اقرأ المزيد...

 

د. وفاء سلطان

 

 

صراع حضارات..؟!!!

2/15/2006

لقد خلا الجو للمسلمين في الأسابيع القليلة المنصرمة، ولأول مرّة في تاريخهم، ليكونوا وحدهم على خشبة المسرح الدولي يلعبون دورهم ويؤكدون طبيعتهم!

رسوم لفنان دانماركي كانت أدوات التجربة، وكان المسلمون وحدهم عناصر التجربة التي ترزح تحت عدسة المجهر الدولي.

كما يُسقِطُ أي عالم في مخبره نقطة من المضاد الحيوي على شريحة بكتيرية ليراقب حركاتها وارتكاساتها وتأثرها، قام رسام دانماركي باجراء التجربة على شريحة من المسلمين!

كانت النظريّة التي اراد ان "يبرهنها او ينفيها"  من جرّاء تلك التجربة تقول: المسلمون طيبون والإسلام دين سلام ولكن شرذمة من الإرهابين اختطفت هذا الدين المسامح وأساءت اليه!

لم تكن تلك الرسومات محض خيال، ولم تسرقها أنامل هذا الفنان من الفراغ، بل اعتمد في تشكيلها على معطيات!

عندما يرسم فنان زهرة أو ينحت آخر تمثالا.. او يكتب شاعر قصيدة يلعب الخيال دوره في العطاء ولكن يبقى للواقع الدور الأكبر!

لا يستطيع فنان في الأرض ان يتخيّل نبيا على شكل ملاك عندما يكبّر اتباعه باسمه وهم يقطعون رأس احد الرجال على مرأى من العالم. ولا يستطيع هذا الفنان ان يرسم ذلك النبي على شكل حمامة عندما يسمع برسالته التي تدعو الى قتل كل من لا يؤمن بتلك الرسالة!

الفنان الدانمركي، ووفقا لقيمه وعاداته وتقاليده وعقائده واصول تربيته، لا يستطيع ان يقرأ السيرة النبويّة في كتب المسلمين ويتصور نبيّهم بشكل آخر أفضل من الشكل الذي تخيله فيه.

لا يستطيع ان يقرأ عن غزواته ويقتنع بأنّه نبيّ!

لا يستطيع ان يقرأ عن غنائمه ويقتنع بأنه نبيّ!

لا يستطيع ان يقرأ عن علاقته بالنساء وخصوصا المسبيّات منهن ويقتنع بأنّه نبيّ!

لا يستطيع أن يقتنع بأن نبيا يحمل سيفا ويقطع رأسا.. لايستطيع ان يقتنع بأن نبيا يأمر باهانة انسان يعيش تحت كنفه لأنه لا يؤمن برسالته!

في الدانمارك قسم كبير من الضرائب التي يدفعها الدانماركيون يذهب الى مساعدة اللاجئين وأغلبهم من المسلمين!

بينما في كنف الاسلام على سكّان البلاد الأصليين غير المسلمين أن يدفعوا ضريبة للفاتحين من المسلمين.

عندما جلس هذا الفنان في مرسمه وراح ينبش ما في ثنايا دماغه من معطيات تراكمت خلال حياته علّه يستطيع أن يتصور من خلالها رسما لنبي الاسلام، تذكّر، اول ما تذكّر، بأن المسيح لم يحمل سيفا ولم يقم بغزوة واحدة. لم يقتل نملة ولم يغنم حبة واستطاع بكلمة واحدة وهي "المحبة" أن يصل برسالته الى شرق الأرض ومغربها.

يتبعه اليوم، على الأقل،  ضعف عدد اتباع نبي الاسلام الذي برر غزواته وغنائمه بالدفاع عن دينه. علما بأنه لم يتعرض للمظالم والاضطهاد  اللذين تعرض لهما المسيح.

تساءل هذا الفنّان في سرّه: لماذا احتاج محمد الى السيف واكتفى المسيح بالكلمة؟!!

اذا كان الله الذي ارسلهما هو نفسه لماذا اوحى الى احدهما بالمحبّة كوسيلة لنشر دين الله وأمر الثاني بأن يقاتل حتى يؤمن به كلّ الناس؟!!

لماذا غيّر هذا "الله" استراتيجيته؟!!

جاء نبيّ الاسلام ليتمم مكارم الأخلاق؟!!

عندما يتمم احدنا عملا يكون الجزء المتمّم ـ بكسر الميم ـ صورة طبق الاصل عن الجزء المتمّم ـ بفتح الميم ـ فكيف يتمّم السيف المحبّة؟!!

تلك مهزلة!

**************

لم يستطع الفنان الدانماركي ومن خلال المعطيات التي توفرت في حيّز  دماغه ان يخرج برسم لنبيّ الاسلام افضل من الرسم الذي خرج به.

الايدلوجيّة الغربية المعاصرة، والمستقاة في اصلها من الديانة المسيحيّة، تقوم على احترام الانسان بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه!

بينما الايدلوجية الاسلامية تقوم على "لا دين إلاّ الاسلام" وبالتالي لا انسان سوى المسلم!

كلّ نبيّ أتى الى عالمنا حمل معه رسالة تختلف، ولو قليلا، عن رسالات الانبياء الذين سبقوه، او بمعنى آخر حاول أن يغيّر شيئا.

عندما يقارن الانسان الغربي بين الطريقة التي غيّر بها المسيح والطريقة التي غيّر بها محمد، يصل الى قناعة مطلقة بأن هناك تناقضا بين الطريقتين.

المسيح قال لأتباعه: قالوا لكم العين بالعين والسن بالسن وأنا اقول لكم احبوا اعدائكم..

هو انتقل من اقصى اليمين الى اقصى اليسار دون أن يُسيء الى هذا اليمين ودون ان يكذب أهله!

لم يقل كذب الذين قالوا لكم العين بالعين والسن بالسن..

هو غيّر الأعراف والقيم والعادات السائدة، والتي تبلورت خلال الاف السنين قبل مجيئه، غيّرها بطريقة جدا عقلانيّة ومنطقيّة وأخلاقيّة دون ان يكذب احدا او يُسيء الى أحد!

قالوا لكم كذا وكذا وأنا اقول لكم كذا وكذا!

محمد جاء ليقول: كذب الذين قالوا كذا وكذا..

طريقة المسيح تنعكس على طريقة الغربي في الحوار حتى ولو لم يكن هذا الغربي قد يممّ وجهه شطر كنيسة في حياته.

عندما تحاور الأمريكي يصغي اليك بكل جوارحه منتظر دوره في الحديث ليبدأ قوله بـ:

I agree with you but…  أتفق معك ولكن...

مهما كانت درجة خلافه معك يبدأ حديثه بالقول: أتفق معك ولكن..، ثم يبدأ ابداء رأيه بطريقة غير تحريضيّة ولا مثيرة!

طريقة نبيّ الاسلام في ايصال رسالته تنعكس على طريقة حوار المسلم، حتى ولو لم يكن هذا المسلم قد يمم وجهه شطر مسجد في حياته!

مهما اتفقت معه في رأيه، يأخذ دائما موقع المدافع ويقول مقاطعا اياك: هذا الكلام ليس صحيحا!

في السنوات الأولى التي عشت خلالها في امريكا كنت، وكلّما اتصلت بشركة امريكية او مكتب طيران او أيّة دائرة للاستفسار عن شيء ما او حل معضلة ما، أفاجأُ بالشخص على الطرف الأخير يقول لي:

Why are you screaming? I haven’t said a word yet!

لماذا تصرخين في وجهي؟ لم اتفّوه بعد بكلمة واحدة!

وأرد بدون أدنى تفكير:

I am not screaming I am just trying to explain my point of view!

أنا لا اصرخ وانّما احاول ان اشرح لك وجهة نظري!

واكتشفت رويدا رويدا انني اعتمد الغزو، وكأيّ بني آدم تربّى في حظيرة الاسلام، كوسيلة للحوار!

استطعت، عندما رفعت مستوى وعي الى حدّ التفكير، أن اغيّر طريقتي في الحوار واعتمد اسلوب: قالوا لكم كذا وكذا وانا اقول لكم كذا وكذا!

*************

خوسيه شاب مكسيكي يشتغل في مكتب زوجي، وهو رجل بسيط، لا استطيع ان اتصور بأنه تجاوز في تعليمه المرحلة الابتدائيّة.

قال لزوجي مرّة: لماذا كلما زارك اصدقاؤك من العرب تتصارعون وتتنازعون وتختلفون فيما بينكم؟

وردّ زوجي مندهشا: نحن لا نختلف بل نتسامر! هل تفهم ياخوسيه مانقول؟

ـ طبعا لا! ولكنني اقرأ تعابيركم وحركات اياديكم واسمع صراخكم!!

*************

هل أحد منكم رأى مظاهرة باكستانيّة في سياق مظاهرات الاحتجاج على رسوم الفنان الدانماركي؟!!

هل أحد منكم رأى المظاهرة التي نظّمها بعض الدانماركيين وحملوا بها لوحات عليها اشارة السلام وتحتها عبارة: آسف؟!!

هل احد منكم قارن بين الطريقة التي يتحرك بها الباكستانيون والطريقة التي يسير بها الدانماركيون؟!!

من كان منكم قادرا على ان يرفع مستوى وعيه الى حد المقارنة سيعرف، خلال لحظة، أين تكمن المشكلة!

وسيعرف خلال لحظة، هل مايراه صراع حضارات أم صراع الهمجيّة مع الحضارة!!

*************

أشباح بشرية، بوجوه نحاسيّة سربلها الجوع والفقر والمرض والقهر واطراف هزيلة واسمال بالية قصيرة أكل الزمان من اطرافها، تتحرك بطريقة هستريائيّة وتقفز كالسعادين حول الاعلام المحترقة.

تنسى وانت تنظر اليها السبب المباشر لتلك الهستيريا الجماعيّة، وتتساءل عن اسباب تلك المأساة الانسانيّة!

مخلوقات تُثار بكبسة زر، لكنّها لا تثار بقرون من الظلم والفقر والمرض والقهر!

كقطيع الماشية يهستر، عندما يسمع ذئب يعوي من بعيد، وهو في طريقه الى المذبح!

هذا ماتشعر به وانت تراقب القطيع الباكستاني، لتنتقل الى مشهد آخر يصوّر لك الدانمركيين وهم يسيرون بصمت وهدوء، يحمل كل منه في يده شمعة وفي الأخرى لوحة كتب عليها:   Sorryأي آسف.

ترى بركات الخير تسربل وجهوهم المضاءة، وتلاحظ كيف تتحكّم العقلانية بخطواتهم. تقرأ صدقهم واسفهم، ليس في شموعهم ولوحاتهم وحسب، إنّما في تعابيرهم واتزان حركاتهم!

**************

قيل: لا يقرقع في الدست الاّ العظم!

متى يتساءل المسلمون لماذا يقرقعون؟!!

لم يبقى منهم تحت عدسة المجهر الدولي سوى هياكلهم!

ولم يبقى لديهم من تعاليم سوى: "حرّض على القتال"!

**************

ليت تلك التعاليم تشجعهم على الحوار بدلا من ان تحرّضهم على القتال!

هل هناك فرق بين التشجيع والتحريض؟!!

هل هناك فرق بين الحوار والقتال؟!!

الانسان ناتج تربوي.

هل يختلف الانسان الذي ينتج عن تربية حرضته على القتال عن الانسان الذي ينتج عن تربية شجعته على الحوار؟!!

من فيهما الاكثر عرضة للفقر والمرض والظلم؟!! من فيهما الأكثر قدرة على النجاح والانتاج والابداع والعطاء؟!!

قد تتلاقى الكلمتان، تحريض وتشجيع، مع بعضها البعض من خلال تعريف القاموس اللغوي لهما، لكنّهما تتباعدان في ميدان الاستعمال والتطبيق، وبالتالي تختلفان في وقعهما على النفس البشريّة.

ما الفرق بين أن تقول: شجّع ابنك على الدراسة، وبين ان تقول: حرّض ابنك على الدراسة؟!!

لا شكّ بأنّك ستلاحظ أنّ العبارة الاولى تؤدي الغرض المطلوب بطريقة أفضل، علما بأن حرّض وشجّع قد يعطيان نفس المعنى أي "حث"!

ما الفرق بين ان تقول: حرضّ فلان فلانا على الجريمة، وبين أن تقول: شجّع فلان فلانا  على الجريمة؟!!

لا شكّ بأنك ستلاحظ بأنّ العبارة الأولى تؤدي الغرض المطلوب بطريقة أفضل علما بأن حرض وشجّع قد يعطيان نفس المعنى أي "حثّ".

نميل لأن نقول: حرّض على القتال أكثر ممّا نميل لأن نقول: شجع على القتال!

ونميل لأن نقول: شجّع على الحوار أكثرممّا نميل لأن نقول: حرّض على الحوار!

إذاً وقع الكلمة في النفس يختلف بين "حرض" وبين "شجّع"!

عندما تسمع كلمة حرض يخطر ببالك أنّ شيئا سلبيّا سيأتي بعدها، وعندما تسمع كلمة شجّع يخطر ببالك على الفور بأن شيئا ايجابيا سيأتي بعدها.

كلا الكلمتين تعنيان "الحث" ولكن يتراءى للسامع بأن التشجيع يحُث على شيء ايجابي والتحريض يحّث على شيء سلبيّ.

للغة السلبّية آثار سلبيّة حتى عندما تستخدم لغرض ايجابي. وللغة الايجابيّة آثار ايجابيّة حتى عندما تستخدم لغرض سلبيّ.

لو قال محمد: شجّع على القتال. لكان تأثير عبارته أقل سلبا رغم ان الهدف كان برمّته سلبيّا.

ولو قلنا حرّض على الدراسة، لكان تأثير قولنا اقل ايجابية، رغم انّ الهدف كان برمّته ايجابيّا.

هذا من ناحية تأثير الطريقة التي تحثّ بها على الهدف، ما بالك بالأثر الذي يتركه الهدف نفسه من حيث كونه سلبيّا او ايجابيا!

*************

هذا من الناحية اللغويّة، فما بالك من الناحية النفسيّة والجسديّة؟!

عندما يحرّض الانسان على القتال تختلف ردّة فعله النفسي وبالتالي الجسدي عن ردّة فعله عندما يشجع على الحوار.

الانسان مجهّز بجهاز عصبي مسؤول عن فعله وعن ردّه لفعل ما.

أقول هنا: فعل وردّ فعل. دعني اضرب مثلا:

ارتضمت يدك صدفة بسطح ساخن. تقوم على الفور، وبدون تفكير، بسحب يدك.

الفعل الذي قمت به هو عبارة عن ردّ فعل للاحساس بالألم الناجم عن السخونة.

كيف يردّ الجهاز العصبي بتلك السرعة؟!

السيالة العصبية التي تنقل الاحساس بالسخونة تأخذ وقتا طويلا لو ارادت ان تصل الى الدماغ وتنتظر أمرا منه بردة الفعل. اختصارا للوقت، زوّدتنا الطبيعة بالنخاع الشوكي الذي هو اقرب من الدماغ وأوامره أقل تعقيدا وتصدر بطريقة تتجنب "تحليلات الدماغ" ان صح التعبير وذلك اختصارا للوقت.

عندما تصل تلك السيالة الى النخاع الشوكي يصدر امره: اسحب يدك بسرعة.

باختصار ردود فعل العضوية هي آلية دفاعية لحماية كينونة وبقاء تلك العضوية وتقوم بها عندما تشعر بالخطر.

من جهة اخرى: مالذي يمنعك ان تلمس سطحا ساخنا؟!

عندما تنظر الى سطح ساخن وتشعر بوهج حرارته. يصل احساسك عبر السيالة العصبية الى الدماغ ويبدأ هذا الدماغ بتحليل ودراسة النتائج التي يمكن ان تحدث اذا لمست هذا السطح ويصدر امره: لا تلمس هذا السطح.

من خلال هذا الشرح المبسط اريد ان اصل الى النقطة التي تقول: عندما سحبت يدك كنت قد رددت على فعل. وعندما رفضت ان تلمس السطح الساخن بعد ان شعرت بحرارته تكون قد قمت بفعل.

عندما فكّرت بالسخونة واعطيت لدماغك وقتا بالتفكير واتخاذ قرار بعدم لمس السطح كان فعلا نجم عن تحليلات ودراسات قامت بها القوى العليا الضابطة، ألا وهي الدماغ، في جهازك العصبي.

الدماغ أكثر تعقيدا في تحليل مايصل اليه من الاحساسات، وبالتالي أكثر دقة في ما يصدر عنه من اوامر.

تلعب تلك الأوامر الدور الأكبر والأهم في حياة العضوية وفي قدرتها على التكيّف مع محيطها والتفاعل مع هذا المحيط.

************

جهازنا العصبي يفرز، عندما يضعنا المحيط تحت تأثير منبه ما، سيالات وهرمونا تهيّئ جسدنا لإحدى حالتين: إمّا الهرب وإمّا المواجهة   Fight or Flightوفي كلا الحالتين نكون تحت تأثير ضغوط كبيرة.

على سبيل المثال لا الحصر: هرمون الأدرينالين الذي يفرزه الجهاز العصبي تحت تأثير "التحريض على القتال" يساهم في تقليص الأوعية الدموية التي تغذّي الجسد فتقل كمية الدماء التي تحملها تلك الأوعية الى انسجة الجسم المختلفة. يرتفع الضغط في تلك الأوعية نتيحة لتقلصها، ويضطّر القلب، ـ في محاولة لضخ الدم في تلك الأوعية الدموية المتقلصة ـ  إلى ان يزيد من عمله ويزيد من قوة تقلصه. الأمر الذي يؤدي، عندما يطول تأثيره، الى انهاك قدرة القلب والأوعية وعجزهما عن ارواء الانسجة الجسديّة بالدماء اللازمة لتغذيتها وسلامتها.

المسلم الذي يعيش حياته متأهبا لمواجهة الخطر الذي يهدد تعاليمه، وبالتالي وجوده وهويّته وكينونته، هو انسان مرهق مريض عاجز عن التفاعل مع محيطه وبالتالي عاقر لا ينجب خصبا ويموت من شدّة القحط!

بامكان أي انسان خبير بالعلوم الطبيّة ان يقدّر كمية الأدرينالين التي تأكل من جسد هذا الباكستاني "المعتّر" الذي يقفز كالشبح حول علم الدانمارك المحروق.

لو ساهمت تربيته في تشجيعه على الاسترخاء والسيطرة على مشاعره وردود افعاله لرأيته في حقله او مصنعه اكثر قدرة على الانتاج والعطاء، ولَما وقعت لقمته تحت رحمة الجبنة الدانماركيّة!

************

التحريض طريقة تربويّة تعتمد على الاثارة وبالتالي لا يعتمد الانسان الذي ينتج عن تلك التربية كثيرا على قواه العقليّة العليا الضابطة في اتخاذ قراراته.

والتشجيع طريقة تربوية تعتمد على التحليل وتعطي للدماغ الوقت الكافي لاتخاذ قرارته.

يعيش المسلم حياته محرضا منذ نعومة اظفاره، مثارا، مملوءاً بالخوف والرعب.

يرى في ظله اسدا يطارده فيقضي عمره هاربا من ظلّه. يشكّ في الهواء الذي يتنفسه، واذا أكل يتقاتل مع صحنه.

انتشِلْ طفلا باكستانيا من بيئته وابعده عن تعاليمه وشجّعه على ان يتفاعل مع محيطه بعفويّة وطمأنينة وسلام.

اقنعه بأن العالم المحيط به مسالم ويحبّه، علمّه كيف يتحاور مع ذلك العالم عندما يختلف معه، عندئذ سيخرج هذا الطفل الباكستاني منتجا مبدعا معطاءا قادراً على الحوار المتمدن بعفوية وتلقائية ودون الحاجة الى ان يحرق جهازه العصبي في اتون من نار!

***************

عندما تحرّض الانسان تضعه في موقع دفاعي، وبالتالي في حالة تأهب قصوى.

عندما يخاف من وحش لا يستطيع ان ينظر الا باتجاه ذلك الوحش، ولذلك تتحدد ساحة الرؤيا عنده ويركّز انتباهه باتجاه منبه قد يكون وهميّا.

يضيع وقته مفكرا كيف سيقاتل ذلك الوهم، وتقل قدرته على العطاء والانتاج والابداع.

يتقبل فقره وعجزه ويبررهما بضرورة الاستعداد للانقضاض على عدوّه.

عندما تصل بانسان الى تلك النقطة تكون قد سيطرت على عقله وجهازه العصبي كليّا.

تستطيع ان تلوح له بذلك المنبّه الوهمي متى شئت.

عندما يغيب المنبه عنه يخمد كالميّت، وعندما يظهر أمامه يهستر كالبقر المصاب بنوبة جنون.

***************

سقط المسلم ضحية لتربية تعتمد على التحريض كطريقة للوصول الى الهدف.

أوهمته تعاليمه بأنّه مهدد من قبل الذين لا يؤمنون بتلك التعاليم.

حددت ساحة بصره وجعلت القتال "ردّة الفعل الوحيدة" التي يستطيع ان يقوم بها لتجنب كل منبه!

لا يثيره الاّ المنبه الذي يصدر عن هؤلاء "الذين لا يؤمنون بتعاليمه"، ومهما كان نوع المنبه يرتكس بنفس الطريقة.

القمل الذي يرعى في رأسه لا يثيره!

الفقر الذي سلبه عزّة نفسه لا يثيره!

الجوع الذي انهك طاقته لا يثيره!

الظلم الذي انتهك انسانيّته لا يثيره!

الجهل الذي هبط بفكره وعقله لا يثيره!

تثيره فقط رسوم كاريكاتورية لفنان مغمور في صحيفة مغمورة!

لم يهدد وجوده وسلامته الفقر والجوع والظلم والجهل، بل هدد ذلك الوجود وتلك السلامة بعض رسوم!

لماذا؟

اذا اردت ان تحثّ الانسان ليثور على فقره وجوعه وظلمه وجهله يجب ان تعتمد في  تربيته على طريقة التشجيع وليس على طريقة التحريض!

يجب ان تشجّعه على الحوار والتحليل والتفاعل لا على الخوف والتأهب والقتال.

يجب ان ترفع من مستوى وعيه لكي تصل بهذا الوعي الى مستوى الدماغ، فتضمن بذلك ان يستغرق الوقت الكافي للتحليل والدراسة قبل ان يقوم بأي فعل او ردّة فعل.

الاسلام اعتمد على التحريض كوسيلة تربويّة وعلى القتال كوسيلة للحفاظ على الوجود.

ربط الاسلام بين تعاليمه وبين هذا الوجود!

الفقر لا يهدد الوجود!

الجوع لا يهدد الوجود!

المرض لا يهدد الوجود!

الظلم لا يهدد الوجود!

الجهل لا يهدد الوجود!

بل تكمن سلامة هذا الوجود في سلامة ذاك الدين!

ولذلك اي منبه يتراءى للمسلم بأنه يهدد تعاليمه يساهم في تحرضه.

استغل الحاكم في البلاد الاسلاميّة تلك الحقيقة بطريقة انتهازيّة رهيبة، واعتمد على رجل الدين في تحقيق مآربه.

كل الجرائم التي ارتكبها هذا الحاكم لم تحرك لدى المسلم ساكنا، وكان رجل الدين الأسبق الى تبريرها والتخفيف من حدّتها.

وكلّ منبه، مهما تضاءلت شدّته، يتحول في أيدي هذين الدجّالين الى زر يكبساه لاثارة تلك الآلة المبرمجة وتفريغ شحناتها!

رسوم الفنان الدانماركي كانت اللحظة المواتية التي اقتنصها الخبث المتأصل في رجل الدين يدعمه ويقويّه خبث الحاكم، ليحولاها معا الى منبه يحرف النظر الى الجهة المغايرة تماما لجهة الخطر الحقيقي. ذلك الخطر الذي يأتي من وجودهما وديمومة سلطتهما.

نجح الحاكم ورجل الدين في استغلال تلك اللحظة لصالحما. لم ينجم هذا النجاح عن ذكائهما وقوتهما، بل عن غباء وضعف الشعب الذي يرزح تحت نيرهما.

**************

قال وزير الأوقاف السوري السيّد زياد الايوبي في رده على جرائم حرق السفارات في دمشق بقوله:

كان الأمر احتجاجا شعبيّا وليس للحكومة دور فيه. فعلى مرأى من عينيّ حاولت سلطات الامن ان تمنع الجموع الزاحفة باتجاه السفارة ولكنها لم تستطع.

لم اجد في جعبتي اللغويّة عندما قرأت ما قاله، ورغم حرصي الشديد على كيفيّة استخدام اللغة، لم اجد من جميل القول سوى: قاتلك الله.. ما اشدّ نفاقك!

عندما يكون ولاؤك للحاكم اعلى من ولائك للحقيقة لا تستحقّ سوى اللعنة وخصوصا عندما تكون وزيرا باسم الله!

لقد استهتر هذا الوزير، ظلما ونفاقا، بعذابات الشعب السوري التي عاشها على مدى اربعة عقود.

لم تستطع قوات الامن أن تردع الجموع الزاحفة باتجاه السفارة، على ذمّة الوزير، والسؤال الذي اودّ ان اطرحه على سيادته:

هل ستستطيع تلك القوات ان تردع تلك الجموع لو توجّهت الى قصر الرئيس تطالب برغيف خبز نظيف؟!!

رسم كاريكاتوريّ، ياسيادة الوزير، جريمة لا تغتفر، وقتل شعب برمّته مسألة لا تستحق النظر؟!!

*************

النخبة "الليبراليّة" من  المسلمين ادّعت بأن ردّة الفعل كانت سياسة، وقد هيّجتها بعض الحكومات في الشرق الأوسط على غرار الحكومة السوريّة والايرانية لتحويل الانتباه من الازمات التي تعيشها تلك الحكومتين الى قضيّة اخرى، ومن ناحية اخرى لترسل رسالة قويّة الى الغرب كي يحسب حسابه عندما يفكّر بأيّ عمل عدواني ضدّ احدى الحكومتين.

هذا التبرير ينطوي على جزء كبير من الحقيقة لكنّه يتجاهل الجزء الأهم!

عندما تستطيع حكومة مفلسة سيّاسيا واخلاقيا أن تُثير شعبها وتخمده متى ارادت، يحتاج الأمر الى اعادة تأهيل ذاك الشعب!

 

الشعب الذي يرضخ تحت حكم يسلبه ابسط حقوقه ولا يثار، ثمّ تثيره بعض رسومات سمع عنها ولم يرها، هو شعب مغيّب عن الوعي ويحتاج الى جرعة دواء!

عندما يدوس الحاكم على رقبة المسلم، لا ضير في الأمربالنسبة له! فتعاليمه امرته ان يطيع وليّ أمره!

أمّا عندما يسمع برسومات اهانت تعاليمه، ياغيرته على الاسلام!

تلك حقيقة تعكس طبيعة تربيته التي برمجته ليثار ضد كل من لم يكن مسلما بشرّه وخيره، وليخمد في وجه كل من كان مسلما حتى ولو سرق رغيفه!

للحديث صلة!

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها