اقرأ المزيد...

 

د. وفاء سلطان

 

 

أقباط الخارج ينقذون أقباط الداخل..!

4/6/2006

لم نتقابل في مؤتمر واشنطن، لكنّنا تقابلنا في زوريخ..

لقد انهكت الستة وثمانون عاما جسده لكنّها اذكت روحه والهبت عقله..

دوى صوته في ارجاء قاعة الفندق التي استقبلتنا، نحن القادمين من كلّ حدب وصوب، دوى صوته وهو يفتح يديه ليعانقني: اهلا وفاء سلطان!

احسست بلهفة الأب التي افتقدتها عندما فارق والدي الحياة وانا في التاسعة من عمري، لأعيش تلك اللحظة فرحة الطفل الذي عاد الى حضن والده بعد غياب..

ـ كيف حالك يابنيّتي؟

ـ بخير وبشوق للقياك ياابتاه!

*************

غريب عجيب ذلك الصفاء الذي تلمسه في ذاكرته والنقاء الذي تستشفه في مخيلته.

يتحدّث لك عن بداياته في الثلاثينيات وكأنّه يقرأ من كتاب، لا يتجاوز سطرا ولا يسقط كلمة.

يروي لك تفاصيل الحدث ذاكرا التواريخ واسماء الأماكن والاشخاص بطريقة مثيرة للدهشة.

ثمانون عاما من تاريخ مصر المعاصر اختزلها الاستاذ عدلي اباديير، او كما يناديه الاخوة المصريون الباش مهندس، وقدمها لنا على طبق من بلّور.

تسأله عن سرّ ذاكرته المتّقدة فيرّد على الفور: إنّه الايمان.. الايمان بالقضيّة التي تعيش من اجلها!

ويتابع: في اللحظة التي قررت بها ان احمل قضيّة الاقباط على كتفيّ كشف الله بصيرتي فعادت اليّ روح الشباب.

عشت ولم ازل أعيش اطول بكثير ممّا توقعه لي الاطباء. لقد اجتمعت امراض الارض في جسدي

فأنهكت قواي البدنيّة لكنّها لم تستطع ان تنال من قوتي الروحيّة والعقليّة.

يروي لك تفاصيل حياته بكلّ اشكالها والوانها، ليلزمك وانت تصغي اليه بأن تتفاعل مع كلّ لحظة دون ارادتك.

تتوتر اعصابك ويرتفع ضغطك وهويصف لك حالة الظلم والفساد التي ضربت اطناب الحياة السياسيّة والاجتماعيّة منذ ان بدأت السعوديّة بتصدير ارهابها الوهّابي الى مصر.

عندما يدرك باحساسه المرهف انّه اثقل عليك بهموم شعبه يبدأ برشق النكت على الطريقة المصريّة، وبانسياب فكري لا يقلّ عذوبة عن العذوبة التي يروي لك بها آلامه واوجاعه.

ـ يا سيّدتي علّمتني الحياة ان اضحك عندما اتألم وقد يكون هذا سرا من الاسرار التي حافظت بها

على سلامة عقلي تحت ضغوط كافية لتحطيم أكبر العقول!

***************

الاقباط هم مسيحيّو مصر بل وسكانها الاصليّون. عاشوا في موطنهم الاصلي، مثلهم مثل كلّ الاقليّات مسلمة كانت ام غير مسلمة، مواطنين من الدرجة العاشرة.

عددهم، ورغم كلّ محاولات التشويه والتعتيم، يتجاوز العشرة مليون نسمة. وهو عدد لا يمكن ان يستهان به داخل بلد انهكه الفقر والجوع والظلم.

نجحوا في بلاد الغربة حيث فشلوا في بلادهم الأصليّة، وهذا ان دلّ على شيء انّما يدلّ على المعاملة

السيئة التي كانت السبب الرئيسي للتنكيل بهم وتهجيرهم. اوضاعهم ازدادت سوءا منذ بدء الزحف الوهابّي الاصولي من جارتهم السعودية الى ديارهم.

الوهابيّون، وكما يعرف الجميع، معروفون بالتكفير والدعوة الى قتل كلّ من يكفّرونه.

