صغيرة بحجم قرية صغيرة، قرية صغيرة اسمها العالم.

***********

قبل أن انهي كتابي هذا أريد أن أوجه رسالة لأصدقائي وقرائي المخلصين،  الذين آمنوا بقدراتي وشجّعوني كي أستمر في عطائي، رسالة تقول: أحبّكم وسأظلّ أحبّكم.... لاأعرف كيف أشكركم، فمعروفكم أكبر من قدرتي على الشكر.

 للمنافقين الذين يدّعون صداقتي، والذين قالوا لي يوما، متظاهرين بالحكمة: ليس من الذكاء ياوفاء أن تقارعي جبلا من صخر، وأنت تدركين أنك لا تستطيعين أن تزيليه!

أريد أن أوجه لهؤلاء الأصدقاء "اللدودين" رسالة تقول: أنا لست خائفة على رأسي! اذا كان الجبل من صخر فرأسي من حديد. ليس شرطا أن أزيل ذلك الجبل، فإذا استطعت أن أحدث فيه خدشا صغيرا أكون قد حققت مارميت اليه!

لقد فتحت الباب لغيري، والوفاءات اللاتي ستحملهنّ الأجيال القادمة ملزمات بأن يكملن الطريق!

أمّا للشيخ محمّد ومن لفّ لفافه، فأختم كتابي بقولي: قد تلدغ الذبابة جوادا اصيلا، لكنّها تبقى ذبابة ويظلّ الجواد أصيلا!

*******************************

آخر حلقة.

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها