اقرأ المزيد...

 

د. وفاء سلطان

 

 

الوطن ليس أرضاً وذكريات.. بل هو الإنسان! (11)

1/26/2006

في النصف الثاني من المقال، تحدّثت السيدة الدكتورة موزة المالكي عن زوارها وباقات الزهور التي نثروها في الممر الممتد امام غرفتها.

في سياق حديثها، عرجت السيدة الدكتورة على منعطف في غاية الخطورة، قالت بالحرف الواحد:

من على فراش المرض كنت اطالع باقات الزهور التي اصطفت في كلّ مكان وكنت امزح رغما من الاوجاع في نفسي بمقارنة بين معنى باقة من الزهور في الغرب  وعندنا. فهم تعوّدوا ان يعلنوا حزنهم على متوفّي بتكديس الزهور على قبره حتى انها بحجم هذه الزهور وكمياتها يكون قدر المتوفي. فتشييع الموتى في الغرب بالزهور هي عادة متأصلة لديهم ولكن لدينا فإنّ الامر مختلف فالزهور للحياة ولانتصار الحياة على الموت.

**********

لقد ارتكبت السيدة الدكتورة خطأين كبيرين كافيين لقتل مصداقية أي كاتب يحترم نفسه وقلمه وقارئه.

لقد مدحت قومها بما ليس فيهم وطعنت بغيرهم بما ليس فيهم!

**********

متى يجب على القارئ ان يحترم رأي الكاتب؟!!

والجواب ببساطة عندما يكتب رأيا!

ماكتبته السيدة الدكتورة ليس  مجرّد رأي يجب علينا احترامه، إنّه معلومة خاطئة تسيء تربويا واخلاقيا الى الجيل الجديد من القراء الذي يفترض ان يصنع مستقبل الأمة!!

عندما يقول كاتب ما: أنا احبّ القطريين وأكره الفرنسيين!

هذا هو رأيه وعلى الجميع ان يحترموا هذا الرأي!

وعندما يقول: القطريون أفضل من الفرنسيين. يجب على القارئ ان يهضم، ولو بغصّة، رأي هذا الكاتب!! فلعلّ الكاتب وصل الى الاستنتاج من خلال قناعاته الشخصيّة ومفهومه "للأفضل"، وهذا حقّه!

ولكن عندما يتجاوز" هذا الكاتب" الحد ليقول: القطريون وصلوا الى المريخ، امّا الفرنسيّون فشعب متخلف للغاية! لا بدّ لكل قارئ عاقل من ان يطالبه بالبرهان. فالأمر لم يعد مجرد ابداء رأي، بل تجاوزه الى ادعاءات مُغرضة تستهتر بعقل القارئ كما تضر بمصداقيّة الكاتب!

المسلمون يعتبرون الأزهار رمزا للحياة ويحملونها كهدايا لمرضاهم احتفالا بحياتهم؟!!

هذا افتراء!!

الغربيون يتعاملون معها كرمز للموت ولا ينثرونها الاّ فوق القبور والجنازات؟!! هذا افتراء آخر!!

من اين استقت السيدة المختصة بالارشاد والعلاج النفسي تلك الحقائق؟!!

 

كم جنازة شيعت في الغرب؟ اين قرأت عن معنى الموت في قاموس الغربيين؟ هل زارت بلداً غربيّا؟ هل رأت زهوره المتناثرة هنا وهناك؟

لا ينتابي ادنى شكّ بأن تلك السيدة، كسيدة قطرية، قد زارت الغرب ورأت شوارعه وحدائقه وبساتينه وجباله وغاباته.

لو كتبت هذا الافتراء امرأة من صعيد مصر، مع احترامي لكل نساء مصر، أو من احدى القرى النائية في سوريا لغفرت لها. ولقلت في نفسي: العالم كلّه ينتهي عند حدود قرية تلك السيدة، فهي كتبت ذلك من وحي خيالها!

أما سيّدة قطرية، سمحت لها آبار النفط التي حفرتها الأيدي الغربية الساحرة في صحرائها، بأن تتغدّى في باريس وتتعشّى في كوبنهاكن، يحقّ لنا أن نشكّ بمصداقيتها!

تذكّرت عبارتها، وأنا احلّق في سماء مدينة كانساس ستي في ولاية ميزوري الأمريكيّة. نظرت من العلياء الى تلك الجنة، التي يصعب على الانسان أن يتخيّلها قبل أن يراها، وتساءلت: هل يعقل بأن هؤلاء المصممين المبدعين يعترفون بالموت؟!!

الانسان الذي يخلف ورائه هذا الابداع لا يموت ولا يعترف بالموت!

في شوارع كانساس ستي طاردتني عبارتها، وراحت تضرب على أعصابي بإلحاح!

تقول الإحصائيات بأن كنساس ستي هي ثاني مدينة في العالم، بعد روما، بعدد نوافيرها. لكنّني لا استطيع ان اتصوّر الاّ انها اول مدينة في العالم بجمال نوافيرها!!

لقد ابدع الانسان، كما ابدعت الطبيعة، في رسم ذلك الثوب القشيب!

الأزهار المحيطة بالنافورة ورقص المياه حولها يسحر لبّ الناظر، الذي يصعب عليه التمييز بين ما أبدعه الانسان وما أبدعته الطبيعة فيتساءل: هل النافورة من صنع الطبيعة أم تلك الأزهار من صنع الإنسان؟

إنّه تنافس بين الخالق والمخلوق!! لا يعرف الناظر الى لوحتهما من فيهما الأبدع!!

**********

كُتِبَ عليّ، وخلال تواجدي الطويل الأمد، في امريكا أن احضر جنازات كثيرة. جرت العادة هنا أن يتحدث أحد افراد عائلة الميت مرحبا بالحضور ومعددا بمناقبه.

في كلّ مرة، ويبدو أنّها عادة مستأصلة، يقول المتحدث: نحن هنا لا لنعلن موته، بل لنحتفل بحياته!

لطالما شدّتني تلك العبارة وأثارت دهشتي!

هم لا يعترفون بالموت، وعندما يموت أحد يتذكّرون حياته لا موته!

**********

من المناسبات التي تباع فيها الأزهار في امريكا، على سبيل المثال لا الحصر:

عيد الهالويين، عيد الجد والجدة، عيد الشكر، عيد الميلاد، أعياد الميلاد، عيد الحبّ، عيد الأب، عيد الفصح، اسبوع السكرتاريا، عيد القديس باتريك، عيد الأم، عيد الرابع من تموز، عيد الشهداء، الأعراس، ولادة طفل، احتفالات التخرج، الذكرى السنويّة، استقبال مسافر، شكر على معروف، تهنئة بانجاز.. .. وللمرضى كي تحمل لهم أملا بالشفاء، وفي الجنازات كي تذكّرهم بحياة الميت ومناقبه!!

لم يعد يفصلنا عن عيد الحبّ سوى بضعة ايام، واليكم، على سبيل المتعة والمنفعة، بعض الاحصائيّات بخصوص تلك المناسبة:

يتوقع الخبراء في شركة  UPS ، أكبر شركة للنقل في أمريكا، بأن يقوموا خلال تلك الفترة بنقل حوالي 7 مليون باوند من الأزهار وبقيمة 49 مليون دولار من دولتي الإكوادور وكولومبيا ـ ناهيك عن الأزهار المنتجة محليّا أوالمستوردة من دول اخرى ـ وسيتم النقل بطائرات مزوّدة بدرجة حرارة ثابتة ومناسبة ومضبوطة. وعند وصول تلك الأزهار المستوردة يتمّ تصنيفها حسب البلد المنتج.

يباع عادة وبمناسبة عيد الحبّ حوالي 150 مليون وردة، ناهيك عن الأزهار الأخرى!

ولا ينتهي الأمر هنا، فالأمريكييون يصرفون ملايين الدولارات على الأبحاث والدرسات التي تجري في مخابر الطبّ النفسي لدراسة تأثير الأزهار على الوضع النفسي والسلوك البشري.

نُشر حديثا مقال في صحيفة:The Journal of Evolutionary Psychology  بعنوان:

An environmental approach to positive emotions: Flowers.

 "الأزهار: وسيلة بيئيّة لخلق مشاعر ايجابيّة".

تناول المقال البحوث الثلاثة التي قامت بها الدكتورة جانييت جونس في جامعة Rutgers حول تأثير الأزهار. ذكر في أحد جوانبه:

للأزهار تأثير سريع وطويل الأمد على الإرتكاسات العاطفيّة والمزاج والسلوك الاجتماعي وقوّة الذاكرة، وذلك في الرجال والنساء على حدّ سواء. ونقلا عن السيدة العالمة جونس قال المقال:

تقوم الأزهار بتخفيف حدّة الكآبة وتنشّط الذاكرة وتحفّز على النشاطات الاجتماعية.

كما وتؤكد دراسة عمرها ثمانية أشهر، قام بها العالم الأمريكي Roger Ulrich مستعينا بجهود فريقه في جامعة A&M في ولاية تكساس، على أنّ البيئة المحاطة بالأزهار والنباتات تلعب دورا كبيرا في نجاح الأعمال التي تنجز في تلك البيئة. فالعمل بالقرب من الأزهار يرفع لدى العامل مستوى الإبداع ومستوى القدرة على حلّ المعضلات والمشاكل التي تعترض سير العمل.

**********

هذا مايؤكّد عليه علماء الغرب، الذين وعلى ذمّة السيّدة الدكتورة موزة المالكي، لا يعرفون الأزهار إلاّ في الجنازات. تعالوا نطّلع على مايؤكده سماحة "العلماء" في بلدان السيّدة الدكتورة!

اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلميّة والإفتاء الممثّلة بأعضائها الثلاثة:

العالم بكر بن عبد الله ابو زيد، والعالم صالح بن فوزان الفوزان، والعالم عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ، من المملة العربيّة السعوديّة على ماورد الى سماحة المفتي العام من المستفتي/محمد بن عبد الرحمن العمر والمحال الى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبّار العلماء برقم (1339) وتاريخ 3/3/1421هـ ولقد سأل المستفتي سؤالا هذا نصّه:

انتشرت في بعض المستشفيات محلات بيع الزهور واصبحنا نرى بعض الزوار يصطحبون باقات الورود للمزورين فما حكم ذلك؟

وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بما يلي:

ليس من هدى المسلمين على مرّ القرون اهداء الزهور الطبيعيّة او المصنوعة للمرضى في المستشفيات او غيرها، وانّما هذه عادة وافدة من بلاد الكفر نقلها بعض المتأثرين بهم من ضعاف الإيمان. والحقيقة ان هذه الزهور لاتنفع المزور بل هي محض تقليد وتشبّه بالكفّار لاغيره. وفيها ايضا انفاق للمال في غير مستحقّه، وخشية من تجر اليه من الاعتقاد الفاسد بتلك الزهور من انها من اسباب الشفاء، وبناء على ذلك فلا يجوز التعامل بالزهور.


Open Larger Verson of this Image in a New Window
Download the image by right clicking on the link above...then choose Save Target As

*********

لماذا اجازت السيّدة الدكتورة لزوّارها ان يحملوا لها باقات الزهور، التي تناثرت بجنون حول غرفتها، ولماذا لم تلتزم بشريعتها وفتاوى علمائها؟!!

أليس هو الغرب الكافر الذي علّمها التعامل بالأزهار؟!!

كم نوعا من الأزهار عرفت قطر قبل ان تمتدّ اليها الأيدي الغربيّة الساحرة؟!!

وكيف كان القطريون يروون "حدائقهم المعلّقة" قبل ان يقوم الغربيون بتحلية مياه البحر وحفر آبار لمياه الشرب في بلادهم؟!!

ألم يكن تاريخهم مليئا بالغزو والصراع على الكلأ والملأ التي افتقرت اليهما صحرائهم؟!!

متى كانوا يقيمون وزنا للحياة، طالما اشترى الله منهم حياتهم مقابل جنة مليئة بالأزهار؟!!

هل تعرف أمّ، تزغرد عندما يفجّر ابنها نفسه في حافلة للركاب، معنى الحياة؟!!

هل يعرف شيخ، يفتي بالانتحار انفجارا وسط رهط من الأطفال، معنى الحياة!!

هل يفهم عالم، استنتج من خلال "دراساته وابحاثه" بأنّ حمل الأزهار للمرضى تشبّه بالكفار، معنى الحياة؟!!

هل يقدّر كاتب، يخلط الحقائق ويقلبها رأسا على عقب، قيمة الحياة؟!!

لا فرق، ياسيّدتي، بين كاتب يقول: القطريون وصلوا الى القمر أمّا الفرنسيّون فهم شعب متخلف للغاية، وبين آخر يقول: الأزهار عند المسلمين ترمز الى الحياة وعند الغربيين ترمز الى الموت.

كلاهما مفتريان!!!!

**********

لماذا يكذب الانسان؟

يكذب الانسان عندما يخاف! والخوف هو السبب الرئيسي، ان لم يكن الوحيد، الذي يكمن وراء الكذب.

يتراءى للانسان الضعيف بأن الكذب اسهل من الصدق. فهو يجنّبه مواجهة حقائق يخاف من أن تؤلمه.

قد يكون هذا صحيحا في البداية! ولكن مع الوقت يتحول الكذب الى سلسلة تقود كل حلقة فيها الى حلقة اخرى، وتصبح عندها مهمّة الكذاب عندما سيقول شيئا ان يغطي ماقاله سابقا!

يؤكّد تلك الحقيقة المثل الافريقي الذي يقول: على الكذّاب ان يتمتع بذاكرة قويّة!

على العكس من ذلك، يبدو الصدق في البداية صعبا للغاية اذ يواجه صاحبه جملة من الحقائق التي قد يؤلمه قولها.  ولكن مع مرور الوقت تسهل المهمة ويبقى قوله للحق تلقائيا اذ لم يعد لديه شيء يخاف منه كي يخفيه.

ليست الدكتورة المالكي الوحيدة بين الكتّاب العرب التي لجأت الى الكذب كي تتجنب مخاوفها!

فلقد جرت العادة ان يختم الكثيرون من الكتّاب العرب مقالاتهم بعبارة يطعنون بها بالغرب بشكل او بآخر، حتى ولو كانوا في سياق حديثهم عن شعراء الجاهلية!!

والسؤال لماذا يلجأون الى هذا الاسلوب؟!

يطلقون على تلك الظاهرة في علم النفس الاجتماعي Social conformity أي خاصيّة الانصياع.

يميل الانسان الى الانصياع لما يؤمن به المجتمع ككلّ، حتى ولو لم يكن مقتنعا به، خوفا من يرفضه هذا المجتمع. وتزداد تلك الخاصية او تخف حسب درجة الحريّة المتاحة للانسان في ذلك المجتمع وحسب قوة شخصيّة ذلك الانسان وثقته بنفسه.

هذه الخاصيّة سيف ذو حدّين. فهي في الوقت الذي تحافظ فيه على كيان المجتمع من الانحلال،  تقتل، ان زادت عن حدّها، قدرة الفرد على الابداع.

فالابداع، باختصار، خروج عن الانصياع للتيار!

الحديث عن قمع الحريات الشخصية، وبالتالي عدم تأهيل الانسان ليثق بنفسه ويبدع، في البلاد الاسلاميّة لا يحتاج الى برهان! فالسيل قد بلغ الزبى!!

لذلك في تلك البلاد تزداد خاصية الانصياع عند الانسان حدّة. فالقمع يشلّ كل قواه ويحوّله الى مجرّد سمكة ميتة يجرفها التيّار!!

السيّدة الدكتورة المالكي، وعلى خطى معظم الكتّاب في عالمنا الاسلامي، كتبت عن الارهاب ونددت به.

في عقلها الباطني، كما في عقولهم، تكمن الفكرة التي تقول التنديد بالارهاب مطلب غربي. وهي، خوفا من ان تفقد قدرتها على الانصياع، تسعى الى شجب الغرب بشكل او بآخر لكي تثبت لقارئها بأنها لم تكن تقصد عندما نددت بالارهاب أنّها مع الغرب!!

حاولت ان ترضي التيّار العام ولكنها وقعت بما خافت منه!

ادعت بأن الأزهار رمز للحياة حسب أعراف بلادها، وبأنها رمز للموت في بلاد الغرب. لم تكن غايتها من جرّاء هذا الادعاء سوى أن تثبت للتيار العام بأنها معه في كره للغرب حتّى ولو نددت بالارهاب!!

حاولت ان ترضي التيار العام فخرج عليها "علماء" هذا التيار ليكفرونها ويتهمونها بالتشبه بالكفار!!

**********

ذكّرني الحديث عن خاصيّة الانصياع بمناسبة اجتماعيّة حدثت مؤخرا، التقيت خلالها برجل دين درزي. بدا هذا الرجل هادئا رزينا، مثقفا وواسع الاطلاع.

تطرّق اثناء الحديث معي الى مقالاتي، اثنى عليها ولكن بتحفّظ واحتراس!

لم أُفاجَأ، فأنا افهم موقفه وأقدّر صعوبات ذلك الموقف.

في سياق الحديث قلت له: لديّ سؤال اودّ ان اطرحه عليك، وآمل ان لا تمانع في طرحه وأن تكون صريحا في الاجابة!

رحب بالسؤال مبتسما، ولكن بحذر، وكأنه يخشى أن انصب له مصيدة، هو في غنى عن الوقوع بها.

قلت: يصنّف التيار العام دائما الدروز في خانة المسلمين، هل هم حقيقة طائفة اسلامية؟!!

ردّ على الفور وبثبات: لا..لا.. على الاطلاق! فالدروز لا علاقة لهم بالاسلام من بعيد أو من قريب!

قلت: ولكن لماذا تحشرون انفسكم في حظيرتهم!

فابتسم وتابع: انها سياسة المألوف ياسيدتي!!

سياسة المألوف؟!!

أعجبتني تلك التسمية أكثر من "خاصيّة الانصياع"!

لقد وصل هذا الشيخ الى ماتوصل اليه علماء الغرب حول "خاصية الانصياع" دون دراسات او بحوث او مخابر او علماء.

توصّل اليها من خلال خبرته بالحياة، ومن خلال قسوة الحياة في مجتمع لا يعترف بحقّك بأن تكون من تريد ان تكون، وبأن تعبد من تريد ان تعبد حتى ولو كان الشيطان!

هل الوم الدروز عندما يحشرون انفسهم في خانة المسلمين رغم انّهم ابعد مايكونون عن الاسلام؟!!

لست متأكدة من ذلك! فالسمكة لا تستطيع، في معظم الأحيان، ان تعاند التيّار! وخصوصا عندما تكون ضعيفة ويكون هذا التيار جارفا بلا رحمة!

هل استطيع ان الوم السيّدة المالكي لأنها تلعب دور السمكة الميّتة؟!!

طبعا استطيع!!

فالأمر هنا يختلف؟

الشيخ الدرزي يعرف طبيعة تعاليمهم، ولا يخشى على اتباعه من ان يذوبوا في التيار العام، حتّى ولو تظاهروا تحت سياط هذا التيار بأنهم جزء منه!

قد لا ارضى عن هذا الموقف، لكنني استطيع ان اتفهمه!

لكنّ السيّدة المالكي تستطيع ان تلعب، ككاتبة ومختصة في علم الارشاد والعلاج النفسي لها وزنها ومصداقيتها، دورا كبيرا في اعادة بلورة المجتمع وتحديثه.

وتستطيع، من خلال انتمائها الى الأكثريّة المسيطرة، ان تلعب دورا في رفع مستوى الوعي عند تلك الأكثرية وبالتالي عند كل الأقليّات التي تنضم تحت لوائها!

وبرفعها لمستوى ذلك الوعي تخفّف من ظلم الأكثرية وتزيد من حريات الأقليات المقموعة.

لكنها، وللأسف، اختارت ان تلعب دورا السمكة الميتة، التي لم يجرفها التيار وحسب، بل شوّه معالمها وخرّب جمالها!

لقد فقدت تلك السيّدة، على الأقل بالنسبة لي، قدرتها على ان تكون امّا ومربيّة عندما اختارت أن تكذب على ابنائها!

العبارات التي كتبتها السيّدة المالكي تتسلل خلسة الى اللاوعي عند الجيل الشاب من القراء وتستقر هناك لتشكل بمرور الزمن، وبالانضمام الى مثيلاتها ممّا تزخر به كتبنا واعلامنا المقروء والمسموع والمرئي، لتشكّل حاجزا يحول دون اقامة علاقات سليمة وطبيعية مع الغرب الذي اصبح مسؤولا حتّى عن الهواء الذي نتنفسه في عالمنا الاسلامي.

هذا النمط من الكتابات، لا يصدر إلاّ عن لسان داشر، لسان يرفض أن يتحمل أدنى  حدّ من المسؤولية! 

ساهم ذلك اللسان الداشر، ولم يزل يساهم، في خلق هؤلاء الارهابيين الذين روّعوا العالم كما روّعوها!

*********

النمط التربوي المتبع في بلادنا يقيّم الفرد من خلال درجة انصياعه للتيار العام.

يصنّفه في خانتين إمّا وطني وإما صهيوني غربي متأمرك، ومستوى الانصياع يتراوح بين تلك الحالتين.

أي كلمة يتفوه بها انسان لا توافق الذوق العام تكفي لتصنيفه في خانة "عميل"!

وراح الناس يزاودون على بعضهم بمقدار "وطنيّتهم"!

هذا الاسلوب قولب الناس وجعلهم كالآلات المبرمجة التي لا تعي ماتقول ولكنها تلتزم بما ’برمجت عليه.

اذا سألت مسؤولاً سورياً في وزارة الكهرباء عن اسباب انقطاع التيار الكهربائي، يجيب: علينا ان نقطع دابر الاستعمار والصهيونية!

واذا سألت مسؤولا في وزارة سدّ الفرات عن رأيه بالأراضي الزراعيّة التي حوّلها الطمي الى اراضي مالحة لا تصلح للزراعة، يجيب: سدّ الفرات من منجزات الحركة التصحيحة التي قام بها سيادة الرئيس حافظ الأسد أدامه الله! وهلمّ جرى..!

********

عندما كنت طالبة في السنة الثالثة بكليّة الطب جامعة حلب. قمت بتدريس مادة العلوم الطبيعية في إحدى اعداديّات المدينة.

نظرا لنقص في الكادر التدريسي لتلك المادة كانت المديريّة تسمح لطلاب الطب بتدريسها. كنت يومها شابة مفعمة بالحماسة الوطنية والرغبة في العطاء.

في إحدى المرات تفاجأت بمفتش لتلك المادة يزور المدرسة موفدا من مديريّة التربية والتعليم.

قرر السيّد المفتش ان يزور صفيّ ويقيّمني كمدرسة!

كان الدرس عن الجهاز الهضمي عند الانسان. وكنت، كالعادة، قد جلبت معي كل الرسوم التوضيحية التي تلزم للشرح، وبدأت بصوت جهوري تدعمه ثقة عالية بالنفس وبالقدرة على العطاء.

خلال الدقائق الأولى هبّت عاصفة في الخارج ودفعت نافذة الصف فتسببت في فتحها وكسر زجاجها. نجم عن الحادث صوت قويّ، فقفزت الطالبات على الفور وهممن بالهروب.

وفي محاولة لضبط الوضع، صحت بهن: عدن الى مقاعدكنّ! الأمر لا يحتاج الى تلك الفوضى! ماذا ستفعلن لو تتطلب الأمر ان تكنّ على الجبهة الأولى في مواجهة عدونا الصهيوني الشرس؟!

ثم تابعت شرح الدرس بعد ان استغليّت الموقف لازاود بقليل من "وطنيّتي" امام المفتش!

في نهاية الدوام اجتمعت بنا مديرة المدرسة لتطلعنا على نتائج تقييم السيّد المفتش.

كانت خيبتي كبيرة عندما كتب في حقل تقييمه لي: لابأس! معلوماتها غزيرة وتستطيع ايصالها بوضوح، ولكنّها ضعيفة في التوجيه القومي والوطني!

ضعيفة بالتوجيه القومي والوطني؟!!

وما علاقة التوجيه القومي والوطني بالجهاز الهضمي عند الإنسان؟!!

ربّما اعتقد السيّد المفتش أنه جزء مهم يكمن بين الفم والشرج!

لقد حاولت ان ازاود عليه فتفوّق عليّ بالمزاودة!

*********

كان مقال السيّدة الدكتور موزة المالكي آخر قشّة قطريّة ساهمت في قصم ظهري!

حملت حقائبي وتوجهت الى المطار. لم يكن فرحي عندما غادرت ذلك البلد الصغير والجميل أقل من فرحي عندما دخلته!

غادرته دون أن اعانق "برتقالا" احتراما للاصول العربية في التعامل مع الخدم!

لم احمل في حقائبي من ذكريات سوى حفنة البن الاثيوبي التي كنت قد سرقتها من وجهها الافريقي الجميل!

كانت السيّدة غارسيّا قد سبقتني الى بيتي حيث اعيش. قبّلتها ثم قبلت عتبة البيت، وأنا ادندن:

سقف بيتي حديد..

ركن بيتي حجر..

فاعصفي يارياح..

وانتحب يا شجر..

لست أخشى المطر..

البيت ليس حيث ولدت وحيث لي ذكريات.. البيت حيث أعيش بأمان عيشة تليق بالانسان!

*********

للحديث صلة.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها