الوطن
ليس أرضاً وذكريات.. بل هو الإنسان! (9)
12/4/2005
رحت أنتقل من مأدبة إلى مأدبة، ومن مكان إلى مكان بحثا عن المواطن القطري،
رجلا أم امرأة، دون أيّ أمل!
قطر بلد بلا قطريّين!
كنت أراهم في الأماكن العامة وضمن مجموعات قد تتشكل من رجال، أو من نساء
وخدامات وأطفال، أو من رجل يقود زوجة أو كومة زوجات.
قالت لي أختي، مشيرة إلى تلك المجموعات البشرية، هؤلاء هم القطريون. أراهم من
بعيد، لايتحدثون للأجانب ويعيشون في مجتمعهم المغلق ضمن مجتمع قطر التعددي.
الرجال بعباءاتهم البيضاء، والنساء كأشباح سوداء لاتستطيع أن ترى منها إلى
الأحذية والقفازات! يسير الرجل في الأمام تفصله عن زوجته عدّة أمتار، وخلف
الزوجة تسير الخادمة والأولاد. يسير الجميع ضمن رتل عسكري نظامي للغاية، وفق
تسلسل حسب الرتب!
كانت حرارة الجو في الخارج تتجاور المائة والعشرين فهرنهايت، ولباس النساء
الثقيل يدفعك للتساءل: لماذا تُحجب هذه المخلوقات بتلك الطريقة التي تفصلها
تماما عن الحياة؟ مالغاية أن تُبرقَع بالسواد في هذا الجو الحار الرطب الذي
يدعو للإختناق؟!
إذا افترضنا جدلا بأن لبس البرقع يضمن "الحشمة"، سيبقى السؤال: لماذا اللون
الأسود، والمعروف بأن الألوان الغامقة تمتص أشعة الشمس بدرجة أعلى بكثير من
الألوان الفاتحة، هل هي الحشمة أيضا؟!
ولكن يبقى البرقع ولونه الأسود في كفّة و"البقمة" في كفّة أخرى!!
رأيت منظرا، لم يسبق لي أن رأيت مثيلا له في حياتي، منظرا يثير شفقتك إلى حدّ
البكاء! رأيت بعض النساء يرتدين لجاما يُغطّي الوجه، باستثناء العينين، يشبه
إلى حد بعيد القبعة الحديدية التي يلبسها لاعب الفوتبول الأمريكي أثناء اللعب
لحماية فكيّه، وعندما سألت عن ماهية ذلك اللجام قيل لي بأنهم يطلقون عليه اسم
"البقمة" وهو يمنع الغطاء من أن يُحدد معالم الوجه عندما يُضرب فوقه!
فعلا! الحاجة أمّ الاختراع!!
************
كنت أتجوّل واختي في المحلات التجارية الفاخرة، وشعور ينتابني بأنني في
بيفرلي هيلز بكاليفورنيا. البضائع نفسها، لكنّ الأسعار مضروبة بضعفين على
الأقلّ. معظم الباعة، ولا أعتقد بأنّ واحدا منهم قطري، يتحدّثون اليك
بالإنكليزيّة.
ينظر القطريون إلى المهن، أيّة مهنة، نظرة ازدراء. ذلك الموقف يساهم إلى حد
كبير في ازدياد تغلغل اليد العاملة الأجنبية.
ظاهرة الإنقراض تهدّد قطر والقطرييّن!
بعد عشرين عام من الآن، وليتذكّرني القراء عندها، سيكتب التاريخ عن قبائل
قطرية عاشت هنا ثمّ انقرضت!
العوامل التي أدت وتؤدي إلى تلك الظاهرة هي باختصار: انقسام المجتمع القطري
إلى قسمين تفصلهما هوة لا قاع لها. القطريون متقوقعون، كقلّة، في برجهم
العاجي ظنّا منهم بأنهم يحكمون طالما يملكون. والطبقة العريضة، بمختلف
شرائحها، هي عمليّا المسؤولة عن الحفاظ على البنيّة التحتيّة للمجتمع القطري.
ينتاب تلك الطبقة احساس بالضيم والذل. عندما يتفاقم ذلك الإحساس سيترك خطرا
على التركيبة الإجتماعية للبلد.
المجتمع الأمريكي مجتمع قام، ومازال يقوم على الهجرة، هناك طبقات اجتماعية في
أمريكا، لكن لايوجد طبقة حصرا على اناس معيّنين، والحدود بين الطبقات ليست
محكّمة الإغلاق. الانتقال من طبقة إلى أخرى وارد في كل زمان ومكان. شخصيّة
الفرد تلعب دورا في تحديد طبقته، وليس عرق أو جنسيّة هذا الفرد. هناك عوامل
قد تعيق المهاجرين الجدد، لكنّها حكما لا تستطيع أن تقف في طريقهم. علاقة
افراد الطبقات مع بعضهم البعض علاقة حركيّة تفاعلية انسانية، وليست مجرد
علاقة مالك بمملوك!
الكل من مختلف الأعراق والأجناس ينصهرون في البوتقة الأمريكية ويصبح الجيل
الثالث على الأكثر أمريكيا بكلّ ماتعنيه الكلمة من معنى!
************
أُصبت بحالة احباط ولم يعد لديّ امل بأن ألتقي وأتحدث مع امرأة قطريّة!
رحت أركض باتجاه كل امرأة قطرية أراها في السوق كي أقف بجانبها وأسترقّ السمع
اليها علّني أستطيع، ومن خلال ماأسمعه، أن أبني بعض الرأي حولها. باءت كلّ
محاولاتي بالفشل، فلم يكن حديثها سوى تمتمات فشل راداري بالتقاط أي منها!
خلال اسبوعين، لم أعرف عن المرأة القطريّة سوى حذائها وأحيانا كنت قادرة على
رؤية أظافرها المقلّمة والمحناة بكل الألوان!
أعجبني ذوقها في اختيار الحذاء ولون طلاء الأظافر، لكنني أحسست بخيبة أمل إذ
لم أستطع أن أجيب على سؤال: هل فكرها يرتقي إلى مستوى هذا الذوق!!
**************
يوم الجمعة قمنا بزيارة أقدم سوق في قطر، وهناك رأيت بحرا من الرجال
الآسيويين يجتمعون في مكان واحد. يبدو كل واحد منهم نسخة عن الآخر، إذ يصعب
على المرء أن يميّز بينهم. ولكن، وبالنظر إلى وجوههم، تستطيع أن تقرأ مأساة
كل واحد، ثم تتساءل: هل الحياة عادلة؟!!
كيف تمّ استقدام تلك الأيدي العاملة إلى قطر؟!
اطّلعت في قطر على قضيّة أخرى لاتقل أهمية من الناحية الإنسانيّة عن قضيّة
الخدم، إن لم تكن الوجه الآخر لها!
إنّها قضيّة العمالة! وهي شكل من أشكال تجارة الرقّ.
لم
أطّلع على القصة بكلّ تفاصيلها، لكن ماسمعته من قصص بعض العمال هناك يكفي
ليجلي الغموض الذي يكتنف تلك المأساة الإنسانيّة.
في قطر مكاتب للعمالة، وهي مسؤولة عن جلب الأيدي العاملة من الخارج. تحتاج
تلك المكاتب، ولتقوم بمهمّتها، إلى كفيل قطري يتولى العمال ويُفترض أن يكون
مسؤولا عن تشغيلهم.
مكاتب العمولة هذه مرتبطة بسماسرة في البلاد الأصلية لهؤلاء العمال. يتفاوض
السماسرة مع العمال، وقبل أن يتم ترحيلهم من بلادهم، مقابل مبلغ من المال.
يبيع العامل كلّ مايملكه في وطنه الأم من أجل تأمين هذا المبلغ، ثم يسافر
تاركا وراءه عائلته تعيش على الحلم وتنام على أحرّ من الجمر.
في
قطر القليل منهم يحظى بعمل، والكثيرون يجدون الشوارع مأوى لهم حتى اشعار آخر.
الكفيل ليس بالضرورة هو ربّ العمل، لكنه، وبحكم القانون الذي يُنظم العلاقة
بينه وبين العامل، يتحول إلى مالك يملك العامل وفق سند تمليك!
تبتلع السماسرة ومكاتب العمولة والكفيل الجزء الأكبر من دخل العامل، ناهيك عن
الظروف اللا إنسانية التي يعيشها واالمعاملة المجحفة التي يتلقاها.
لايحق له أن يعمل إلاّ بإذن الكفيل، ويحقّ لهذا الكفيل أن يسحب كفالته متى
شاء. سحب الكفالة يعني بالقانون ترحيله، إذ لايحق له أن يغيّر الكفيل.
في
النهاية يتحوّل الكفيل إلى السيّد المطلق، ويتحول العامل إلى عبد مملوك.
أبشع أنواع العبوديّة عندما يتحكّم الإنسان بلقمة أخيه الإنسانّ!
**************
في
البلدان الحضارية عندما يلاحظ الناس ثغرة في القانون، يستطيع أن يتسرّب منها
بعض الظلم، ينتفضون على حكوماتهم ويحتجون حتى يعدّلوا القانون أو يضعوا
قانونا آخر لسدّ تلك الثغرة.
يموت المئات كل عام من المكسيكان،وهم يعبرون صحراء أريزونا بطريقة لاقانونيّة
هربا إلى أمريكا، يموتون من الحرّ والعطش.
قامت مجموعة من سكان أريزونا العام الماضي بالإحتجاج على تلك المأساة
الإنسانية. والغريب في الأمر، قد تجد البعض من أفراد تلك المجموعة، أنفسهم،
ضد استقطاب مهاجرين جدد. لكن هذا لايعني أن يُسمح بموت هؤلاء الفقراء
المظلومين بتلك الطريقة اللاإنسانية.
قامت تلك المجموعة باستقطاب الكثير من المتبرعين بوقتهم ومالهم، ولجألوا إلى
نصب صهاريج ماء عبر تلك الصحراء يقومون الآن على حراستها والتأكد من نظافتها
وجاهزيّتها باستمرار.
قال أحد المسؤوليين الأمريكيين مرّة:
America is great
because America is good, and whenever America ceases to be good it will
cease to be great.
أمريكا عظيمة لأنّها طيّبة وستفقد عظمتها عندما تفقد طيبتها.
متى تخرج علينا مجموعة من المواطنين القطريّين، أنفسهم، لتحتج على هذا الظلم
الذي يمارس على أرض بلادهم؟!!
لقد أعطاهم الله نفطا، لكنّه لم يعطهم الحق أن يستعبدوا المستضعفين من الناس!
متى يُتبِت هذا البلد الخليجي الجميل الغنيّ بنفطه والصغير بحجمه أنّه جميل
وغنيّ وكبير بإنسانه؟!!
***************
عندما ضاقت بي كلّ السبل للتعرف على المواطن القطري عن كثب، لم يبق أمامي سوى
وسائل الإعلام القطريّة المرئيّة منها والمقروءة.
معظم المحطّات التلفزيونية، ولم أكن قادرة على أن أميز القطرية منها من غير
القطرية، مستعمرة من قبل رجال الدين.
تطاردك لحاهم أينما هربت!
كلّ مشاكل البلد قادرون على حلّها!!! وبالتالي هم لايحلّون شيئا فعلى حدّ قول
المثل: مسبّع الكارات قليل البارات!
الواحد منهم ينتقل، وبرفّة جفن، من الحديث عن الحيض عند النساء.. إلى البنوك
والفوائد وحلالها وحرامها.. إلى تسونامي وأسبابه وطرق تلافيه. ويبدعون عندما
تسألهم عن القنبلة الذريّة الإسلاميّة وضرورة اقتنائها!
رجل الدين في بلادنا، حماه الله، كالخزف الصيني أينما نقرته يرن!!
يعرفون البيضة من باضها والفرخة من جابها!!
كلّ واحد منهم علاّمة، والأنكى كل واحد دكتور!
دكتور في ماذا؟
في
القرن الواحد والعشرين تتدكتر في شويّة خرابيش أكل الزمان عليها وشرب!
يركب الواحد منهم أحدث طيارات وسيارات الغرب ويظل يؤمن بأن الله سخّر له
الحمير والبغال ليركبها!
وإذا سحب الغرب طيّاراته وسيّاراته لن يجدوا حمارا أو بغلا في كل جزيرة العرب
ليركبوه!
في
هذا الزمن إذا توقّف الدكتورـ دكتور في أي حقل من حقول العلم والمعرفة ـ عن
تحديث معلوماته يوميّا سيصبح خلال ثلاثة اشهر على الأكثر من الغابرين!!
**************
أصغيت اليهم باهتمام. ليس أملا في اكتساب شيئا من المعرفة، بل رغبة في معرفة
الطريقة التي يفكرون بها!
يخيفك مدى جهلهم، ويخيفك أكثر مدى تغلغلهم داخل مجتمعاتهم.
لاتستطيع أن تُحدِث أي تغيير في تلك المجتمعات إلى من خلالهم، ويجب أن يكون
هذا التغيير وفقا لطريقة تفكيرهم.
أمام عينيّ وسمع أذنيّ، على حدّ تعبير جدتي، سأل المذيع أحدهم: ماجزاء الرجل
عندما يموت كافرا؟!
ولسنا هنا في سياق تعريف الكافر، لاأعتقد أن الأمر يخفى على أحد!
ويردّ شيخنا ـ قدّس الله روحه ـ : النار.. التي وقودها الناس والحجارة أعدت
للكافرين.
وإلى هنا يبدو الأمر عاديّا لاغرابة فيه!
ويتابع المذيع: ماذا بخصوص "العيّل"؟ ماالذي سيحلّ به إذا مات كافرا.
وبلا أدنى تفكير يردّ "قداسته": النار.. نعم النار فلو اراده الله سبحانه أن
يموت مؤمنا لأعطاه فرصة!
العيّل؟!!
ليتني استطيع أن أقابل ذلك الإله الذي يلقي عيّلا صغيرا في النار لأنه مات
على غير دينه، ليتني استطيع أن أقابله!
لا لشيء.. لا لشيء.. لا لشيء.. فقط لأبصق في وجهه!!
|