استباح هذا المدّ الارهابي حرماتهم فبدأ اتباعه بالتنكيل علنا، وبدعم وتجاهل مقصود من الحكومة المصريّة، بهم. حرموا من الوظائف الهامة في الجيش ومعظم دوائر الدولة.

هوجموا في قراهم الآمنة في الصعيد، حرقوا محاصيلهم ونهبوا ارزاقهم وهدموا بيوتهم وقتلوهم،

وظل الذين ارتكبوا تلك الجرائم بعيدا عن القضاء والعدالة.

والجريمة الأكثر قذارة التي ارتكبت بحقهم، قيام البعض، مدعوما من مصادر وهابيّة بالأموال والعتاد، بخطف بناتهم المراهقات واجبارهم على اعتناق الدين الاسلامي. تجاوزت تلك الظاهرة الحدّ الذي يمكن السكوت عليه في ايّ عرف او اخلاق.

لجوءهم الى السلطات المختصة لم يحل لهم مشكلة، بل كثيرا ما اتهمتهم تلك السلطات بأنهم اصل المشكلة.

حوصِروا داخل حدود وطن لا يرحم، وصار اضطهادهم اكبر من قدراتهم على تحمّله.

اقباط المهجر لم ينسوا اهلهم في الداخل، وسعوا بكلّ ما أُعْطوا من قوة، يدعمهم النجاح الذي حققوه في ارض المهجر، سعوا الى مساعدة اخوتهم المظلومين داخل الوطن ماديا ومعنويا.

لكن القضية لم تتبلور بالشكل الذي هي عليه الآن ولم تأخذ بعدا عالميا، إلاّ بعد ان قام رجل الاعمال الناجح والمعروف على مستوى سويسرا الاستاذ عدلي أبادير بجمع شمل اقباط المهجر وتوحيد جهودهم، ورفع مستوى قضيّة اقباط الداخل الى المستوى التي هي عليه الآن.

دعا حتى الآن الى عقد ثلاثة مؤتمرات، هدف من خلالها الى تعريف العالم بقضيّة شعبه. استقطب اليها الكثيرين من مفكريّ وكتاب العالم العربي من مسلمين وغير مسلمين، اضافة الى الكثيرين من بلدان اخرى اسلاميّة وغير اسلاميّة.

تعاطف معظم المدعوين مع القضيّة وابدوا رغبة واضحة وصادقة في مساعدة اخوتهم في الانسانيّة من اقباط الداخل.

ساهمت تلك المؤتمرات بالضغط على الحكومة المصرية لاعادة النظر في القضيّة القبطيّة.

ولكنّ الحكومة المصريّة، على غرار الحكومات الاخرى التي ابتلينا فيها في بلادنا العربيّة، لم تتعامل مع القضية إلاّ بالتماطل ومحاولة اضاعة الوقت لتمييع القضيّة.

حاول الاعلام المصري المتحدّث باسم الحكومة ان يهاجم اقباط الخارج ويتهمهم بالعمالة والخيانة، كعادتنا في الشرق التي نتعامل بها مع كلّ مطالب بحق.

كتبت صحيفة روز اليوسف في اعقاب مؤتمر زوريخ الاخير مقالا بعنوان: اقباط الخارج يحرقون اقباط الداخل.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي الرسالة الي يستشفها القارئ من خلال هذا العنوان؟

ببساطة:

اذا تحرّكتم في الخارج سنحرقهم في الداخل!

بالتهديد والوعيد والتحريض على القتل والكراهية والتكفير جرت العادة ان يقمعوا كل ظاهرة تتطالب بابسط الحقوق الانسانية. ولكن المهندس عدلي أبادير وصل الى نقطة في نضاله من اجل قضيته لم تعد تسمح له بالرجوع الى الوراء.

اكبرت به اصراره على متابعة المسير، اكبرت به ايمانه بالنصر لقضيته. رجل في السادسة والثمانين من عمره يشتغل ست عشر ساعة في اليوم فيختلط عنده الليل والنهار.

أكد لي مساعدوه الأربعة، وهم قبطيون في ريعان الشباب، بأنهم مرهقون تعبون من شدّة المسؤوليات التي وضعها على اكتافهم؛ هم يشكون وهو لا يشتكي، هم يتعبون وهو لا يعرف التعب.

ويبقى السؤال:

هل هو الايمان؟ هل هي الرغبة في رفع الظلم عن مظلوم؟ هل هو حبّ الوطن الذي لا يستطيع الوطن البديل ان يعوّضه؟

والجواب على الأغلب: إنّه تلك الامور مجتمعة!

الايمان بالقضية.. الرغبة في دفع الظلم.. حبّ الوطن...

***************

استمر المؤتمر ثلاثة ايام وكان في غاية التنظيم والدقة. تخللته كلمات المجتمعين التي تضمنت اقتراحاتهم وآراءهم وتضامنهم مع تلك القضية.

ظاهرتان اثارتا انتباهي، بل استغرابي واعجابي!

ظاهرة رجل الدين الشيعي السيّد ضياء الدين الموسوي، وظاهرة المرأة القبطية الشابة التي فرضت وجودها في المؤتمر بقوة وحضور لامثيل له.

لا يربطني برجال الدين المسلمين رابط، ولم اعتبر لهم وزنا في حياتي. باختصار، هم يختلفون عن رجال الاديان الاخرى بتعنتهم وغبائهم وجهلهم وجشعهم وتعصبهم الأعمي.

هذا هو رأيي ولا اتوقع يوما ان اغيّر هذا الرأي، ولكن لقائي مع الأخ الموسوي جاء ضدّ قناعاتي!

رجل في مقتبل العمر، لم يتجاوز بعد عامه الخامس والثلاثين، مفعم بالحيوية والنشاط. لم اختلف معه على شيء سوى اصراره على انّه رجل دين.

الغريب انني لم أرَ فيه شيئا مما رأيته في رجال دينه.

شاب منفتح العقل.. بهيّ الطلعة.. دائم الابتسام.. انيق المظهر.. تشعر وانت تتحدّث معه بأنك تتحدث مع فيلسوف اغريقي عمره قرنٌ من الزمن.

في خطبته، التي ابتعد بها عما الفناه من خطباء المساجد من تضليل وتدجيل، أعلن للجميع بأنه سيقاتل كلّ من يختلف معه بالحبّ، فهو لا يملك سلاحا غيره!

كان بودي ان اطرح عليه الكثير من الاسئلة، لكنّ وقتنا لم يسمح. غادرت سويسرا الى المانيا دون ان اودعه وسؤال يحيّرني: من اين تعلم الشيخ الموسوي ان يقاتل الآخر بالحب؟

هل تعلم ذلك من الآية التي تقول:

"فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى اذا اثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإما منّا بعد وإمّا فداء حتى تضع الحرب اوزارها..".

****************

لو يستطيع الانسان، ايّ انسان، ان يتعلم من تلك الآية كيف يقاتل الآخر بالحبّ لما احتجنا الى هذا المؤتمر ولما عانى الاقباط في مصر من الظلم والاضطهاد اللذين يتعرضون لهما.

كيف يتعلم الانسان الحب من تعاليم تحض على قطع رقبة الآخر وفصلها عن جسده؟

هذا ما لم استطع ان افهمه، وغادر الأخ الموسوي قبل ان يشرح لي مدى امكانية ذلك!

لا يراودني شكّ بأن الشيخ الموسوي قد استقى حبّه من منابع اخرى لم يبح لنا بها، وآمل ان التقي به يوما لأعرف منه عن كثب تلك المنابع الصافية التي تعلم منها كيف يقاتل من يختلف معه بالحبّ!

*************

الظاهرة الأخرى التي سرقت انتباهي ظاهرة الشابتين فيولا وباسنت اللتين لم تتجاوزا بعد ربيعهما العشرين.

طرحت كل منهما قضيتها بتفصيل مذهل وقوة حضور أخاذة.

تعود، وانت تصغي اليهما، لتقتنع بأنّها قوة الايمان.. الايمان بما تناضل من اجله!

والسيّدة هالة المصري المراسلة لموقع "الاقباط متحدون" التي تنقل لك الصورة من ارض الواقع. تدافع عن حقّها في الحياة وهي تعيش في قفص الاسد!

تعرف بأنّها ستعود غدا الى هناك، وتشرح لك مخاطر الامر بحذافيره:

أعرف انهم سينالون مني يوما لكنّ الانسان يعيش حياة واحدة ويموت مرّة واحدة!

هؤلاء نساء قضيّة، وايمانهم سيكون سرّ نجاح تلك القضية!

***************

لم ينجح المسلمون خلال اربعة عشر عاما في حلّ قضيّة واحدة من قضاياهم، لماذا؟

لأنهم لا يؤمنون بقضاياهم، ولأن اعتبارات اخرى تدفعهم للتظاهر بالدفاع عن قضيّة ما.

القضية الفلسطينية، اضرب مثلا، لو كان دفاعهم عن تلك القضية من وحي ايمانهم بحقوق الشعب الفلسطيني لاستطاعوا منذ زمن بعيد ان يصلوا الى حلّ عادل لتلك القضيّة. القضيّة الفلسطينيّة هنا ليست قضيّة ايمان، بل انها لقمة عيش يتصيّدها رجال دينهم وحكامهم، وليس من صالحهم حلّ تلك القضيّة كي لا يخسروا لقمتهم!

نجحوا فقط، بل وكانوا وحدهم في تاريخ العالم الذين نجحوا في هذا المضمار؛ نجحوا في ظاهرة "الانتحاريين"، لماذا؟

انّه الايمان ايضا.. الايمان بانّ الله قد اشترى منهم انفسهم فيقتلون او يقتلون!

القضيّة القبطيّة لا يمكن ان تموت لأنّها قضيّة ايمان، ايمان بحقوق مسلوبة وكرامة مهدورة. وفي تلك الحال لن يموت حق وراءه مطالب!

لا يعرفون العنف ولا توجد تلك الكلمة في قاموسهم. يختصرون لك ذلك القاموس بعبارة واحدة: الله محبة!

****************

تابعت بشغف ردود افعال القراء على فعاليات المؤتمر، تمحور اهتمام الغالبيّة حول سؤال: متى نصل الى مرحلة اخرى في نضالنا.. ومتى نتجاوز الخطابات والقرارات واللقاءات الى مرحلة الفعل؟!!

هذا سؤال جيد وجدير بالاجابة، ولا املك حياله الاّ ان اقول: في البدء كانت الكلمة، ولا يحلّ مشكلة الاقباط

إلا الكلمة!

زمن العنف قد ولى، والعالم اليوم معنيّ بقضايا الاقليات والاضطهاد الديني اكثر من اي وقت مضى.

هذه المؤتمرات هي الحل الوحيد والأكثر فعالية ولا بدّ ان تثمر يوما. من خلالها يتعرّف العالم المتمدن

على قضايا المظلومين ومن خلالها سيحصل الاقباط على حقوقهم مهما طال الزمن او بدا طويلا.

إنّ قضيّة عمرها مئات السنين لا تحلّ بين ليلة وضحاها.

غدا سيحمل الحل العادل وإنّ غدا لناظره قريب!

*************

في اليوم الأخير، وبعد عودتي من المانيا الى سويسرا، قابلت الاستاذ عدلي على باب القاعة نفسها التي استضافتنا.

عانقني وهو يجهش في البكاء:

أنا تعبان يا بنيتي، الاجل قد اقترب، تذكّري دائما انني سأترك لك قضيّة الاقباط وهي امانة في عنقك ومسؤوليّة القي بها على كتفيك لأنني اؤمن بقوة هاذين الكتفين!

عانقته وانا اقاوم دموعي:

ليست مهمة سهلة، لكنني اعدك بأن افعل كلّ ما باستطاعتي!

غادرت سويسرا وعلى كتفيّ يجلس عشرة مليون قبطيّ والى جانبهم كلّ مظلوم ومضطهد على سطح الارض!

غادرت سويسرا، ولساني حالي يتضرّع الى السماء:

ربي انا اليوم احمل حملا ثقيلا على ظهري فكيف امشي؟!!

ويأتيني صوته:

وأنا اليوم احملك على ظهري فلست بحاجة ان تمشي!

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها